
العَتبةُ بوصفِها مِفْتَاحاً قِرائِيّاً
كتبَ الإماراتيُّ سعيد الحنكي مقدِّمةً لنصّه المسرحيِّ "علبة الثّقاب" (دار عشتار للنّشر والتّوزيع، الشّارقة، 2021) صرّح فيها بالدّلالة التي أرادها منه، وقدّم فيها مفتاحاً قرائيّاً مباشراً للوُلوجِ إليه من دونِ أنْ يعتمِدَ على المُوارَبة أو المُخاتَلة في ذلك، ومع أنّ هذه المقدِّمة تبدو مصادَرةً لفعلِ القراءةِ وآليّةِ التّأويلِ كما يُخيَّلُ للمرءِ أوّلَ وهلةٍ، إلّا أنّه بوسع القارئِ أنْ يستنبطَ من النّصِّ نفسِه دلالةً مُغايِرةً لما رغِب فيه الكاتبُ، ولاسيّما أنّ بنيةَ النّصِّ وآليّةَ تشكيلِهِ تُتِيحانِ له ذلك؛ وفي ظنّي أنّ هذا ممكنٌ، ويقع في طَوْر الاحتمال، فما أكثرَ ما اختلفَ المتذوِّقون للنُّصوص مع مؤلِّفيها في تأويلها، وما أكثرَ ما تمرّدَ النّصُّ على كاتبه، ومدَّ لسانَه له، وانتهى إلى دلالةٍ مغايرة لما ابتغاه، وهذا يُعَدُّ شكلاً من أشكال غِنى النّصِّ ومصدراً لثرائِه، أمّا النّصُّ الذي يظنُّ كاتبُهُ أنّه قادرٌ على التّحكَّمِ به، وصياغةِ دلالةٍ واحدةٍ له لا تتبدّلُ مع تغيُّرِ قرّائِه ومتذوّقيهِ وزمنهِ القرائيِّ فهو نصٌّ فقيرٌ، ومُعرَّضٌ للموتِ بعد نشْرِه بفترةٍ وجيزةٍ، في حين أنّ النّصَّ الثّريَّ هو نصٌّ مفتوحٌ على قراءاتٍ وتأويلاتٍ شتّى، ويحتمل من خلال بنيتِه وآليّةِ تشكيلِهِ دلالاتٍ تتعدّدُ بتعدُّدِ قرّائِه، ومستوياتِ تذوُّقِهم، وآليّاتِ تأويلِهم للنّصوص، وانفتاحِ زمنِهم على أزمنةٍ مَوّارةٍ قيد التّشكّلِ باستمرار.
إنّ الكاتبَ يموتُ بعد اكتمال نصِّهِ، كما قال رولان بارت، ويغدو قارئاً له لا أكثر، ولا يستطيعُ، بعد ظهور نصّه، أنْ يتدخّلَ في فرْضِ آليّة القراءةِ والتّأويلِ التي تتناسب معَ رؤيتِهِ لهذا النّصّ، أوتكونُ مِفْتاحاً قرائيّاً وحيداً له، وليسَتْ قراءتُه لنصّه سوى قراءةٍ مُحتمَلةٍ من جملة قراءاتٍ يمكنُ للمتلقّي أنْ يقوم بها للنّصّ نفسه، بل إنّ كلَا المتلقّي والنّاقدِ قد يخلُصُ، بعد انتهائه من القراءة، إلى دلالةٍ مُغايِرةٍ للدّلالة التي ابتغاها الكاتبُ في نصّه، ولاسيّما إذا كانتْ آليّةُ تشكيله تحتمل هذه القراءةَ، وتُفضِي بالمتلقّي إلى دلالةٍ مُغايِرةٍ لما خلُصَ إليه صاحبُهُ.
التّاريخُ مُسْتعَاداً
وقد ذهب الكاتبُ في المقبوس، الذي استعارَهُ من (ملحمة الحرافيش) لـ(نجيب محفوظ)، وأثْبَته كعتبة نصيّة أولى (ص: 6)، إلى أنّه يملكُ طموحاً لعيشِ حياةٍ أخرى تتغايَرُ مع نمط الحياة الذي يستنيمُ إليه، ولمّح في الإهداء، الذي قدّمَ به لهذا النّصّ، إلى أنّه يتّكئُ على التّاريخ، ويحاولُ استلهامَه في تشكيل متْنِه الحكائيّ (ص: 8)، ونبّهَ، في الفصل الثّاني، إلى أنّ السُّوق والأبنية المُجسّدَينِ في مسرحيّته يرشحان بالانتماء إلى زمنٍ غابرٍ (ص: 26)، ثمّ قدّم ما يدور في هذين الحيِّزَيْن من وقائع تدلّ على الدّوران في فضاء الماضي، وإنْ كان من الممكن لهذه الوقائع أن تحدُثَ في الحاضر أيضاً، وقد لمّحَ إلى أنّ متْنَه الحكائيّ مُستقًى من التّاريخ، غير أنّ القارئ لا يستطيع التّحقّقَ من مدى صدقيّتِه وتطابُقِه مع الوقائعِ المنقضِيةِ المُلمَّحِ إليها؛ فليس في كتبِ التّاريخِ مدينةٌ اسمُها (عمارستان)، أو دولةٌ اسمها (الأمْتَان)، أو حاكمٌ اسمُه (حسّان) من دونِ لقبٍ اشتُهِر به، أوكُنيةٍ عُرِف بها، لكي يستطيعَ القارئُ العودةَ إليها جميعاً، والتّحقّقَ من مطابقتها مع ما أورده المؤلّفُ في عَتبتَيْهِ النّصّيّتَيْنِ ومتْنِه الحكائيِّ، وإنّما هو تخيُّلٌ واختلاقٌ قام به الكاتبُ نفسُه، وزعم أنّه حصل، مع أنّه يقع في باب (التّخيُّل التّاريخيِّ) لا (التّاريخ الحقيقيّ) الذي وقعَ فعلاً، ولذا لا يمكِنُ التّثبُّتُ منه من خلال الرّجوع إلى مصادر تاريخيّة بعينِها.
وقد وشى التّداخُلُ بين الزّمنين، في العتبة النّصّيّة والمتْن الحكائيّ، بأنّ ما سرَدَه الكاتبُ في نصّه لا يزال ممتدّاً في زمننا الحاضر وفقَ الآليّة نفسها التي جعلتْهُ يتوضّع بها في الماضي، ويرشحُ هذا التّداخُل بأنّ ما أورده الكاتبُ في متْنه من وقائعَ لا يزالُ ممكن الحدوث في الحاضر بالطّريقة نفسها التي تَناسَج بها في الماضي، وهذا يعني أنّ وقائعَ الماضِي لم يطرأ عليها تغييرٌ جوهريٌّ ينقلُها من حالٍ أدنى إلى حالٍ أرقى منها، بل بقيَتْ كما كانت عليه، كما أنّ آليَة توضُّعِها في الحاضر لا تزال مطابِقةً لما كانَتْ عليه في الماضي أيضاً، وهذا يعني أنّ الحاضرَ الذي لمّح إليه الكاتبُ ليس سوى تكرارٍ للماضي لا غير، ولكنّه أمسى في المرّة الثّانية (مهزلةً)، بعد أن كان في المرّة الأولى (مأساةً) كما قال ماركسكثأكثرغيرغ.
السّيرورة الجماليّة
تتألّف (علبةُ الثّقاب) من أربعة فصول، وتحكي قصّة ثلاثةِ متسوِّلينَ يدخلون إلى قاعة مسرح، ويتناوشون في الكلام مع المتفرِّجين، ويختلفون معاً حول الحصيلة الضّئيلة التي حصلوا عليها منهم، ثمّ يتنبّهون إلى أنّ العرضَ الذي جاء النّظّارةُ لحضوره لا يُقدَّم لهم، بل يُستبدَلُ بعرضٍ آخر لاعلاقة له بالنّصِّ الحقيقيّ الذي قدِموا لمشاهدته، ثمّ لا يلبث المتسوّلُ الأوّل أنْ يلحظ في العرض المُقدَّم بلّورةً سحريّةً تكتنِزُ حلماً فينجذب إليها، ويُخيَّلُ إليه أنَّه يمكن أن يعبُر منها إلى الماضي التّليد مُتجاوزاً الحاضرَ السَّقيمَ الذي يعيش فيه مع أقرانه المهمَّشين، ثمّ يرتدُّ من الماضي إلى مستقبلٍ أفضل، ويتراءى له أنّ ذلكَ ممكنُ التّحقيق، مع أنّ المتسوِّل الثّاني يرى في ذلك هذياناً وجنوناً، لأنّه في رأيه يحمل وهْماً غير قابل للتّحقُّق، ومع ذلك يستطيع المتسوِّلُ الأوّلُ إقناعَه بأنْ يلحق به مع زميلته المتسوّلة كي يُمسِك بحلمه، فيصدِّقانه بعد تردُّد، وينسلخان عن واقعهما الموضوعيّ الذي يعيشان فيه، وينضمّان إلى العرض المسرحيّ الذي يجري أمامهما من خلال تقنيّة (التّغريب) التي تُستَعارُ من بريخت، ويعبُرَان عبره منْ زمنٍ إلى آخر، ومنْ حياةٍ إلى أخرى، ويعرفانِ عندها أنّ ثمّة مسابقةً ستتمّ للفوز بالأميرة (نجوان) ابنة الوالي والزّواجِ بها؛ وعندئذٍ تُجرِي المتسوِّلة بينهما قرعةً للاشتراك في المسابقة تعتمد على الحظّ، ويخدم الحظُّ المتسوِّلَ الثّاني فيفوز في المسابقة، ويجلب خمسة فئرانٍ حيّة في كيس من الكتّان كما طلب رسولُ الوالي، غير أنّ الوالي يتدخّل أخيراً، فيجهض حلمَ المتسوّل الفائز، وينتهز الفرصةَ ليخطبَ فيه، وفي رعيّته مُقدِّماً لهما درساً في كيفيّة التّعامُل مع الحياة، وآليّةِ تحقيق الأحلام.
بُنيةُ التّوازِي
تنهض المسرحيّة على بُنيةِ التّوازي والتّعالُق بين زمنين: الماضي والحاضر، وتُقِيمُ نوعاً من التّماثُل بينهما في إشارة دالّة إلى توقُّف الزّمنِ في حياة المجتمع التّخيّليّ الذي يشكّله النّصُّ، ومع أنّ شخصيّات المتسوِّلينَ الثّلاثة تعود إلى الماضي لتحقيقِ أحلامِها، والخلاصِ من حاضرها المأزوم الذي تتعالق معه، إلا أنّ هذه العودة لم تضمن لها الخلاصَ ممّا هي فيه، ذلك أنّ العودة بحدّ ذاتها تبدو مستحيلةً علميّاً، ولا يمكن الرّكونُ إليها لتجاوُز أزمات الحاضر المستعصِية؛ ولذا أخفقَتْ شخصيّاتُ المتسوّلين الثلّاثة في تحقيق أحلامها من خلال هذه العودة؛ لأنّها لم تمتلك المؤهِّلاتِ الشّخصيَّة المطلوبة لذلك؛ فهي تعيش عالةً على الآخرين، وليس لديها عملٌ يساعدها على إنجاز ما تحلم به، إنّ حياتها تعاني من الرّكود والرّتابة، وتفتقر إلى النّشاط والحيويّة اللّذيْنِ يُمكنّانِها من تغيير واقعها، أو تجاوُز أزماتها؛ ولذا بدا ما حقّقه المتسوِّلُ الثّاني من فوزٍ في المسابقة التي أقامها الوالي أمراً يعتمد على الحظّ، لا على ما يملكه من أفكارٍ مستنيرةٍ وقدراتٍ ذاتيّة، وهذا ما جعل الحاكمَ في نهاية المسابقة يخطب في رعيّته وجمهور المتسابقين محيلاً سببَ الأزمات التي يعانونها إلى الاستسلام للعادات والتّقاليد، والرّكون إلى الكسل والاتّكال على الآخرين، ومذكِّراً إيّاهم بضرورة تغيير عاداتهم وتقاليدهم بغية التّخلُّص ممّا هم فيه، واستِنْباتِ الظُّروفِ الموضوعيّة والآليّاتِ الممكنةِ التي يمكن أن تُساعِدهم في القضاء على أسباب معاناتهم. رعية ويحملها مسؤولية هذا الركود، ويطالبها بتغيير عاداتها وتقاليدها، دون أن يأتي على ذكر نمط الحكم الذي يسوس به بلاده، أو
مستويات اللّغة
ويمكن للنّاقد أنْ يرصد في آليّة تأليف النّصّ وتركيبه مستويين للّغة: لغة الوالي ورجاله التي ترشح بالهيمنة والقهر والإقصاء، وتغصُّ بأفعال الأمر والنّهي والزّجر، وتشِي بوجود مسافة بين الوالي ورعاياه، لا يجوز لأحد أن يتجاوزها (ص: 50)، ولغة الرّعية التي ترشح بالخضوع، والطّأطأة، وقبول الأمر الواقع، والانصياع لما يريده الوالي ورجالُه، وقد تغيَّرت بنيةُ الجملة في كلا المستويين، ودلّت آليّةُ تركيبها على هُوِيَّة مستخدمِيها، وتحدُّرهم من شريحةٍ اجتماعيَّةٍ معيَّنةٍ، كما وشَتْ بالمكانة السّياسيّة والاجتماعيّة التي يتبوّؤنها في المجتمع التّخيُّليّ الذي شكّله الكاتب.
وتنضح المسرحيّة بمنطوقات تهكميّة ساخرة ترشح بها اللُّغة التي يستخدمها المتسوِّلون الثّلاثة، وتكشف عن الفارق الاجتماعيّ بينهم وبين جمهور المتفرِّجين الذين يختلطون بهم، وتتّكئ لغةُ المتسوِّلين على الوعي الدِّيني الشّعبيّ في استمطار الرّحمة والمساعدة من جمهور النّظّارة الذين يتمّ اللّقاءُ بهم في قاعة المسرح (ص: 16)، غير أنّ هذا الجمهور يُدِير ظهرَه إلى المتسوِّلين، ويطالبهم بالعمل بدلاً من بقائهم مهمَّشين، والاتّكاءِ على جهود الآخرين في جَنْيِ لقمة العيش.
وقد حرِص الكاتبُ على تأكيد أنّ الرّعايا قد يتماهَوْن أحياناً مع حاكمهم ورجاله، ويتبنَّون لغتَهم، ويجدون ذواتِهم في تقمُّص دور الوالي أو أحد رجاله كما في الصّفحة (46)؛ إذ يتبنّى الرّجلُ الثّالثُ والمرأةُ الأولى لغةَ الأمر والنّهي والتّخويف في مخاطبة المتسوِّل الثّاني ممّا يجعله يُصَابُ بالرُّعب؛ ولاسيّما بعد أن طلب منه الرّجلُ الثّالثُ بلغة تهكميّة زاجرة أن يعترف بما يُضمِره في نفسه تُجاه رسول الوالي، وهي لغة يستخدمها رجالُ الوالي، وليس الرّعايا المحكومين أنفسهم. وقد انتهز الرّجلُ الثّالثُ خوفَ المتسوِّلينَ منْ رسول الوالي، ولاحظ أنَّ أرجلَهم تصطكُّ إذا ذُكِر اسمُه أمامهم، فقادهم للمثول أمامه وهم صاغرون، ولاحظ رسولُ الوالي مدى الخوفِ الذي حاق بهم من مجرّد المثولِ أمامه؛ فحرص على استخدامِ لغة الأمر والزّجر في مخاطبتهم، من مثل "اسكتْ" و"صهْ" و"قفْ"، و"كفى"، و"هسّْ"، وما يماثلها، فتضاعف خوفُهم، وكادوا يقعون على الأرض من الرّعب الذي أصابهم.
تركيب
وفضلاً عن ذلك كلِّه يختلط الواقعُ مع الخيال في النّصّ، والعجيبُ مع اليوميّ، والخارقُ مع المحتمَل، والأسطوريُّ مع الواقعيّ، ويُستثمَر ذلك كلُّهُ في بناءِ نصٍّ ثريٍّ ومفتوحٍ على عددٍ لامنتاهٍ من الدّلالات، ويعتمد الكاتبُ في تشكيله على تقنيّة التّغريب عند بريخت بغية إلغاء المسافة بين النّظّارة والممثّلين، والانتقال بين الأزمنة بسلاسة وبراعة من دون مفاتيح سرديّة دالّة ترشح بذلك، بحيث يُتاح للمتلقّي التّنقُّلُ من زمن إلى آخر دون أن يشعر بذلك، كما يفلح الكاتبُ في استخدام مستوياتٍ متعدّدةٍ من اللّغة، فيمزج بين العاميّ والفصيح أحياناً، ويستخدم لغةً تبدو كالمداميك بحسب تعبير مارون عبود، وينجحُ في تقديم نصٍّ بصريٍّ ممتعٍ يجمع بين عمق الفكرة، وسلاسة اللُّغة، والقدرة على تشكيل شخصياتٍ معبِّرةٍ عن زمنها، وشاهدةٍ على عصرها في آنٍ معاً.