كيف نربّي أطفالنا ضد الكراهية؟

دروس من فلسفة سبينوزا

ترجمة: حافظ إدوخراز

شارل حادجي Charles Hadji


"الكثير من الأيدي البالية، والكثير من السلاسل. الكثير من الأسنان المكسورة، والكثير من الكراهية". يبدو أن كلمات ريمون كونو Raymond Queneau، والتي غنّاها غاي بيار Guy Béart، قد استوعبت الوجه الحزين لزمننا المعاصر.. لدرجة أن رئيس الدولة اعتقد أن عليه أن يدعو بقوة إلى تشييد "حصون" في مواجهة الكراهية. ألا يمكن أن يكون التعليم، وأليس من واجبه، أن يكون أول هذه الأسوار؟ لكن هل يمكننا حقًا أن نربي أطفالنا ضد الكراهية، وكيف يتأتّى ذلك؟

 

يعرّف سبينوزا الكراهية، في كتابه الموسوم "الأخلاق"، على أنها حزن مصحوب بفكرة سبب خارجي: "أن تكره شخصًا ما يعني أنك تعتقد أن هذا الشخص يسبّب لك شعوراً بالحزن". يعدّ الحزن، إلى جانب الفرح والرغبة، أحد المشاعر البشرية "البدائية" الثلاثة. إن الشعور هو حالة تؤثر على الجسم من خلال تعديل (زيادة أو تقليل) قدرته على الفعل. وبشكل عام، يزيد الفرح من هذه القدرة على الفعل، ويمثّل عبوراً إلى كمال أعظم؛ في حين أن الحزن ينقص من هذه القدرة، مما يؤدي إلى كمال أقل.

إن الكراهية هي بالتالي انفعال (Passion) حزين. وهي في حد ذاتها تعدّ "بالضرورة سيئة". فهي تدفع إلى "إقصاء" أو "تدمير" ما هو موضوع للحزن. لذلك علينا أن نجتهد في محاربتها. لكن المأساة هي أن "الناس بطبيعتهم ميّالون إلى الكراهية". فكيف يمكن إذن محاربة مثل هذا الميل "الطبيعي"؟ هل يجب على التعليم خاصّة، أن يُحدث تغييراً للطبيعة بهذا الشأن؟

إن كل المجهود الذي بذله سبينوزا هو تبيين كيف يمكن للمرء الوصول إلى "أسلوب حياة حسن" مع البقاء ضمن إطار الاحتمالات التي تُتيحها الطبيعة البشرية، والتحقيق الكامل لهذه الطبيعة (والتي هي، بالنسبة له، جزء من الطبيعة الإلهية). وذلك لأن الإنسان يملك بطبيعته القدرة على التغلب على الكراهية. وأمامه ثلاث سُبل كبرى من أجل بلوغ ذلك.

تسييد العقل على العاطفة

"إن الإنسان يخضع بالضرورة دائمًا للانفعالات". لكن الفعل والانفعال لهما نفس الأصل: "يتعلق الأمر بنفس الميل الذي يجعلنا نقول إن الإنسان فاعل أو سالب". يصبح هذا الميل انفعالا عندما يرتبط بأفكار غير ملائمة؛ وفضيلة عندما يتعلّق بأفكار مناسبة.

ليست العاطفة سوى مجرد حرمان من المعرفة، وتُبين عن عجز العقل. وبالمقابل، تتجلى قوة العقل في المعرفة الواضحة والمتميزة، وفي فعل الفهم ذاته.

فالعاطفة لا تملك القدرة على محو العقل. بل على العكس من ذلك، "إن كل الأفعال التي نقوم بها والتي يحددها شعور-انفعال ما، يمكننا أن نأتيها من دون أن تكون خاضعة لهذا الشعور-الانفعال، بفضل العقل". يكتسب المرء السلطة على المشاعر من خلال المعرفة. و"يتوقف شعور-انفعال ما عن كونه انفعالا بمجرد أن نشكّل فكرة واضحة ومتميزة عنه". إن العقل المحرّر، مصدر الفرح، هو ما ينقذنا من الانفعال، الذي هو سبب الاستعباد ورديف الحزن. بإمكان الإنسان إذن أن يكون، في الواقع، خاضعًا للانفعالات؛ ويمكنه أيضا أن يتحرّر من هذا الخضوع.

بما أن "الفعل وفقا للفضيلة هو فعل يقوده العقل"، فإن العلاج الأول لمشاعر مثل الكراهية يكمن في "المعرفة الحقيقية لهذه المشاعر". إن تسييد العقل هو إذن توجيه كل التعليم نحو تفعيل سلوك الفهم ذاته. الفهم هو "الخير الذي يرغب به لنفسه من يعمل بمقتضى الفضيلة"، والذي "سيرغب فيه أيضًا لجميع البشر الآخرين".

من وجهة النظر التربوية، كل ما يؤدي إلى الفهم هو أمر جيد؛ وكل ما يُعيق الفهم هو سيّء. "إن البلوغ بالذكاء إلى درجة الكمال ليس شيئا آخر سوى الفهم". ولهذا يجب أن نعلّم للطفل أن يكون مصمّما على الفعل "انطلاقاً ممّا يفهمه". تكمن الطريقة الأولى لتشييد حصن تعليمي ضد الكراهية في جعل الأطفال يفهمون أنه من الضروري دائمًا، وقبل كل شيء، السعي إلى الفهم. ومصاحبتهم في هذا الجهد.

تجريب قوة الحب

"غير أنه من النادر، أن يعيش الناس بإرشاد من العقل". ومن ناحية أخرى، قد يعتقد البعض أن الحياة بدون انفعالات ستكون فاقدة للطعم. من حسن الحظ أن هناك سبيلا ثانٍ مُتاح للمربّين، والذي يسمح بالفعل مع البقاء في إطار المشاعر: محاربة شعور-انفعال سلبي (كراهية) والتغلب عليه من خلال شعور فاعل وإيجابي (الحب). لأن "الشعور لا يمكن قمعه أو إلغاؤه إلا من خلال شعور معاكس أقوى منه". وفي هذه الحالة، "يجب التغلّب على الكراهية بالحب (أو الكرم) وليس مقابلتها بكراهية متبادلة".

ولكن أيّ معجزة يمكن أن تجعل الحب، والذي هو "فرح مرتبط بفكرة سبب خارجي"، أقوى من الكراهية؟ ببساطة، لأن الفرح يزيد من القدرة على الفعل، بينما يُنقص منها الحزن. هذا هو السبب في أن "من يعيش بإرشاد من العقل يجتهد قدر استطاعته في منح الحب (أو الكرم) مقابل الكراهية والغضب والازدراء... إلخ. الذي يتلقاه من الآخرين. وخاصة أنه "إذا كان المرء يحرص على أن يتغلب على الكراهية بالحب، فإنه يصارع من أجل ذلك بفرح وأمان".

غير أن هذا أمر يمكن تجربته، أكثر مما يمكن البرهنة عليه. وبالتالي فإن أفضل طريقة للآباء والمربّين لمكافحة الكراهية، فيما يتعلق بهذا المسار الثاني، هي أن يحبّوا أطفالهم وتلاميذهم. بمعنى أن يشعروا بالفرح من خلال التفكير فيهم والتواجد بصحبتهم. مما يستلزم، يجب أن نلاحظ ذلك، أن نحب أنفسنا أيضًا، أي أننا نختبر الفرح بفضل مجرد كوننا أنفسنا. لكن هذا يقود إلى المسار الثالث.

تعزيز القدرة على الفعل

إن السرّ وراء معجزة الحب هو بسيط: إنه يساعد على تعزيز قدرة كل طفل على الفعل. يتم الخلط بين القدرة على الفعل والقدرة على الفهم. لكن الكراهية علامة واعتراف بالعجز. يمكن تعريف العبودية تحديداً على أنها "عجز الإنسان عن التحكم في مشاعره وقمعها".

كل شيء يعتمد على "الميل"، والذي "ما هو إلا جوهر (أو طبيعة) الإنسان". وهو بذلك ليس سوى القدرة أو الجهد (conatus) الذي بواسطته يحافظ كل شيء على استمرار كيانه. يتغذى الميل على نفسه. "كلما سعينا أكثر في سبيل ما هو مفيد (الحفاظ على كياننا) كلما تمكّنّا من ذلك؛ وعلى العكس، بقدر ما نُهمل الحفاظ على ما هو مفيد (كياننا)، نكون عاجزين".

ولهذا ينبغي مساعدة الطفل على الحفاظ على قدرته. كيف ذلك؟ تتطور القدرة من خلال الفعل وبفضله. لقد شرح الفيلسوف ألان (Alain) ذلك بوضوح: "الشيء المهم هو منح الطفل فكرة سامية عن قدرته، ودعمها بالانتصارات". إن "الصعوبة التي يتم التغلب عليها" هي "الطُعم الذي يناسب الإنسان". دائما ما تكون القدرة على الفعل مصدراً للفرح. "عندما يفكّر العقل في نفسه ويفكر في قدرته على الفعل، يكون مغتبطاً". إنه الفرح بسبب القدرة على المرور، من خلال الفعل الإيجابي، إلى كمال أعظم.

من أجل التغلّب على الكراهية، من الضروري، وفقًا لهذا المسار الثالث، تجربة الرضا عن الذات. في الواقع، يسمّى "الفرح الناتج عن تقدير الذات حبّا للذات أو رضا عن الذات"؛ ومن هنا تأتي ضرورة أن نحب ذواتنا، كما أشرنا إلى ذلك سابقا!

تجدر الإشارة في الختام إلى أن القدرة على الفعل تهمّ الجسد بقدر ما تتعلق بالعقل. بالنسبة لسبينوزا، "الجوهر المفكّر والجوهر الممتد هما نفس الجوهر".

إن "الجهد (أو القوة) الذي يحرّك العقل عندما يفكّر، هو بطبيعته، مكافئ للجهد (أو القوة) الذي يحرّك الجسم عندما يُقدم على الفعل". وبالتالي فمُفيد كل ما يزيد من القدرة على الفعل، وضارّ كل ما ينقص من هذه القدرة.

"كلما كان الجسم أكثر قدرة، مقارنة بالأجسام الأخرى، على القيام بأشياء عديدة في الوقت نفسه، كلما كان عقله أكثر قدرة، مقارنة بالعقول الأخرى، على إدراك عدة أشياء في الوقت نفسه". هل ثمة إشادة بالتربية البدنية والرياضة أكثر من هذه، والتي ستنضاف فوائدها إلى إعمال الحب، وإلى تنمية العقل؟

الفهم، والحب، والفعل، تلك إذن يمكنها، إذا اتّبعنا سبينوزا، أن تكون الكلمات الرئيسة الثلاث لمشروع تربوي يطمح إلى تسليح الأطفال ضد الكراهية، والعيش في سعادة.

 



المصدر: لقراءة المقال الأصلي، قم بنقر الصورة
The Conversation
الكاتب: شارل حادجي (Charles Hadji) - أستاذ في علوم التربية بجامعة غرونوبل ألب (فرنسا)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها