أجرت الحوار: صوفيا بوجاس

يُعدّ علم التشريح من أكثر العلوم التي أثارت شغف "ليوناردو دا فنشي Leonard de vinci"، والتي أولاها اهتماماً خاصاً. فما الذي جعل هذا الرسام مميزاً عن غيره من معاصريه في هذا المجال؟ في هذا الحوار يُقدّمُ دومينيكو لورنزا1؛ الباحث المتخصص في تاريخ العلوم، تحليلاً وافياً لهذا الموضوع.
● متى بدأ اهتمام دا فنشي de vinci بعلم التشريح؟
دومينيكو لورنزا: لطالما كنا نعتقد أن رسومات دا فنشي الأولى كانت قد أُنجزتْ في وقت متأخر من مسيرته الفنية، عندما كان مقيماً في ميلانو. وفي الواقع، بحلول أواخر سنوات 1470، أثبتت بعض الرسومات التي أنجزها في فترة شبابه، حيث كان مقيماً بفلورنسا، اهتمامه المبكر بالموضوع. فلوحة القديس جيروم –مثلاً- التي رسمها في شبابه، والتي تم الاحتفاظ بها في مكتبة الفاتيكان، تدل أيضاً على اهتمامه بعلم تشريح العضلات.

● في كتابكم المعنون بـ"ليوناردو دافنشي: تشريحات"، تبينون أن دافنشي قد انتقل خلال مسيرته الفنية من التشريح الفني إلى التشريح العلمي. كيف تفسرون هذا التطور؟
قد تكون هذه القضية من بين أكثر القضايا التي يستعصي فهمها على معاصرينا، الذين اعتادوا على تبني فصل صارم بين الفن والعلم. فبوصفه رساماً، بدأ اهتمام دافنشي بعلم التشريح، وبدراسة الجهاز العضلي، على سبيل المثال، وذلك بغرض تصوير حركات الجسد البشري. ولكن مع مرور الوقت، شرع في إيلاء الاهتمام لعدد من المواضيع التي ليست لها أية علاقة بالفن بمعناه الضيق، وهنا أصبح اهتمامه علمياً، حيث انصبت دراساته على القلب، والأمعاء... وبهذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن من بين الجوانب المميزة لعصر النهضة على وجه الدقة، هو ذلك الطموح اللامحدود لإحداث ثورة مباشرة بين العلم والفنون، وهو ما يمثله ليوناردو أفضل تمثيل. وبهذا يتميز دافنشي عن مايكل أنجلو، فهذا الأخير قد حصر دراساته التشريحية في العضلات والعمود الفقري، وكل ما يمكن أن يفيده في تصوير الأجساد العارية. وفي مقابل ذلك، اهتم ليوناردو بكل جانب من جوانب التشريح الداخلي. وتبعاً لما سبق؛ فإذا كان مايكل أنجلو يمارس التشريح باعتباره رساماً، فإن ليوناردو قد حوَل نفسه من رسام إلى مشتغل بالعلوم.
● ولكن كيف يمكن لعلم التشريح أن يفيدنا في الحكم على أن رسومات دا فنشي أصلية؟
لم يسبق أبداً لعلم التشريح أن مُثّل تمثيلاً كاملاً إلا في لوحات دا فنشي. إنه يجعل من الصورة وسيلة تفوق مستوى اللغة في وصف الجسد. فهو يستخدم أفكاراً مبتكرة وتصورات جديدة ذات ثراء استثنائي: يتعلق الأمر بالجسد الذي يتم تصويره بكل شفافية، من زوايا نظر متعددة، وكأنه قد صُوِّرَ بعدسة كاميرا... وربما يرجع السبب في عدم نشر مقالات دا فنشي إلى تعقد رسوماته، حيث كان يفكر فيها ملياً، كما نعلم. ومن الصعب أن نحدد أيّ هذه الرسومات هو الأكثر تميزاً. فسلسلة رسومات الجماجم البشرية التي يعود تاريخها إلى سنة 1489، والتي تم الاحتفاظ بها في مكتبة ويندسور، تمثل على الأرجح واحدة من أكثر رسوماته نجاحاً. وذلك بسبب الدقة الفائقة لخطوطها، والبحث الناضج اللذين تجسدهما هذه الرسومات. فليوناردو لم يكتفِ بتصوير شكل الجمجمة تصويراً تاماً، ولكنه أيضاً قد بذل جهداً في تحديد مركز الروح، وهو ما سمّاه "الحس المشترك السليم". وهكذا فالأثر الفلسفي لا يقتصر على التشريح، بل يتجاوزه إلى مجلات أخرى أرحب وأعمق.
● ما مدى معرفة ليوناردو بعلم الطب في زمانه؟
يتميز ليوناردو باطلاعه الواسع على مختلف مجالات المعرفة، على الرغم من أن معرفته باللاتينية كانت محدودة؛ إذ إنه لم يلتحق بالجامعة. وهكذا فقد تمكن من الاطلاع على النصوص الرئيسة للطب في زمانه، والتي تُرجم جُلّها إلى اللغة الإيطالية. فقد استشهد بكبار الأطباء القدامى: الطبيب اليوناني جالينوس الذي عاش في القرن الميلادي الأول، والطبيب الفارسي ابن سينا الذي عاش في القرن الميلادي العاشر، والطبيب الإيطالي مدانيوس الذي عاش في القرن الميلادي الثالث عشر، بل غالباً ما كان يستدرك عليهم في العديد من القضايا! مع أنه ليس الوحيد الذي شُغل بهذه القضايا. وبحلول القرن الرابع عشر الميلادي، أعاد الأطباء اكتشاف أهمية علم التشريح. وخلال القرن الميلادي الخامس عشر، أظهر العديد من الفنانين، وخاصة بفلورنسا، وتحديداً انطونيو دل بو لايدلو اهتمامهم بعلم التشريح قبل ليوناردو دافنشي. لكن يظل القرن 16 الميلادي، هو القرن الذي يمكن أن يوصفَ بأنه قرن علم التشريح سواء من وجهة نظر الأطباء أو الفنانين.
● كيف مرّن دافنشي نفسه على ممارسة التشريح؟
خلافاً للاعتقاد السائد، لم يمارس ليوناردو التشريح في أماكن معزولة وسرية، بل مارسه داخل عدد من المستشفيات، حسبما نعلمه. يتعلق الأمر بوجه عام بتشريح عدد من الجثث أجراه دا فنشي لكي يفهم أسباب وفاة أصحابها. وفي هذا الإطار قام ليوناردو حوالي 1507-1508 بفلورنسا بتشريح جثتيْن: إحداهما لرجل عجوز، والأخرى لطفل؛ كلاهما توفي نتيجة الإصابة بأحد الأمراض، وذلك بمستشفى سانتا ماريا نوفا.
● لماذا اتُهم ليوناردو بالإلحاد على الرغم من أن الكنيسة آنذاك، لم تبدِ أيّ موقف معارض لأعماله التطبيقية في علم التشريح...؟
لم يُتهم دافنشي بسبب تشريحاته في حد ذاتها؛ وإنما بسبب الآثار الفلسفية لهذه الأبحاث التشريحية. فعلى سبيل المثال، تساءل ليوناردو في إطار دراساته لعلم الأجنة، عما إذا كان الجنين يمتلك روحاً، أو أن روح الجنين متعلقة بروح أمه: فهو إذن قد أثار منذ وقت مبكر عدداً من الأسئلة التي نصطلح عليها الآن بـ"أخلاقيات علوم الأحياء". ومن ثم، انطوت أبحاثه بقوة على مقاربة مادية للروح، فيما ذهبت الكنسية إلى أن الجنين يمتلك روحاً إلهيةً، وذلك في وقت محدد من نموه.
● هل أثرتْ معرفة دا فنشي بالهندسة المعمارية ذات الصلة الوثيقة بالجسد البشري في طريقة تصويره له؟
تنعكس دراسات دا فنشي للجماجم أو علم الفراسة (والتي تستكشف العلاقة القائمة بين الروح والجسد، من خلال معرفة المزاج والخلُق انطلاقاً من ملامح الإنسان) بصورة واضحة على الكيفية التي كان يصوّر بها الحركات المليئة بانفعالات الحَواريين في لوحة العشاء الأخير. وبالمثل، تَظهر دراساته في علم التشريح المقارن بين الإنسان والحيوان في لوحته الجدارية المفقودة إلى الآن (وتسمى أيضاً بـ:ليوناردو المفقود)؛ وهي لوحة معركة أنغياري (1505م). فهذه اللوحة تكتنفها حالة من الالتباس المحيّر، حيث تجمع في آن بين العديد من الرجال والخيول. وحتى لوحة الموناليزا بمنظرها الرائع قد تأثرت بنظريات دا فنشي حول تدفق السوائل في باطن الأرض.
● ما الذي سيضمن الخلود الفني والعلمي للدراسات التي أنجزها دا فنشي بصدد علم التشريح؟
نظراً لأن دا فنشي لم يقم بنشر أعماله، فقد كان تأثيره في علماء التشريح الذين جاؤوا بعده ضعيفاً. وفي مقابل ذلك، كان تأثيره قوياً في فنانين آخرين، وربما أيضاً في بعض المشتغلين بالحقل العلمي، والذين أعادوا نقل وقراءة ابتكاراته البصرية في مصنفاتهم. ومع ذلك، تظل هذه النقطة بالذات غير واضحة قد تجلي غموضها بحوث المستقبل.
1. دومينيكو لورنزا: باحث إيطالي يشتغل بمتحف غاليليو، التابع لمعهد تاريخ العلوم بفلورنسا. متخصص في الدراسات التقنية والعلمية عند ليوناردو دا فنشي. وقد ألف في هذا الإطار عدداً من الكتب نذكر من بينها: آلات ليوناردو دا فنشي؛ أسرار واختراعات الرموز، وليوناردو دافنشي، تشريحات.
المصدر
Sophie Pujas, Entretien avec Dominico Laurenza, Le Point Hors-Série,Les grandes biographies, n° 26 , octobre-novembre 2019, pages ; 82-83