مَوسِمُ الهِجرة منَ القُبحِ إلى الجَمال

عَوالم يَصنعُها إحْسَاسُ الفنّان

د. محمد عبدالله الريّح

 

الشاعر السوداني المرهف التجاني سعيد كتب قصيدة بعنوان: مدينة من البلاستيك في ديوانه «قصائد برمائية» ومن أبياتها:
كانت بوابة المدينة مغلقة
وعليها كتبت هذه العبارة: (مدينة من البلاستيك)
تجولنا عبر الطرقات
وحين مللنا التجول
طوينا المنازل بأيدينا
لأن المنازل كانت من البلاستيك
زرعنا قمحاً في موسم القمح
زرعنا ضفادع في موسم الضفادع
وزرعنا أوكسجين
فلم ينبت لنا منها شيء
لأن الأرض كانت من البلاستيك

ويمضي الشاعر في قصيدته تلك التي تصور مدن الإنسان العصرية، وقد التصق بها البلاستيك وأصبح جزءاً من حقائقها العادية. لقد اكتشف الإنسان ذلك المركب المشتق من المنتجات البترولية، وأخذ يستخدمه في كل شيء ابتداءً من الأثاثات المنزلية إلى البطاقات البنكية. لقد دخل البلاستيك حياتنا دون استئذان، ويمكنك الآن أن تتجول في أي قرية من قرى العالم وهناك ستجد أحد المخلفات البلاستيكية. ولا أحد يستطيع أن يعطي رقماً قريباً من الإنتاج العالمي للبلاستيك، ولكن إذا كان العالم يفقد كل يوم ألف غابة في حجم دار الرياضة؛ فإنه بالقطع يكون في مواجهة ألف غابة من البلاستيك يومياً بذلك الحجم.

وقد أيقنت الدول الصناعية حتمية تناقص احتياطات البترول مع مرور السنوات، ونتيجة لارتفاع الأسعار، واعتماد الكثير من الصناعات التحويلية التي تدخل في تركيب عدد كبير جداً من المنتجات بدأ البحث عن حلول معقولة، ويقترح بعض الكيميائيين تطوير تكنولوجيا ما يعرف باسم «البلاستيك العضوي» المصنوع من النباتات ومن البكتيريا، وهو مادة مطاوعة وتعادل تماماً البلاستيك المركب، كما أنه قابل للتحلل بيولوجياً في زمن قياسي ما يعني التخلص أيضاً من مشكلة بيئية تمثلها مخلفات البلاستيك الكيميائي، ويعتقد الكثير من الباحثين الذين صبوا اهتمامهم على هذا النوع من الصناعات، أن الصناعة مقبلة على ثورة صامتة؛ لأن البلاستيك العضوي يعد مادة خفيفة مطاوعة ومقاومة في الوقت نفسه، كما أن المواد المصنعة منه لا تختلف في شيء عن البلاستيك المتداول من دون أن تدخل في صناعته؛ أي مادة ذات أصل نفطي بل هو قادم من نباتات مثل الذرة والحنطة والبنجر أو حتى من البكتيريا.

ويسود تفاؤل بين الباحثين أن تقود هذه التكنولوجيا إلى تطوير بديل عضوي عن البترول وحماية البيئة من التلوث، لاسيما وأن المادة البيولوجية يمكن أن تعطي الكثير من المواد، مثل النيلون والأنسجة والمواد التي تصنع منها الأقراص المدمجة وتجبير الكسور، باستخدام مثبتات يمكن أن تذوب، وتلفظ عبر مجرى الدم بمجرد التحام العظم. إننا إذاً إزاء إنجاز تكنولوجي يقوم أساساً على احترام البيئة، والتخلص من الفضلات المتزايدة التي أصبحت تشكل مصدراً خطراً على الحياة.

وعندما كُنت أقوم بتدريس مادة التلوث الكيميائي والبيولوجي والنووي في كلية الدراسات البيئية بجامعة الرباط الوطني بالخرطوم؛ فقد كان يؤذيني ذلك التلوث البصري وأنا أشهد أكوام القمامة المحتوية في معظمها على أكياس البلاستيك، وهي تزحف على شوارع مدن السودان. فقمتُ بالمساهمة في توعية واسعة، كنت أدعو فيها إلى تدوير تلك النفايات البلاستيكية صناعياً، بينما دخلت في تجربة تدوير تلك النفايات بصرياً. فوجدت التقانة الحديثة خير معين باستخدام الكاميرا، وما تتيحه تطبيقات الفوتوشوب باستخدام الفلاتر المتعددة في رحلة مثيرة.

كانت حصيلة ذلك أن أقْمتُ عدة معارض تشكيلية، كان لها أثر كبير في لفت الأنظار إلى تلك المشكلة بعد أن أخذت المشاهدين في رحلة أسميتها موسم الهجرة من القبح إلى الجمال.

العالم الذي تراه من خلال عدسة الكاميرا هو عالم متوقف مختزل، في لحظة تحرك زر الكاميرا، معلناً تسجيل زمن ما في مكان ما -وهو يمثل للفنان لحظة تعيش في بُعدين وبعد ثالث افتراضي- وهذه هي المادة الخام التي يعمل عليها بصر وعقل الفنان.

وهنا يتحرك ذهن الفنان في فضاء وراء تلك الصورة.. وهل هناك حدود لما يكمن وراءها؟

والفنان مطالب في رحلته من القبح الذي يريد أن يهشمه، أن يستدعي ويستنفر كل الحواس التي لن تتوقف عند حدود الرؤية البصرية إلى عالم يصنعه بإحساسه عن اللون وتَشَعُّبه وغزارة مادته التي ربما لا توجد في المادة الخام، التي هي مفتوحة على كل الاحتمالات، وهذا ما يجعل المنظر المرئي يتخذ عدة كينونات في مخيلة كل فنان. فلو كان هناك مائة فنان لتحولت المادة الخام إلى مواد لا نهائية، وستكون مخرجاتها بالضرورة تختلف عند كل فنان وآخر، وكنت أردت أن أختبر هذه الخاصية عند عدد من طلاب كلية الفنون الجميلة في الخرطوم. وكنت أتوقع مستقبل المنتوج التشكيلي مختلفاً عند كل فرد وفقاً لما يختزنه كل فنان من مرئيات ومصادمات مع مرئيات سابقة، فتندمج جميع الخطوط والألوان والمساحات والإضاءة، التي تغمر فضاء اللوحة في أشكال تتطلب في النهاية عملية فرز تحليلية، مثلما يحدث في حالة التكعيبية التحليلية Analytical cubism، ثم انتقاء العناصر التي يختارها الفنان ويعيد تركيبها، كما يفعل في التكعيبية التركيبية Synthetic cubism، وعملية التفكيك والتركيب تضع الفنان أمام خيارات غير محدودة، وربما وجد الفنان أنه قد تخطى حدود المنظر الخام والعناصر الأولية إلى عالم مختلف تماماً على درجة عالية من التجريد، كما سنرى هذا في المنظر الذي بدأت به في اللوحة (1)، وهي لمجموعة من أكياس البلاستيك التي حملها الهواء ووزعها على أغصان شجرة الطلح المغمورة بالمياه، حيث حجزت أشواكها تلك الأكياس الطائرة دون توزيع مخطط لها. المنظر كان عبثي يحقق وجوداً عشوائياً على الطبيعة، ويمارس بقاءً دائماً في عدسة الكاميرا بينما يتحرك في مخيلة الفنان، كيفما كانت حدود تلك المخيلة، ونرى هذا في اللوحة (2) وهو يمر بمرحلة تحولية Metamorphosic إلى أن يكتمل التحول نهائيا إلى لوحة كاملة التجريد في (3). تشابه لوحة (عارية نازلة الدرج) لمارسيل دتشا 1912 أحد رواد المدرسة المستقبلية. بينما اللوحة (4) لنفس المنظر، ولكن تحول لمونوكروم أزرق، وهكذا ترى أن احتمالات التفرعات التشكيلية لا حدود لها، وخاصة بعد أن يضيف لها الفنان ما عنده من معالجات في آفاق النُّصوع والتشبع والتدرج.

هذه الرحلة ذاتها قطعها الفن التشكيلي عن طريق تغذية حاسة البصر بمرئيات تتخطَّى جدار الواقع، في مسيرة طويلة من الإدراك الواقعي والكلاسيكي والرومانسي إلى شرفات الرؤية المنفتحة على عوالم ترتاد شُرفات تعبيرية جامحة، مخلفة في كل مرحلة الدهشة الفاعلة التي تقود لدهشة أوسع منها.

واليوم؛ فإن أجيال التشكيليين أتاح لهم التقدم التقني والكيميائي الهائل استخدام مواد لم تكن متاحة من قبل لآبائهم، خاصة في مجال الأكريلك والأصباغ والبوليمرات، واللدائن والشمع والمعادن، وأدوات النحت والطرق على كل الأشياء، حتى الطرق على الألوان السائلة، وولوج تجارب ما يُسمى بالأكريلك المسال والرسم بالبالون والبلي والأكريلك الكحولي، ثم الدجيتال آرت، وهذا مجال عريض لا حدود له. ولذلك صغت شعاراً أُنادي فيه (دع الألوان تفعل ما تشاء).

 

✧✧✧

 

قَولٌ عَلى قَولٍ

كَتَب: المحرر الثقافي

يَستعيدُ الكاتب فكرةً جوهرية تتعلّق بالصلة بين الإنسان الفنّان والبيئة، ضِمن سياق لملاحظة التّحولات التي تُؤثر بفداحةٍ على الإنسان والبيئة المحيطة، مُختاراً ظاهرة واحدة تتعلق باستخدام مادة "البلاستيك"، وانتشارها العنكبوتي في البراري والبحار، وكيف أن هذه الظاهرة قد تمنحُ فرصاً لمعالجات فنية تُحيل التربة إلى تِبْرٍ.. من خلال مُقترح محدّد يُقدمه الفنّان الريّح، عبر معالجات لونية وتلصيقية (كولاج)، فتُحقق الهجرة من القبح إلى الجمال.

تِلك واحدةٌ من الشّواهد المُتنامية في عالم الوسائط الفنية الموروثة، وكذا عوالم التطبيقات الرقميّة التي ما زالت تُقدّم وعوداً باهرةً.. لها وعليها!     

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها