ما من مناسبة ثقافية هامة أو حدث ثقافي جلل إلا ويدور في أروقته سؤالٌ رئيس يعكس القلق المستمر على الكتابة الورقية، ومقارنتها المستمرة بالميديا والوسائل الإلكترونية المختلفة، ويظهر هذا السؤال المتكرر الذي تدور جنباته الأوساط الثقافية على مختلف لغاتها وألوانها شرقاً وغرباً يساراً وجنوباً، حتى صُوِّر في أخيلة الناس أنه صراع وجودي؛ لأنهم حسبوه خطراً على المطالعة والمعرفة والبحث، ولم يفهموه على أنه تطور طبيعي مُوّازٍ لإيقاع العصر ومستجدات أدواته البحثية.
لعل هذا الخلط الغريب مفهومٌ إذا ما تناولناه على أننا نعيش تلك الفترة البينية التي تشهد التحول من الوسيلة التي كنا نقرأ من خلالها، وما كانت تقرأه أجيالنا السابقة، وبين ما نراه حديثاً، وتلوح به أجيال شبابنا الآن، بل أجيال أخرى قادمة في المستقبل القريب والبعيد.
تطور الكتابة بين القديم والحديث:
لقد كتب السومريون على الحجارة، وكتب الفراعنة على أوراق البردي وجلود الحيوانات، ثم جاء الصينيون فأهدوا إلى العالم هذه الصناعة الجبارة، وهي صناعة الورق في بدايات القرن الثاني الميلادي، تلك الصناعة التي التقطها العرب حتى استقرت في القرن الثامن مع الخلافة العباسية؛ حيث شُيِّد أول مصنع عربي لصناعة الورق سنة سبعمائة وخمسة وتسعين من الميلاد.
لم يقم قائمٌ من أبناء هذه العصور ليلفظ هذه الوسيلة الجديدة محاولًا أن ينتصر للوسائل التاريخية القديمة التي وصلت إليهم عبر الحضارات التاريخية العريقة، بل استفادوا بها وقطعوا بها مسافات كبيرة من التطور المعرفي بعد أن سهلت الكتابة بصورها المختلفة، وسرعت أيضاً حركة الثقافة والعلوم بعد أن يسرت نقلها وترجمتها مما حقق ثراءً في تواصل الحضارات المختلفة التي توجت ذروتها إبان ثورة تطورها المذهل في القرن الثامن عشر من الميلاد.
غريب أن يقارن الإنسان بين الغايات وهي المعرفة والثقافة وغيرها من صور البحث المختلفة، وبين وسائل الوصول إليها ورقية كانت أو رقمية، فلم يعرف الباحثون ولا الأدباء من أبناء العلوم والآداب على اختلاف أزمنتهم قيمة أرجى لهم ولا لحركتهم الثقافية من تلك التي تسهل لهم وتنقل نتاج عقولهم من أزمان لم يعيشوها إلى أخرى لن تطالها أعمارهم الإنسانية، وحسبهم في ذلك أن يجدوا تلك الوسيلة التي تنتقل عبر الزمن؛ فتلتقطها أجيال تلو الأجيال فينتفع بمعرفتهم من يعاصروه ومن ليس إدراكه بالشيء المنال في حسبة السنين والأعمار.
التحول المعاصر.. ظاهرة صحية:
كانت ظاهرة الصحف والمجلات الإلكترونية التي قامت بها بعض المجلات الثقافية في عالمنا العربي المعاصر؛ هي القراءة الصحيحة والحكيمة لملاحقة هذا التطور الحديث ومسايرة خطواته السريعة؛ لأن مخاطبة الأولاد والأحفاد ليست بالسهل المدرك بغير طريقة سوى هذه الطريقة، وبغير مسار غير ذلك المسار.
فلتكتب الأقلام عن القراءة الورقية ومتعتها، ولتمدح الأصوات في الأرجاء الثقافية ما شاءت رائحة الورق فيها، ولتتحدث متى أرادت عن ضرورة المكتبات في المنزل؛ باعتبارها مَعلم مهم من معالم الثقافة الراشدة لا غنى عنه؛ ولأن يرشد أبناء البيت الواحد متى نشؤوا على وجود مثل هذه المكتبات فتغرس فيهم حب الاطلاع والبحث والثقافة.. وهذا كله صحيحٌ لا خلاف عليه، ولكن لا ننسى أن نفهم ذلك كله في ضوء أنها أدوات لغرس مفاهيم الاطلاع وإذكاء لحب البحث، وتدريب عمليّ على إنتاج أجيال محِبة للثقافة والمطالعة والبحث العلمي؛ فإذا تحقق ذلك بأدوات غير هذه الأدوات وبوسائل غير هذه الوسائل، فعلينا ألا نتعصب لوسائلنا القديمة ما دامت هذه الوسائل هي الأفضل في سرعة الانتشار، وتحميل الكم الهائل من المصادر والمراجع التي توفرها بسهولة ويسر.
التغير الرقمي ضرورة حتمية:
إن مئات الآلاف من الكتب نستطيع أن نحملها معاً على ذاكرة الموبايل أو الكمبيوتر المحمول، أو نقرأها مباشرة على مواقع الإنترنت البحثية فتغنينا عن حمل الآلاف من المراجع، ويسهل الاطلاع عليها في وسائل المواصلات والأماكن العامة وغيرها، ولعل المثال الواحد هنا يغنينا عن آلاف الكلمات، فالمنبه مثلًا الذي كانت تقام لأجزائه الصناعات المختلفة من شاشة زجاجية وجرس وجوانب من البلاستيك.. ألم يغنينا الموبايل عن هذا كله لأنه أصبح موجوداً بداخله! وكذلك الآلة الحاسبة الإلكترونية وكاميرا التصوير والمسجل كل هذه الأجهزة أغنانا عنها جهاز واحد غرضه الأساس هو التواصل، ولكن ابتلع بداخله مهام أجهزة عديدة كانت تُشترى لغرضها الواحد.
إن التعصب لوسائلنا القديمة خطأٌ كبيرٌ لا يوازيه سوى خطأ عدم التفاهم والتواصل مع اللغة الحديثة المعرفية لأولادنا، وغيرهم من أبناء الأجيال المتلاحقة، خاصة إذا كانت هي الأفضل والأهم والأوسع انتشاراً والأكثر خدمة لعالمي الثقافة والمعرفة.
كما أشرتُ أن قيام المجلات الإلكترونية هو قراءة صحيحة لهذا التطور، وخطوة واسعة لمواكبته والتفاعل معه، حتى المكتبات العامة الكبيرة بكل صورها أصبحت تحمل في داخلها الكتب الورقية والإلكترونية جنبًا إلى جنب، بل نهضت بالفعاليات الثقافية المختلفة من ندوات ومناقشات للكتب والموضوعات الثقافية، فأصبحت جاذبة لجميع الأجيال؛ لأنها عُدت مسرحًا كبيرًا لكل موضوعات المعرفة والفاعليات الثقافية الهامة.
إن القديم جميل؛ لأنه أنتج روادًا ومثَّل رموزًا ملأت الآفاق وأثمرت إشعاعًا ثقافيًا لا حدود له تحدث به العالم أجمع، واستنارت به الدنيا غربًا وشرقًا، والسر في ذلك أنه لم يتعصب لأدواته بل انتقل بسلاسة، وتقدم الصفوف والأجواء الثقافية مستوعبًا ذلك الركام الثقافي الذي سبقه على تنوع إنتاجه واتساع مصادره، وتشهد على ذلك تلك النهضة الحضارية في عصورنا الزاهية التي قامت على استيعاب ما سبقها واستشراف ما تقدمها بجميع ما فيه. ولعلّ من أبهى الكلمات التي سمعناها ووجدت قبولًا وارتياحًا في الأوساط الثقافية الحديثة أن الثقافة والتكنولوجيا توأمان، وهذا قول صحيح، ولكن تتأكد صحته إذا وضعناه في جملته التي ترسخه في الأذهان، وهي أن التكنولوجيا هي مطية الثقافة والإبداع ووسيلته لاستشراف المستقبل.
الثقافة هي نتاج عقول وقرائح وأبدان مرت على البشرية ومضت، وأصبح نقل هذا الزخم الكبير هي مسؤولية المجتمع الذي يُعد مقصرًا أيَّما تقصير إذا كان لم يستفد من تلك الثورة التكنولوجية الحديثة؛ فليس من المعقول ولا المنطقي أن يرتقي الإنسان السُّلم وفي وُسعه أن يستخدم مصعد الكهرباء، ولا أن يستخدم القطار ليقطع تلك المسافات التي اختُرعت من أجلها الطائرات.