مسرح الشارع..

بين تعددية الأشكال وإشكالية المصطلح

د. محمود كحيلة


شهدت شوارعنا العربية بمختلف مدنها وعواصمها تجارب مسرحية عديدة، تنتمي إلى نوع مسرحي عريق هو "مسرح الشارع Street Theatre"، الذي عاد مؤخراً في حلة جديدة، وانتشر بصيغة حديثة تختلف في الشكل والمضمون عن تلك الظواهر المسرحية القديمة التي دونتها الأبحاث والدراسات النقدية لهذا النشاط الفني والثقافي، قبل ظهور المسرح العربي، والتي تشمل ألعاب القراقوز وخيال الظل، وصندوق الدنيا وغيرها من المظاهر الدرامية القديمة.
 

ويعرف "مسرح الشارع" بأنه ذلك النوع المسرحي الذي يقدم عروضه المسرحية في فضاءات غير تقليدية، والفضاء المعني هو البناء المسرحي التقليدي المتعارف عليه حالياً، والذي يسمى مسرح "العلبة الإيطالية" المنتشرة حالياً بكثرة وفي كل أنحاء العالم، والمكونة من منصة خشبية مرتفعة، وبراقع وكواليس تخفي التجهيزات الفنية، وتحجب عن عيون الجمهور ما يجري من استعدادات وإعدادات وراء الستار. أضف إلى ذلك صالة كبيرة ذات مقاعد في الغالب مريحة ووثيرة، يجلس عليها المشاهدون. إضافة إلى كشافات ومصابيح وأجهزة ضوئية وخلفيات تشكيلية ومستلزمات مناظر وديكورات. ويقدم في أماكن مفتوحة بعيداً عن الأبنية المسرحية التقليدية، وهي تستقطب حالياً كثيراً من المسرحيين المعاصرين، بسبب ما خلفته أزمة جائحة "كورونا"، والرغبة الشعبية الفطرية في نقل ما أمكن نقله من التجمعات الجماهيرية إلى أماكن مفتوحة متجددة الهواء للحد من انتشار عدوى الأجهزة التنفسية. وبدأت تلك العودة بمبادرة شجاعة من مخرجة فرنسية شهيرة هي "أريان منوشكين" مؤسسة جماعة مسرح الشمس، والتي كانت وقت ذاك عام 2020م في الثمانين من عمرها، وبالرغم من ذلك خرجت على رأس فرقتها الشهيرة إلى شوارع باريس لتقديم عرض فني تعبيري نقلته وكالات أنباء عالمية، تحرض فيه شعوب فرنسا والعالم على تحدي الجائحة والصمود بكل قوة في مواجهة الممرضات؛ أي مسببات الأمراض سواء كانت بكتيريا أو فطريات أو فيروسات.

 

تسميات متعددة:

هكذا عاد المسرح إلى حيث بدأ من الشارع وكان ذلك عام (534 ق. م) بواسطة "ثيبس"، وعربته الشهيرة عند الإغريق القدماء منذ ما قبل الميلاد؛ لأن علاقة المسرح بالشارع علاقة عريقة وأصيلة. وعلى المستوى العربي لم تنقطع أو تختفي الظواهر والإرهاصات والمظاهر المسرحية يوماً من الأسواق والشوارع العربية بكافة مستوياتها، ولا زالت عروض مسرحية تقدم في حدائق عامة ومراكز وأندية شبابية، وأفنية المدارس وقاعات الفنادق، ولم يكتف بذلك؛ وإنما توالت الأفكار وتعددت المبادرات التي تنتمي إلى هذا النوع المسرحي الذي ظهر في شارقة دولة الإمارات العربية المتحدة على هيئة مهرجان المسرح الصحراوي، وآخر للمسرح الكشفي. وفي سلطنة عمان اتخذ مسمى موازياً هو المسرح الدائري، وفيها أيضاً شاهدنا مهرجان سندان لمسرح الشارع. وفي مصر لم تتوقف عروض الهواء الطلق والفضاء المفتوح في أسفل الكباري، وحدائق المسارح وساحات الأوبرا، والميادين العامة، ولا سيما ميدان التحرير الذي شهدت تجمعاته الشعبية عدداً كبيراً من العروض المسرحية. وفي لبنان والجزائر والمملكة المغربية ظهرت كثير من عروض مسرح الشارع، وعلى الصعيد الغربي يرتبط هذا النوع المسرحي في ذهن الأنظمة بالتحريض والتمرد.

ولكي يمارس الفنانون ألعابهم أمام أعين المؤسسات الفنية والثقافية الحكومية؛ أنشأت مسارح مخصصة لعروض الشارع ذات أبنية غير تقليدية، وسرعان ما انتقل هذا البناء إلى مصر في هيئة مسرح الغد للعروض التجريبية، وعدد كبير من قاعات العروض المسرحية غير التقليدية، مثل قاعة "صلاح عبدالصبور"، و"صلاح جاهين"، ومركز الإبداع الفني بالأوبرا، وغيرها من الفضاءات البديلة التي أمكنها استقبال عروض مسرحية شديدة العمق والأهمية، ولقيت قبولا جماهيريا ونجاحا نقدياً، رغم توصيات المنظرين بضرورة تخفيف الجرعة الفكرية والثقافية لعروض مسرح الشارع.
 

اهتمام متزايد:

تضاعفت أعداد المهرجانات المتخصصة في مسرح الشارع كما هو معلوم في كل أنحاء الوطن العربي، الأمر الذي يعكس مدى انتشار هذا النوع من المسرح عالمياً وعربياً، ومن أحدث هذه التفاعلات مع مسرح الشارع أن خصص له "مهرجان أكاديمية الفنون المصرية 2024م" مساراً خاصاً، ومن قبله "مهرجان ظفار الدولي بصلالة" في سلطنة عمان، وفي العراق "مهرجان كركوك الدولي لمسرح الشارع"، والذي قدم على هامش المهرجان مؤتمرات وموائد بحثية لمزيد من التعريف بهذا النوع المسرحي القديم المستجد.

ويرجع السبب وراء حسن استقبال عروض مسرح الشارع وسرعة انتشارها إلى أنها عروض عصرية وتفاعلية، يمتزج فيها المشاهد مع المشهد، ومن الممكن أن يشارك المشاهد في إكمال المشهد، بل هو مشارك بالفعل لأن غيابه يعني توقف العرض الذي يتماشى في بنائه وتكوينه مع المواقف التي تجذب انتباه الناس من مشاهد الشارع التي يسهل تداولها، ويحسن ألا يتجاوز زمن عرضها نصف ساعة، ويجب أن تتسع لتشمل كثيراً من الممارسات الخاصة بالأنواع المسرحية القديمة والحديثة، مثل مسرحيات الدمى والعرائس بكافة أنواعها؛ لأن الشارع كيان كبير وعالم واسع من الفضاءات بما يشمله من أزقّةٍ وميادين وساحات، ومراكب وقطارات وأجران وساحات. ويشمل هذا النوع المسرحي كل ما يمكن أن يقدم من عروض تحت الأرض؛ أي حتى في مترو الأنفاق، أو أي فضاء مشابه، ويشمل أيضاً ما يعرض فوق مستوى الأرض مثل الكباري وأسطح الفنادق أو الأبراج، وكذلك ما يعرض في السماء كعروض قد تجري في المستقبل بالقطارات الطائرة أو الطائرات، وكذلك العروض المائية المحتملة بالسفن والمراكب وغيرها من وسائل النقل المتحركة بالشوارع، التي تتسع لتشمل أي مكان غير تقليدي تقدم فيه عروض مسرحية حتى لو كان هذا المكان قد أنشأ خصيصا لتقديم هذه العروض، بحيث يوفر فضاء مشابه لفضاء الشارع يتحلق فيه المشاهدون حول الممثلين.

وهكذا يشمل مسرح الشارع شريحة كبيرة من العروض إلى حد جعل الأمر يختلط حتى على المتخصصين، الذين أصبح من واجبهم محاولة فك الاشتباك ببيان ماهية مسرح الشارع، وعرض ما يميزه عن غيره من الأنواع المسرحية الأخرى التي من المعتاد أن يحدث بينهم وبينه تعارض عندما تضطر مسرحية صممت على أساس العرض بالشارع ولكنها تضطر أن تعرض في مسارح تقليدية، وعلى سبيل التصرف يستدعى الجمهور إلى منصة المسرح أو يتم تجاهل المنصة، ويقدم العرض حيث يجلس الضيوف، الأمر الذي يؤدي إلى ارتباك وخلط عند محاولة تصنيف هذا النوع المسرحي.

وتشمل قائمة عروض مسرح الشارع كافة العروض المسرحية العربية الرائدة التي قدمت في بيوت الرواد، أو عرضت بتجهيزات بسيطة في أماكن مفتوحة في مصر وسورية ولبنان. وفي الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية خصصت شعبة لإنتاج هذه المسرحيات تسمى (مسرح الأماكن المفتوحة)، تُقدّم عروضاً من هذا النوع المسرحي ترجع إلى عام 2004م، ولم تخلُ دورة من دورات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي من عروض تنتمي إلى مسرح الشارع.

تجارِب عالمية:

تعكس عروض مسرح الشارع رغبة حقيقية صادقة من صناع العروض المسرحية في التعبير عن قضايا وهموم الجماهير، ومن التجارب الشهيرة عالمياً في هذا المسار تجربة المسرحي البرازيلي "أوجستو بوال 1931-2009م"، التي كلفته بها حكومة بلاده لتوعية الشعب من مخاطر الجهل والأمية، والتي قدم فيها تجارب إيجابية شعبية رائدة استطاع أن يحرض فيها جماهيره ضد الجهل، وما يترتب عليه من خسائر وسلبيات، وقدمت أغلب مسرحيات "بوال" في أماكن عامة، ولهدف التحريض على الخير ومساندة الضعفاء؛ مما عرف بـ"مسرح المقهورين"، والذي يشمل النكرات والمهمشين بكل فئاتهم وأشكالهم، وهي تجربة مسرحية هامة لصالح تنوع مسرح الشارع التي من أحدث مظاهرها في مصر ما يمكن تسميته "عروض المراكب النيلية"، والتي تعرض في مدينة رأس البر الشهيرة ملتقى ماء النيل بماء البحر، وتكون عبارة عن مقاطع تمثيلية متنوعة وسريعة ومضحكة، كتلك المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، وهناك تنافس المراكب بعضها في جذب الجماهير إلى الجولات النيلية بتلك العروض المسرحية التي تبدأ قبل دخول المركب لاستقطاب الأطفال. وتتميز هذه العروض القصيرة عن عروض مواقع التواصل بأن مؤديها أشخاص يتحركون أمام أعين الجماهير التي تتفاعل وتشارك في العرض؛ الأمر الذي يعلي من شأن هذه الحالة الدرامية، ويكسبها مزيداً من الرواج والجاذبية والأهمية.

من أهم مميزات مسرح الشارع أيضاً أنه يستغني عن الديكور أكثر العناصر المسرحية طلباً للمال؛ ولذلك لا يحتاج إلى إنتاج، ويناسبه ندرة الموارد المالية، ويستوعب أكبر قدر من الطاقات الإبداعية البشرية، وهو يعكس رغبة حقيقة صادقة من صناع العروض المسرحية في إسعاد الجمهور، وتقديم الخدمة الفنية والثقافية والمسرحية لهم بصورة مجانية، ويقدم مسرح الشارع عروضه كما رأينا في أي مكان حيث يبادر المسرح بالذهاب إلى الجماهير في أماكن تجمعهم ولا ينتظر أن يأتوا هم إليه، ويقدم لهم خدماته من دون أي مقابل مبادرة اجتماعية وثقافية وفنية من قبل صناع المسرح، الذين قرروا تقديم عروضهم بعيداً عن المسارح التقليدية الغائبة غالباً عن هذه المواقع، والتي يفتقدها أساساً رواد وسكان مناطق كثيرة من أمتنا العربية، ولعل في ذلك النوع تعويضاً لهم عن ذلك الغياب ليكون هناك مسرح شارع أفضل من الغياب التام للمسرح.
 

خصائص مسرح الشارع:

من بين خصائص مسرح الشارع السعي إلى مناطق تجمع الجماهير وعدم انتظارها بالأماكن التقليدية، كما أن هناك فئات بعينها لا ينتظر أن تأتي؛ لذلك يذهب المسرح إلى الفئات المحرومة من الخدمات الفنية والثقافية المجانية، ويجعل الجمهور الجاهل بأهمية وحلاوة وجمال المسرح، يتعرف عليه ويحبه، بعد ذلك يساهم في رقي المسرح ولو بحسن التلقي والقدرة على التذوق الفني. ويرمي كذلك مسرح الشارع إلى مفاجأة الجمهور بالقضايا التي يطرحها العرض، والحصول على ردود فعل فورية، وخلق بيئة جديدة لعرض المواهب التمثيلية والإبداعية، وكذلك إنتاج عروض مسرحية بسيطة ومدهشة ومفيدة، تعتمد بشكل أساسي على العنصر البشري، وجذب جماهير الشارع لدقائق من السكينة والفن بعيداً عن دوامة عجلة الحياة التي لا تتوقف.

عربياً أصبحت لدينا محاولات جادة وجديدة؛ لإحياء وانتشار هذا النوع المسرحي في الشارع العربي، كما هو الحال في كل بلدان العالم، ولاسيما بالمناطق النائية، وهذا النوع يتقدم بقوة كلما خصصت لعروضه مساحة في المهرجانات المسرحية العربية، وهذا المقال محاولة لرصد وتوثيق ما جري بالفعل، ودعم ما يتم من تطورات بشأن هذا التوجه الإيجابي الهام، نحو تحديث ورصد وتوثيق التقدم الحادث بشأن مسرح الشارع، من دون إهمال التجارب التقليدية، التي لا زال لها نفس القدر من الأهمية.

إذنْ؛ مسرح الشارع هو نوع مسرحي قديم متجدد، يتطلب نوعية خاصة من المشاركين الملمين بمختلف المواقف المحتملة، والذين يتمتعون بمهارة في السيطرة على الحضور وصولا إلى الهدف الأسمى لتجارب الشارع المسرحية، والتي يجب أن تستثمر في مناقشة موضوعات أخلاقية تدعو إلى التسامح والمرونة، ونبذ التعصب والعنصرية، وأن يحرص صناعها على تبادل الأفكار والخبرات والثقافات والفنية مع مشاهديهم لاكتساب عروضهم مزيداً من البهجة والمتعة النفسية؛ لأن المتلقي كلما تورط في العرض وشعر أنه جزء منه كلما آتت التجربة المسرحية أجمل ثمارها، وهذا الأمر يؤدي إلى نتائج أفضل بمراحل من نظيرتها التقليدية، كما أنه من الضروري اختيار موضوعات مناسبة لمكان عرض مسرح الشارع موضوعات ذات معايير تتعلق بحالة ووضع الجماهير ومشاكلهم واهتمامتهم، ويحسن أن يتم ذلك من خلال الكتابة المسرحية الجماعية التي تنتج موضوعات أكثر قدرة على تحقيق الجاذبية المرجوة المناسبة لمشاهد الشارع ومسرحه، الذي يحتاج في ظل انتشاره الكبير، وتعدد أشكاله إلى إنشاء مؤسسات متخصصة لإعداد كوادر مؤهلة بكل ما هو جديد من العلم والمعرفة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها