أسرار الحكواتي

يستقصي جماليات التلقي واستنطاق الفرجات الشعبية المغربية

عبدالحق ميفراني


ينبع الوازع النقدي إلى استنطاق النصوص الشعبية المتمثلة في "حلقة السير الشعبية"، وإبراز الدور المركزي الذي يلعبه المتلقي، خيطاً ناظماً لقراءة كتاب الباحث أسامة خضراوي "أسرار الحكواتي: جماليات الحكي وذخائر السير الشعبية"، والصادر عن منشورات معهد الشارقة للتراث في طبعة أولى السنة المنصرمة، جهد معرفي يسعى إلى "تقديم صورة مبسطة لأحد تجليات جمالية التلقي لهانس روبر ياوس، وإسقاطها على ثنايا الأدب الشعبي، المتمثل في حلقة السير الشعبية التي تمثل مرآة تعكس واقع الشعوب".
 

وينطلق هذا الجهد، تحديداً، من دراسة مفاهيمية للأدب الشعبي (المصطلح والدلالة) وموضوعاته، كي يعرج على مقاربة الحلقة، بصفتها شكلًا من أشكال الفرجة الشعبية، من خلال تحديد أبعادها الفرجوية وأدبياتها وجماليات الحكي، مع التوقف عند صانع الفرجة بامتياز "الحلايقي" (الحكواتي) وسردياته. ليتم الانتقال إلى جمالية التلقي، من إرهاصاتها الفلسفية وضبط لمفاهيمها، انتهاء بمقاربة التلقي في الفرجة الشعبية وتجلياته السيكولوجية ودلالات الإبلاغ ومظاهرها القيمية. إن محاولة النبش في الذاكرة الشعبية، واستجلاء مظاهر التلقي فيها، يطرح الكثير من الأسئلة على مستويات التحليل والتحديد المنهجي، على ضوء ما تحقق اليوم من دراسات وأبحاث حديثة.

اختار الباحث أسامة خضراوي، تبويباً خاصاً لكتابه "أسرار الحكواتي: جماليات الحكي وذخائر السير الشعبية"، عبر التركيز أولا على مفهوم الأدب الشعبي، ثم الانتقال إلى فضاء الفرجة (الحلقة) ليحدد بعدها استراتيجيات التلقي ودلالاتها. هذا الانتقال الواعي، يربط مفهوم الثقافة الشعبية ووظيفتها في خلق الوعي الجمعي، مع التمييز بين الفلوكلور والأدب الشعبي وإبراز خصوصياتهما، وضمن فضاء الحلقة (الفضاء الفرجوي)، والذي يحدد من خلاله عملياً تصريف لهذه الوظيفة، وممارستها ضمن ما يضطلع به الحكواتي (الحلايقي)، الحامل للفرجة ومؤديها في علاقته بجمهوره، داخل أنظمة وميكانيزمات الإبلاغ والتلقي.

إن التلقي في الفرجات الشعبية، بالجمع نظراً لتعدد هذه الفرجات وخضوعها عملياً لأنماط متعددة من جماليات التلقي، يطرح مجهوداً مضاعفاً في قراءة وتبيان عناصر التأثير في المتلقي (الجمهور)، إلى جانب وظيفة الحكواتي المركزية، في ضلوعه المباشر بصفته حاملًا للحكي، وأيضاً لأنه الوسيط الفعلي للفرجة والمتحكم في دواليبها ومخرجها وممثلها، بل يصل إلى درجة "التحكم المباشر" في قدرته على "التنويع"، وفرض "سلطة التلقي وجماليته". ونظراً لهذه الخصوصية، الناظمة للبنية الداخلية للمحكي الشعبي والفرجات الشعبية عموماً؛ فإن هذا الزخم والثراء الذي تعرفه السير الشعبية قد يفيدنا، اليوم، في إعادة تعريف الثقافة الشعبية، على ضوء ما تحقق من اجتهادات وبحوث وانفتاح الثقافة العالمة ودارسيها.

إن اختيار الباحث لفضاء الحلقة، خصوصاً ضمن مجالات الثقافة الشعبية المغربية، له ما يبرره. فضاء الحلقة "أصيل في الثقافة الشعبية المغربية؛ ولم تكن مدينة عتيقة في المغرب تخلو من ساحة عمومية يبدع فيها الحلايقية وهم يقدمون أجناساً وأنواعاً من الإبداعات الثقافية المغربية". لكن، يبدو أن الوازع "الذاتي" للباحث ارتبط بـ"المرجعي النظري النقدي"، خصوصاً جمالية التلقي، ولم يكن يرتبط في الأصل بفضاء الفرجة السحري "جامع الفنا بمراكش" أو أي ساحات للفرجة المغربية. تبدو المعرفة النقدية سباقة، ذاتياً وموضوعياً، عن حقل ومجال الاشتغال النظري، وهذا "الطرس" البليغ كاف لاستخلاص بعض من مداخل القراءة في الكتاب.

إن جماليات "الحكي" و"ذخائر" هذه السير الشعبية، جعل الباحث يفتتح كتابه "أسرار الحكواتي: جماليات الحكي وذخائر السير الشعبية"، بمحاولة تفكيك مفهوم الثقافة الشعبية، ضمن مدخل سعى إلى الاقتراب من الاجتهادات الأنتروبولوجية في هذا المجال، وأيضاً استشعاراً بضرورة تبني الدراسة العلمية عن التراث الشعبي من كل جوانبه، بما فيه محاولة "فهم ووصف الحياة والعالم". ولعل هذا الحضور اللافت اليوم، للدراسات الشعبية والاهتمام بها كعلم من العلوم الإنسانية، بل أضحت الدعوة إلى "تنظير مناهجها" في محاولة للكشف عن "هذا الهيكل العام" للتراث الشعبي، مطلباً معرفياً قائماً على الارتباط الوثيق بين التراث الشعبي والوعي الجمعي الإنساني.

يتجه أحياناً باب المقاربة، إلى ما يمكن أن نسمه بـ"أسطرة هذه الثقافة الشعبية"، من خلاله جعلها نواة متفردة للكشف عن الوعي الشعبي، بل تصل أحياناً صيغ الاستنتاجات إلى محاولة ربط الأدب الشعبي بـ"الشعب"، في إحالة إلى هذا الانغراس الوجداني، لكن مع الاحتراز هنا أن فعل الملاءمة والتركيز على مرآوية الهوية والربط بـ"التراث". أما بالنسبة للسيرة الشعبية، والتي يضعها الباحث كنوع من أنواع الأدب العربي، فالتركيز على خاصيتها الدرامية وبعدها الأجناسي النثري جعلها تبتعد عن الملحمي، لكن دون أن ننفي عنها هذه الخاصية الشعرية في بعض متونها، إلى جانب أنها تختزن في ثناياها "كنزاً قيمياً وأخلاقياً وبطولياً، يتجذر في المخيال التاريخي والاجتماعي.. المتعالي على الطبيعة الذاتية للجمهور" [ص: 375].

يركز الباحث أسامة خضراوي على "ضرورة انفتاح النقد العربي على نظرية التلقي.. وتجديد المفاهيم والتصورات، وتطوير الآليات والأدوات (...) مما يستدعي فهماً عميقاً وسؤالًا دقيقاً عن الأبعاد الابستيمولوجية والسوسيولوجية والسياقات الثقافية لنظرية التلقي" [ص: 374]. وكون الفرجة الشعبية "ظاهرة إنسانية لها خصوصياتها وأعرافها وتقاليدها، والتي تجعل منها ظاهرة متشعبة ومنغمسة بالمعاني والرموز والدلالات"، فهذا يدفع في اتجاه أن تصوغ اجتهادات الباحثين والنقاد منظورات مختلفة، ضمن سياق ما تطرحه نظرية التلقي من مقاربات ورؤى، قصد تفكيك بنية هذه الفرجة، وسياقات تداولها.

إن قدرة الفرجات الشعبية على التفاعل اللحظي، وبحكم الحضور الفاعل لجمهورها، والذي يؤثر في "شكلها وطقوسها وعاداتها وأعرافها"، ناهيك، على قدرة السير الشعبية بصفتها "دفاتر تاريخية" أن تكون على لسان الحكواتي، "الحلايقي"، مجموعة من سرديات حكائية تتحول إلى صيغ جمالية، وداخل فضاء (الحلقة/ ساحة جامع الفنا بمراكش نموذجاً هنا)، والتي تصبح "سلوكاً فرجوياً منظماً وحياً"، ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمخيال الشعبي المغربي، أما الراوي (الحكواتي)، فهو يستند على "مجموعة من الاستراتيجيات وتقنيات الأداء" [115]، إننا أمام مخيال غني مشبع بثقافة حية قادرة على بلورة مجموعة صيغ فنون أدائية في نفس الوقت (التمسرح، المحكي، الشعري، التقمص، اللعب...).

اعتباراً لدور ووظيفة المتفرج في الفرجات الشعبية، ونظراً لـ"سلطة الحكواتي" داخل فضاء "اللعب" الحلقة، تبرز مسألة "الإبلاغ/ الإيصال، المتلقي/ المستمع (المتفرج بالأحرى)" داخل سياقات عملية التلقي. وينتهي الباحث عند المدرسة الألمانية، بعدما عرج على اجتهادات القدامى الباحثين العرب، والمدارس والاتجاهات النظرية الغربية. مدرسة كونستانس من خلال رائديها هانز روبرت ياوس وفولفجانج إيزر، واللذين أتاحا معا "للقارئ فرصة تحريره من سطوة الكاتب وسلطة النص، وفرصة تحرير القراءة من أسر انقيادها بالمعنى النهائي، والقصدي، نحو معانقة آفاق مفتوحة على تعديد المعاني المحتملة واللانهائية" [235].

وبحكم أن الفرجات الشعبية تعتمد على المشاركة الفعلية والحية، سواء بحمولتها الأمازيغية (أحواش، أحيدوس، بولبطاين..)، أو داخل فضاء الساحات، بشكلها الفرجوي والمسرحي (سيد الكتفي والبساط والحلقة موضوع الكتاب). لا يوجد أساساً متلقٍ خارج "النص=العرض"، إذ يشارك في إنتاجيته وإخراجه بل ويساهم في انتظامه، ومن هنا تبرز جماليات التلقي في الفرجات الشعبية المغربية. لا حدود للإرسال والتلقي في الفرجة الشعبية، بل يستطيع الحكواتي أن يعيد انتظام هذه العملية بقوة أدائه، كما أن المتفرج يسهم في الأداء بل ويجري تعديلات، اعتماداً على ارتجال لحظي، وهو ما يجعل من الفرجة تنفتح على دينامية وإبدالات غنية وخصبة، ضمن سياقات تستحضر المشترك فكأنها تواطؤ (الحكواتي والمتفرج)، في استخدام الفرجة لاختراق "نظام اجتماعي تابت".

وتتشكل "في جل الفرجات الشعبية المغربية عوالم تخييلية رحبة تغرق الملتقي وتغمره"، كما تدخل الفرجة متلقيها في "خارطته الإدراكية إضافات تفصيلية جديدة". إن هذه المتعة التي تتحقق فعلياً، أثناء الفرجة وضمن جمالية التلقي، هي ما تؤسس لـ"تغييرات مهمة في سلم ترتيبه للأفكار، وفي إعادة تشكيل ذاته، وتحققان له التحرر والتخلص من التوترات والصراعات". وعلى اعتبار أن نظرية التلقي في "ثورتها" على المناهج الشكلية والبنيوية في النقد الـأدبي، ولأن الفرجة الشعبية ترتبط بالمتفرج وأكثر المجالات قابلية لاستقبال الاهتمام بعنصر التلقي، يقوم الأساس النظري، عند الباحث خضراوي، على أن "التلقي في الفرجة الشعبية هو تفاعل في إطار تتبدل فيه وضعيات المتلقي/الجمهور، والعارض/الحكواتي، معاً في سياق الحلقة" [244].

إن وضع الذات في سياق الاجتماعي، وإزاء نسق القيم الجماعية، عبر الحوار الذي تقيمه جماليات التلقي مع حركة الزمن، هو ما يجعل، بالنسبة للباحث خضراوي، معرفة آليات هذا التلقي وأسسه في فهم الثقافة الفرجوية. بالتالي احتاج الى إسقاط المفاهيم الأساسية التي أتت بها مدرسة كونستانس، والمتمثلة في مفاهيم (أفق انتظار المتلقي، القارئ النموذجي، القارئ الضمني، والمسافة الجمالية التي تفصل الجمهور/المتلقي، عن النص/ السيرة الشعبية). طبعاً يتم، هذا الأمر، تماشياً مع عمليات الإدراك والتأويل والتفسير.

إن اختيار سير "الأميرة ذات الهمة"، وسيرة "عنترة بن شداد"، وسيرة "سيف بن ذي يزن"، نماذج للتحليل اعتماداً على "الأسلوب" الفرجوي الذي يقدم عليه الحكواتي في فضاء الحلقة، عملية الاستقطاب وأفق الانتظار وذخيرة النص والقارئ الضمني أفرز قيما (أخلاقية وجمالية واجتماعية)، وأفضى إلى تبويب لمجموعة مكونات (معرفية ووجدانية وسلوكية). ولعل التفاعل الإيجابي، والذي يعتبر سنداً مركزياً في تلقي الفرجة الشعبية عموماً، ويضفي عملية إبداعية جمالية على الجو العام للفرجة.

كتاب الباحث أسامة خضراوي، "أسرار الحكواتي: جماليات الحكي وذخائر السير الشعبية"، أفكار أولية تستدعي "التعميق من خلال البحث في جوانب أخرى من الثقافة الشعبية"، بتعبير الناقد سعيد يقطين، وهو نقطة مضيئة تنضاف لهذا البحث المعرفي، والذي يكشف عن ثراء الثقافة الشعبية المغربية، وأيضاً لمزيد من الإضاءات والحفريات في ذاكرتنا التراثية الشعبية، بتنويع الرؤى والجوانب النظرية وتعميق البحث العلمي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها