لقد أصبحت التكنولوجيات الحديثة تجتاح عالمنا اليوم، دون استئذان، وتدخل بيوتنا دون استئذان من أبوابها الواسعة، وتشمل مختلف مجالات الحياة، ابتداءً من المنزل، إلى المدرسة، إلى مقرات العمل؛ بل لقد أصبح الهاتف، أو اللوحة الإلكترونية، أو الحاسوبُ رفيقَ درب الإنسان في الحياة؛ لا يستطيع هجره أو العدول عنه إلا بعد أن يخلد إلى نومه، بل صار بمثابة عضو من أعضاء الجسد، يصعب أو يستحيل التخلي عنه.
وقد ورث الأطفالُ عن آبائهم، وعن الكبار، هذه العادةَ، فصاروا، بدورهم، جيلَ الميديا بامتياز، من خلال الاستعمال الدائم للهواتف الذكية، واللوحات الإلكترونية في اللعب، ومتابعة الفيديوهات والصور، مما قد يسهم في خلق مشكلات خطيرة للأطفال، ويجعلهم غير قادرين على الاندماج في مجتمعاتهم، ومما قد يخلق عددًا من المشاكل، لا سيما في المجتمعات النامية التي تغيب فيها ثقافة إعلامية وتكنولوجية كافية، مما قد يفاقم من مخاطر الميديا على الأطفال.
أضرار الميديا على الأطفال
◅ أضرار نفسية
يمكن اعتبار الأضرار النفسية من أبرز مخاطر الميديا على الأطفال الذين يدمنون استعمال التكنولوجيا، غير أن المشكل يزداد عند الطفل الذي يفتقد إلى تربية رقمية كافية تدفعه إلى الاحتراز اللازم للحيلولة دون الانشغال الدائم بالوسائط التكنولوجية، أو يفتقد إلى توجيه أبوي (parental) في هذا المجال من طرف الأسرة أو المدرسة.
ومما يمكن أن تسببه الرقمية والتكنولوجيات الحديثة على المستوى النفسي، التقوقع على الذات أو التقوقع المنزلي الذي يجعل الطفل يقبع في المنزل بشكل دائم، مما قد يؤدي إلى مرض التوحد (autism) الذي يعتبر من أكثر المشاكل النفسية المعاصرة لأطفال الميديا، كما يمكن أن تسبب الميديا الإقصاء الذاتي (self-exclusion) للفرد عن المجتمع ويؤدي إلى أمراض أخرى ناتجة عن هذا الإقصاء الذاتي من قبيل الاكتئاب والشعور بالقلق الدائم والعصاب (neurosis) نوع من أنواع الخوف الذي يؤدي إلى اضطراب في الشخصية وفي التوازن النفسي.
◅ العنف والعدوانية
يُعاني الآباء في هذا العصر من عنف أبنائهم بسبب القلق المجهول الذي قد يجعلهم يكسرون الأثاث أو يعنفون بعضهم البعض، كما يُعاني المعلمون في المدارس من شغب الأطفال ومن تنمرهم، ولعلّ الميديا سبباً أساسياً في هذا العنف، من خلال تتبع مختلف الأفلام التي تحاكي العنف والإجرام، لاسيما إذا لم يكن التعامل مع الوسائط التكنولوجية الحديثة موجهاً من طرف الأبوين.
◅ تدمير الملكات العقلية
الإدمان على الميديا يَحُولُ دون التكوين النفسي والعقلي السليميْن لدى الطفل؛ ذلك أن الصورة الثابتة أو المتحركة (الفيديوهات) تجعل المعلومات تصل إلى الأذهان بشكل جاهز، مما يحول دون بناء الملكات العقلية لدى الطفل مثل ملكة الفهم (understanding) وملكة التفكير (thinking) التي تُبْنى بشكل تدريجي عبر القراءة والاستماع، والتي تفرض وجود معلم أو موجه أو رفيق (partner)، فالميديا بما توفره من معلومات سريعة ومتدفقة ترهق ذهن الطفل، وتجعله غير قادر على بناء قدراته العقلية التي تتطلب في كل مرحلة من مراحل النمو نوعاً من التعلم، كون كل مرحلة تتضمن نوعًا مختلفًا من الذكاء كما حدد ذلك جان بياجيه (J. Piaget) في نظريته البنائية؛ بحيث إن التلقي العشوائي للمعرفة عبر الوسائط التكنولوجية يحول دون بناء سليم لعقل الطفل، وهو ما يفرض نوعاً من التثقيف في مجال التكنولوجيات الحديثة بما يمكن أن يبني به الطفل مهاراته وكفاياته الأساس بشكل تدريجي.
◅ أضرار اجتماعية
فضلا عن الأضرار النفسية، يسبِّب إدمان الميديا للأطفال أضراراً اجتماعية؛ وهي في الواقع أضرار تشمل كافة الفئات العمرية غير أن تأثيرها على الأطفال يكون أكبر على اعتبار أنَّ الطفل الذي لا يتوفر على ثقافة رقمية، ولا تمارَس عليه الرقابة في هذا الصدد تجِدُه ينمو في خضم عوالم افتراضية بعيداً عن واقعه الاجتماعي، وذلك ما قد يؤدي إلى تشبُّعه بالقيم الاجتماعية الغريبة عن ثقافته وعن بيئته، والتي تختلف بشكل كبير عن بيئته؛ ومن ذلك نسْجه لعلاقات وروابطَ صداقة عبر مواقع التواصل الاجتماعي الإلكتروني مع آخرين مختلفين، وقد يكونون منحرفين، وهو قد يجعل منه فرداً غير اجتماعي مختلف عن واقعه الاجتماعي، عكس ما كنا نجده من تكافل وتضامن في المجتمعات التقليدية حيث توَطُّد الأواصر الاجتماعية، فالطفل الذي يُترك له الحبل على الغارب في التعامل مع الأنترنيت يمكن أن يتحول في المستقبل إلى شخص منحرف اجتماعياً.
يعدم الطفل على هذا المستوى الأواصر العائلية التي تُعَدُّ مصدراً كبيراً للإلهام والتخليق، ويعدم الصداقات الإيجابية التي تبني شخصيته وتقويه نفسياً، وتجعله اجتماعياً، ويعدم اللعب الجماعي مع ما له من إيجابيات على شخصية الطفل، فالإدمان على الميديا يبعد الطفل عن كل أسباب تكوينه الاجتماعي السليم.
◅ مشكلات أخلاقية
يمكن اعتبار المشكلات الأخلاقية من بين أكبر تحديات الرقمية، ذلك أن التأثر بأخلاقيات الرقمية يُعطي انطباعاً للطفل على أن العوالم التي يشاهدها في الصور والفيديوهات هي المعيار، مما قد يدفعه إلى الابتعاد الكلي عن واقعه، وعن أمته، وعن أخلاق مجتمعه، فإدمان مشاهدة الأفلام ومتابعة ما ينشر دون فرز وتمييز، كل ذلك قد ينقل إلى الطفل سموماً تفسد أخلاقه، ويؤسس لديه سلوكات بعيدة كل البعد عن بيئته وعن مجتمعه وعن قيم هذا المجتمع، فحتى الأفلام التعليمية في القنوات الخاصة بالأطفال على التلفاز أو القنوات الإلكترونية غالباً ما يتم التركيز فيها على الأفكار الغربية (المسيحية)، والتي تُنقل إلى الأطفال المسلمين لأنها من صنع غربي، بحيث إن غياب توجيه ومراقبة ما يشاهده الطفل قد يؤدي به إلى انحراف ثقافي وأخلاقي وقيمي.
◅ مشكلات تربوية
لا يخفى أن الرقمية مدخل أساس إلى الارتقاء التربوي والتعليم، بل إن توظيف تكنولوجيا المعلومات والاتصال ITCE (Information and Communication Technologies in Education) في التعليم صار ضرورة العصر من أجل تحديث المدرسة، إلا أننا في الواقع نجد المدرسيين يعانون كل المعاناة مع التلاميذ في التفاعل خاصة في ما يرتبط بالبحث والتحضير للدروس، الذي استعاض عنه المتعلمون بالنسخ من الانترنيت ونقل المعلومات الجاهزة من الانترنيت، مما يحول دون إعمال الفكر الذي يشحذ ذكاءهم، وهو ما يجعلهم بعيدين كل البعد عن أشكال التعلم الذاتي.
كما حالت الانترنيت دون تشغيل الذاكرة في التعلم، حيث إن أبسط المعلومات يتم اللجوء فيها إلى محرك البحث غوغل، وهو ما يعطل الذاكرة التي تعتبر أساسية في بناء عقل الطفل وشخصيته، بحيث كنا نجد في السابق أن الطفل يحفظ متوناً متعددة من قرآن وأَلْفيَّات لغوية ودواوين شعرية، فعطلت الانترنيت والميديا هذه الملكة، وجعلت الطفل لا يجد وقتاً حتى لحفظ بعض القواعد أو إنجاز بعض التمارين.
كما غيبت الآلة الحاسبة القدرات والذكاءات الرياضية للمتعلمين في الحساب مثلاً، بحيث يلجأ التلميذ إلى الآلة الحاسبة لإنجاز أبسط العمليات في الضرب أو الطرح أو الجمع. وقس على ذلك مختلف الأبحاث التي تجعل المتعلم التلميذ يلج إلى الوسائط الحديثة وإلى محرك البحث غوغل لاستخراج البحوث الجاهزة، فلا يكلف نسفه حتى عناء قراءة ما أخذه ويأتي به جاهزاً إلى الفصل.
تؤدي هذه التعاملات مع الميديا بشكل واضح إلى التراجع في مستوى الطفل المتعلم؛ لأنها لا تتترك له فرصة للتفكير، ثم إنه يصبح بفعل إدمان الميديا لا يُعمل فكره وعقله فيقوم بنقل الأفكار الأخرى التي ينتجها غيره مما يحول دول بناء قيمة الثقة في النفس لديه.
ما العمل: الحاجة إلى ثقافة رقمية أو ثقافة الميديا
◅ دور الأسرة
إن أهم ما ينبغي أن يشغل بال المجتمع الحديث هو نشر الثقافة الرقمية لدى الناشئة بشكل إيجابي، وهو ما يدعو أولا إلى تربية الطفل على حسن التعامل مع التكنولوجيا منذ مراحل نموه الأولى لخلق نوع من الوئام مع الميديا، وهذه التربية ينبغي أن تنتقل من الأسرة إلى دور الحضانة، إلى المدرسة، من خلال التعامل المباشر مع الرقمية باعتبارها وسيلة تعليمية وتثقيفية وتربوية وليست وسيلة لهوٍ ولعب كما يعتقد الأطفال، ومن ثمة توجيههم إلى البحث في المواقع التربوية التي تحترم عقول الأطفال وتنمي مهاراتهم الحياتية، وفي هذا الصدد لا بُدّ من تعبئة الآباء في هذا الصدد، والذين عليهم توجيه أبنائهم إلى الاستعمال الإيجابي للرقمية، كما عليهم مراقبة أبنائهم، أثناء انشغالهم بالميديا، وإلى تدبير وقت استعمالها الذي ينبغي أن يكون محدداً بدقة.
◅ التعليم والمدرسة
ما تزال المدرسة في عديد الدول بعيدة عن الانخراط في التعليم الرقمي مما يغيب لدى الأطفال والمراهقين ثقافة التعامل الرقمي، لذلك يبدو من الضروري والأساسي أن تنخرط المدرسة في الرقمية وأن تجعل منها فسلفة المدرسة الحديثة، فعندما يتمكن المتعلم في الفصل الدراسي من استعمال اللوحة الإلكترونية والحاسوب والهاتف والانترنيت في التعليم، فإن ذلك سيمكنه من اكتساب ثقافة رقمية تمكنه من التعامل السليم مع الميديا.
كما ينبغي في هذا الصدد، أن تنخرط المدرسة في تثقيف المتعلمين في مجال تكنولوجيا الإعلام وتدريسهم تقنيات التعامل مع الإعلاميات، من خلال فرض مادة الإعلاميات في كل الأطوار الدراسية منذ التعليم الابتدائي، وذلك ما سيخلق نوعاً من الوئام لتعلم الميديا في ما يخدم مصلحة الطفل.
◅ التربية الإعلامية
تؤثر وسائل الإعلام المختلفة بشكل كبير على المتلقي وعلى الطفل بشكل خاص، لهذا يمكن أن تلعب دوراً أساسياً في توجيه تعامل الأطفال مع الميديا، عبر نشر الوعي بخصوص تعامل الأطفال مع التكنولوجيات الحديثة، فالإعلام ينبغي أن يساهم في تثقيف الأطفال في مجال التعامل مع الرقمية، من خلال برامج متنوعة وهادفة، سواء كان هذا الإعلام مكتوباً أو مصوراً أو سمعياً بصرياً، فلا بد أن يسهم في تثقيف المتلقي والطفل خصوصاً في مجال التعامل السليم مع الرقمية ومع الميديا، وأن يلفت إلى مخاطر استعمالها السلبي في اللعب والترفيه الذي قد يؤدي إلى الإدمان.
من خلال هذه الرهانات يبدو أن الرقمية سيل جارف، لكنه سيل مفيد إذا تم استعماله بشكل مُعقلن وإيجابي، فلا مناصَ من التفاعل الإيجابي مع الرقمية، التي يبدو أنها مدخل أساس للنهضة خاصة في المجتمعات العربية والنامية.
إن الناشئة تمثل ثروة الحاضر والمستقبل، وإن الاهتمام بها، وحسن تربيتها على التعامل مع الرقمية يمكن أن تجني من ورائه الدول العربية بشكل خاص نتائج مبهرة في المستقبل، فالتكنولوجيا كما يرى بيل غيتس ليست لجيله؛ وإنما هي للأجيال القادمة التي ستدفع بها إلى الأمام، ومن ثَمّ يمكنها أن تكون مفتاح النهضة بالنسبة للدول النامية.