ساعي البريد

توفيقة خضور


أيُعقل أنها لم تفتش جيوب المعطف قبل أن تخلعه عليّ؟!

وقفتُ أمامها أرتجف كفرخ يمام بلّله القطر.. عظامي ترقص، لا كرقصة الهنود الحمر أمام معابدهم، بل كرقصة غصن يابس لفظته أمّه في شدق نهر مجنون.. أسناني ترتعد، وروحي تُحمحم أسىً وحسرة.. وهي بكامل أناقة حزنها ترمق ما يعتريني.. لم أستطع أن أتلفظ بكلمات العزاء المعهودة، فكل الكلمات جوفاء باهتة أمام رحيله..

تركتني في غرفة الضيوف، وعادت بعد دقائق لتخلع عليّ معطفه.. لا.. ليس معطف غوغول، بل معطف زوجها الراحل، صديقي عماد الذي لم تنعم عيناي بمصافحة وجهه منذ أعوام، ولم أشارك في تشييعه؛ لأني رجعت من سفر بعيد منذ سويعات قليلة.. ربما ظنت أني أرتجف من البرد، وربما هي تعرف أن الحزن العميق أعتى من الصقيع، وأبلغ أثراً..

خلعتُ المعطف، ولا أدري لماذا امتدّت يدي إلى جيبه، قبل أن أعلّقه على المشجب، اصطدمتْ أصابعي بورقة مطوية بعناية، أخرجتها، وفتحتها.. يا إلهي.. إنها رسالة غرام يلتحف لهيبها بكلمات خجلى، تُحاول أن تُخفي أكثر ممّا تُبدي، وهي خالية من أيّ اسم، أو إشارة إلى شخص بعينه.. رباه.. لمن هذه الرسالة؟ أتكون من إحداهنّ إلى عماد، وقد دسّتها في جيبه دون علمه، لتجسّ نبضه، أو لتخلق بلبلة في بيته تستفيد منها؟ فالنساء جميعهنّ يعرفن فضول بعضهن، ويدركن أن جيوب الزوج تتعرّض يومياً لحملات التفتيش من قبل الزوجة.. ربما.. لماذا إذن لم تُتلفها ليلى، أيعقل أنها لم ترها؟ ولماذا لم يمزقها عماد ويتخلص منها؟ أيكون هو الآخر جاهلاً بها؟ أيعقل أن الثقة بينهما وصلت حدّ حماية جيبه من الاختراق؟ وكيف لم يعرف بها، وهو يدمن هذا المعطف كما أخبرتني ليلاه؟ لا.. لا يمكن.. لا بدّ أنه قرأها، ودغدغت فيه مكامن الذكورة فاحتفظ بها، ليعرف صاحبتها.. كيف يحدث ذلك؟ أيعقل يا عماد أن تكون خائناً لحبك؟ هل نسيتَ كم سهرنا معاً على سفح التلّة المطلّة على بيتها، نسامر نافذة غرفتها، وقد اتفقنا على أنها لو فتحتها فهي تحبك، ولو تركتها مغلقة فهي تحبني أنا.. أتذكر تلك الليلة يوم شرعت نافذتها لحظات ثم سارعت بإغلاقها، فرمتنا في جبّ الحيرة، وقضينا الليل إلّا قليلاً نفكر في مغزى فعلتها، فكلانا يحبها بصمت، غير أننا لم نعرف حتى اللحظة إلى أيّ منا تميل.. نافذتها تلك الليلة وشتْ بأنها تحبنا معاً، هكذا فكرنا فعطّرت ضحكاتنا الفضاء، عرّشت على أشجار السّرو والبلوط، وأسطح المنازل.

كنا شابين نزهو بزغب وجهينا.. كبرنا.. وكبر عشقنا لليلى، دون أن يفرّق بيننا.. غير أنك فزت بها وتزوجتها، ففردتُ جناحيّ وطرت إلى عالم آخر، كي لا أرى من وئامكما ما يجرح حبي لك ولها.. وهناك درّبت نفسي على نسيانها، وأظنني نجحت، وما عدتُ حتى وصلني خبر موتك.. آه يا صديقي.. لقد كسرني فراقك وكسرها.. أجل كسرها، رأيت ذلك في عينيها.. أتدري يا صديقي أنني زرتها اليوم، وقد خلعتْ عليّ معطفك الأثير؟

ردّد كلمة المعطف عدّة مرات، ثم تناول الرسالة من جديد، وعاود قراءتها مرّة، مرتين، ثلاثاً، وكأنه يحاول الدخول تحت جلد الأحرف، علّها تُفصح عن صاحبتها.. يا ربّ السماوات.. لماذا أرتعد كلما قرأت هذه الورقة؟ أتكون موجّهة لي؟ أيعقل أن ليلى تحبني، وتريد إخباري بذلك من خلال رسالتها التي لم تجد لها ساعي بريد سوى معطف زوجها؟ لا.. لا.. غير معقول.. فهي تحب عماد، وقد اختارته هو، وعاشت معه سنوات ملؤها العسل القراح.. كما أخبرني بذلك عشرات المرات في رسائله.. لكنّ الورقة جديدة والخط طازج، ولا يُعقل أن تُلبسني ليلى معطف زوجها قبل أن تفتش جيوبه.. الرسالة لي إذن.. يخفق قلبي لحظاتٍ في خانة الفرح، فأزجره: (اخرس أيها الأحمق.. أنسيتَ من هذه؟ هذه ليلى امرأة صديقك وشقيق روحك؟ ثم ألم تقل إنك طردتها عن بيادرك منذ زمن بعيد دون أن تحظى بحبّة قمح واحدة؟ فما بالك الآن تتقافز بين الأضلع بتيهِ مراهق)؟

انكفأ قلبي على نفسه خجلاً، وعادت الخواطر تصطرع داخلي: الرسالة ليست لي، إنها لعماد، فهو قد بيّت الخيانة إذن، وقد كان مستعداً للخوض فيها، لولا أنْ عاجله الموت.. لا.. لا.. إنها لي أنا.. كلّ الدلائل تشير إلى ذلك، فرائحتها تحمل رائحة أصابع ليلى التي ما تزال عالقة بأصابعي منذ اللحظة التي صافحتها فيها معزّياً.. يرفع يده، يتشمّمها، ثم يشمّ الورقة، فيبتسم بما يشبه الغبطة، ويهمس:

إنها ذات الرائحة..

يشرد لحظات، ويردف: ليس تماماً.. لكن..

ينتفض واقفاً، يتجه صوب مرآته المعلّقة على الجدار، يحدّق في عمقها، ويصرخ غضبه: ما الذي تريده يا فادي.. ها؟ هيا تكلم.. هل تتمنّى أن تكون الرسالة لك أنت؟ وهل ما زالت ليلى تعشّش في خافيتك؟ لا تُنكر.. لماذا إذن تسطع الروح بنورٍ خجول كلما رجحت كفة الميزان نحوك؟ أتراك سترتمي عند قدميها لو تأكّدتَ أنّ الرسالة لك؟ هل سترمي عماد في جبّ النسيان، وتلبس معطفه وامرأته؟!

لكمتُ المرآة بقبضة الغضب الجريح، خلعت إطارها، صنعت منه صليباً، ألبسته المعطف، حملته على ظهري، وأمام بيت عماد علّقته.

وما زال معطف صديقي ينبض في داخلي، فيصهل القلب، وترتعد من البرد الجوارح.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها