
السمندل رواية سيرية من روايات السير الذاتية التي حكاها الكاتب على لسان راوٍ عليم يسرد حكاية بطل الرواية "فاضل" بطريقة مدهشة. فقد بدأ الحكي بوصف المكان بطريقة مفصلة ومرئية وبتقنية متباينة.
بدأت الرواية بوصفٍ سردي على لسان بطل الرواية "فاضل" بضمير المتكلم يصف ميلاده، قريته، مسكنه وأقاربه، وكأنه يطوف بكاميرا سردية فائقة الجودة. أسلوب الحكي أشبه بحكي القصة القصيرة من حيث التنقلات السريعة والقفز من حكاية لحكاية أخرى بمرونة وسلاسة.
امتلك الكاتب أدواته الفنية في السرد الروائي وصاغها بشكل جيد رغم أنه دمج الفنتازيا بالواقعية في نفس الحكاية.
الأفعال في سرد الحدث
أدخل الكاتب الفعل المضارع على السرد فكثيراً ما لاحظت أنه يبدأ المقطع بالفعل المضارع رغم أن الأساس في وصف أي حدث مروي هو الفعل الماضي لأنه حدث مضى زمنه. قد يكون الكاتب مجبوراً بضرورة رسم المشهد ووصفه بطريقة تُبين الحدث بواقعية ومصداقية في بداية الرواية أمام القارئ، وقد تأكد لنا ذلك بعدما وجدنا الراوي يسرد بضمير الغائب بزمن الماضي مرة أخرى.
الأنماط السردية
تعمد الكاتب اعتماد النمط السردي المتقطع أثناء كتابته للرواية وهو سرد لا يعتمد على تسلسل منطقي للأحداث، بل نراه كذلك يعاود تصوير المشهد بنفس أشخاصه لكن برؤية متباينة قد يكون الهدف منها عرض طبيعة الشخصية أو ضخ معلومات جديدة عنها، أو حتى عرض مشهد غرائبي كما رأينا في مقطع [ص: 5] الذي يبدأ بعبارة (غداً الجمعة موعد الشقاء.. لا راحة في يوم الراحة. يوقظني أبي في غبش الفجر: "فاضل. ولد يا فاضل. فِزَ يا لوح. يلكمني بقبضة يده، فأقفز مذعوراً: خذ البقرة والعجل، واذهب إلى الرميَة. اربطهما جيداً، ولا ترخ الحبل لهما طويلاً فيدهسا البرسيم. بعد الظهر اسقهما من القناة الصغيرة لا من الترعة، ورش عليهما بيديك بعض الماء). هذا المشهد يوضح فيه كم الشقاء الذي ينتظره من أبيه وتعليماته التي أعطاها له قبيل إيقاظه له.
وجدنا مقطعاً ثانياً بعده [ص: 6] يبدأ بنفس العبارة لكن لتصوير مشهد آخر من مشاهد الواقعية السحرية (غداً الجمعة أثقل الأيام على قلبي.. أتقلب على الوسادة المهترئة مؤرقاً. يلاحقني المشهد. يأخذني النوم إلى سراديبه الرمادية. بعد مكابدة. تنشط النظرة المكدسة بالمرارات والمخاوف، وتلعب دور الحاكي. أرى ثعباناً ضخماً يهجم على كلبنا الأريب، ويلدغه في ذيله. يدير الكلب رأسه في لمح البصر، ويقطع بأسنانه نصف الذيل، ثم يقفز على الثعبان يمزقه ويأكله. مسحت على ظهره بحنو، وقبَلت رأسه: تسلم لنا يا بطل. رمقني بامتنان وطيبة، وفتح فمه: كاد أن يقتلني الملعون. هيه.. للعمر بقية. دهشت، وخفت في آن: هل تتكلم؟!
هذا المشهد يصف لنا صراع الكلب مع الثعبان وانتصاره عليه ورد الكلب على البطل كإنسان مثله. ثم يتضح أن الكلب هو أخو "فاضل" من أم ثانية سُفلية، وهنا مزج الكاتب الغرائبي بالواقعي.
لم تخلو الرواية من الرومانسية فذكر لنا بطل الرواية أنه أحب مرتين: "فاطمة" أثناء طفولته وفتاة أخرى تشبهها قبل بلوغه.
استخدم الكاتب تقنية التَّناص مع القرآن الكريم في ثنايا جمل كثيرة في الرواية. ساهمت في تأطير وتجميل المعنى مثل {قضي الأمر الذي فيه تستفتيان}.
تقنية الكولاج السردي
الكولاج هو تكنيك فني يقوم على تجميع أشكال فنية مختلفة لتكوين عمل فني مبتكر، ويعد "بيكاسو" أول من استخدم تقنية الكولاج في الرسومات الزيتية. أما الكولاج السردي فهو عمل تقني عبارة عن قص الشخصيات والأماكن والأحداث من بيئتها الرئيسة ونقلها لتبث الحكاية بطريقة أخرى، وهو نظام يستلزم من الكاتب عمل فلاش باك لمخزون ذكرياته التي يود توظيفها في المناخ السردي الجديد. ففي المقطع المشهدي المكرر الذي يبدأ بـ"فاتك القطار وجدنا "فاضلاً" يصف كيف تم التحقيق معه بوقاحة في المخفر عندما ذهب لتسلم بذلته من عند الترزي في يوم عطلته، واضطر للمبيت هناك بسبب فوات القطار فاحتجزه الضابط للصباح. نفس حكاية ذهابه لتسلم البذلة ومبررات المبيت، لكنه بات في هذا المشهد في المسجد.
يتسلم "فاضل" بذلته في النهاية من ترزيه ويعود من المدينة لقريته "شرشابة"، بعد نزوله من العربة عقب استيقاظه من إغفاءاته ويدخل بيته فيجد أمه تتوعده بغضب أبيه منه إذا لم يذهب لمساعدته في عمله بالرمَية. يسافر "فاضل" إلى "زفتى" ليتحرك في شوارعها بحرية مستمتعاً بشاطئها ومراكبها و"ميت غمر" الساحرة ودار السينما و"نجيب نوار" ترزيه، وعندما يدخل سكنه وهو مرتدياً بذلته يتعرض لتهكم الأطفال عليه فيصفع أحدهم ويسبهم، ويدخل حجرته العارية ويخلع بذلته ويرتدي جلبابه المقلم وينزل ليلقي ببذلته في أقرب محرقة.
من هنا نلاحظ أن الكاتب جعل المكان في رواية "السمندل" بطلاً لروايته ومسرحاً يعرض ويصف فيه أحداثها التي هي انعكاس لانفعالات لربما عايشها بنفسه، ولكي يخفف من حدة الحدث استخدم تقنية الكولاج السردي ليعلو بالوصف على حساب السرد، وتكون البطولة في الرواية للمكان على حساب الشخصيات، ودمج حقائق من الواقع في لوحته السردية بأمور غرائبية جعلنا نصدقها ونحن نشاهد تلك المغامرة، لينج الكاتب في مزج الواقعي بالمتخيل في لوحة سردية بديعة.