رهانات مفهوم الثقافة.. واستخداماته الاجتماعية

محمد ادعيكل

يشهد مفهوم الثقافة مند عقود نجاحاً مطرداً.. وتنزع الكلمة نحو تعويض مصطلحات أخرى كانت –قبلُ- أكثر استعمالاً، شأن: "ذهنية"، و"روح"، و"تقليد"، وحتى "أيديولوجيا"، وقد أدرج مفهوم الثقافة حديثاً، في الحقول الدلالية التي كانت، ضمن المفردات السياسية، إذ يكون الحديث عن "ثقافة الحكم"، مقارنة بـ"ثقافة المعارضة"، ويمتدح البعض "ثقافة اللامركزية" التي يتوجب أن يستعاض بها عن "ثقافة المركزية". فكيف ينظر دنيس كوش لموضوع "رهانات مفهوم الثقافة واستخداماته الاجتماعية"؟

يمكّن تعدد دلالات كلمة "ثقافة" كما يرى ذلك دنيس كوش من التلاعب المراوح بين معناها النبيل، وهو "المثقف"، ومعناها الإثنولوجي التخصيصي. وكهذا يمكن لأي مجموعة، اليوم، أن تزعم لنفسها ثقافة خاصة. كل شكل تعبير جماعي يصبح "ثقافة"، وهكذا يتم الحديث مثلاً: عن ثقافة "الهيب هوب"، و"الثقافة الكروية"، وثقافة الهاتف المحمول"، إلا أنه لا يمكن المماثلة بين هذه الممارسات وما تستتبعه، وبين أنساق شاملة لتأويل العالم، والتصرفات المناسبة لما تعنيه الأنتروبولوجيا بـ"ثقافة". ومن ثمَّ؛ فإن الإعلان الذاتي عن ثقافة مجزأة غالباً ما يكون ردة فعل على هيمنة اجتماعية ما. أن التأكيد بالقول: "تلك هي ثقافتي" يفترض أنه يشرّف وأن يمحو، بوجه من الوجوه، علامات الدونية، إذ تُستعمل العبارة وكأن كل الثقافات ذات قيمة متساوية.

يقدم لنا دنيس كوش مثالاً ذي الدلالة الخاصة عن التلاعب الدلالي، هو ما تقوم كبرى المعاهد الفرنسية التي قايضت، كلمة "روح" (روح المعهد) بكلمة "ثقافة". على أن المؤسسات التي، من بين هذه، تعمد أكثر إلى الإحالة المتكررة، بل المفرطة في إصرارها، على ثقافتها الخاصة، هي تحديداً تلك التي لا تنتمي إلى الدائرة الضيقة للمعاهد الأعلى صيتاً، مثلما حال المعهد القومي العالي للفنون والحرف. غير أنه يمكن لكلمة "ثقافة"، في سجل آخر، وعبر استخدامات لا تقل اعتباطية، أن تكتسب معنىً صريح السلبية، كما هو الشأن في عبارة "ثقافة الموت"، التي تواتر استعمالها لدى البابا يوحنا بولس الثاني منذ 1995، تشهيراً بالإقدام على الإجهاض، أو في عبارة "ثقافة الكراهية"، التي استخدمها وزير الداخلية الفرنسية سنة 1998 لوصف عنف بعض عصابات شباب الضواحي. إذن؛ نحن أمام استخدام غير ملائم لمصطلح "الثقافة"، والنتيجة أنه يؤدي إلى تشويش مفاهيمي.
 

✧ مفهوم الثقافة السياسية 

كلمة "ثقافة" اجتاحت أيضاً المسرح السياسي بتعبير دنيس كوش، واستعمال السياسيين لها أمكن أن تتبدى فيه وكأنها لازمة مستهجنة في الكلام. هذا الاستعمال المفرط لها يجب إلا يؤدي إلى التخلي عن استعماله في علم الاجتماع السياسي، ولا أن يحجب أهمية ربط الظواهر الثقافية بالظواهر السياسية. وتنهي استفهامات أساسية، بالنسبة إلى المجتمعات المعاصرة، إلى التساؤل عن هذا الربط، شأن مسألة كونية "حقوق الإنسان"، مثلاً. ويعمد الباحثون، من أجل تعقل البعد الثقافي للسياسة، إلى استخدام مفهوم "الثقافة السياسية".

هذا المفهوم حسب دنيس كوش، انبنى في سياق بلوغ البلدان المستعمرة استقلالها، ولقد كشف تكوين الدول الجديدة في العالم الثالث أن استيراد المؤسسات الديموقراطية لم لكن يكفي لتأمين اشتغال الديموقراطية، وهذا ما حدا بعالم الاجتماع إلى التساؤل عن الأسس الثقافية للديموقراطية، إذ كل نظام سياسي بدا مرتبطاً بنسق قيم وتمثلات أي بثقافة مميزة لمجتمع معين. في هذا المستوى الأول من التفكير يكون مفهوم "الثقافة السياسية"، وثيق الصلة بما كان يسمى سابقاً "الطابع القومي".

إن ما يكسب المفهوم نجاحه هو وجهته المقارنة، كأن يفترض فيه أن يسمح بفهم ما يحفز، أو يعطل جدوى إرساء مؤسسات حديثة. فقلد أخضع الباحثان الأمريكيان سيدناي فربا (Sidney Verba)، وغابريال ألموند (Gabriel Almond) خمسة بلدان للمقارنة (الولايات المتحدة، وبريطانيا، وألمانيا، وإيطاليا، والمكسيك)، منطلقين من تحليل مختلف أشكال التصرفات السياسية، وانتهيا إلى نمذجة للثقافات وللبنى السياسية التي تتناسب معها وظيفياً: فمع الثقافة الرعائية (نسبة إلى الرعية) المتمحورة على المصالح المحلية تتناسب بنية سياسية تقليدية ولا مركزية، ومع ثقافة "الخضوع" التي تتغذى السلبية لدى الأفراد تتناسب بنية تسلطية، وأخيراً تتساوق ثقافة "المشاركة" مع البنية الديموقراطية. إذن؛ كل سياسة ملموسة في ثقافة مزيج، إذ يمكن أن تتعايش نماذج الثقافة الثلاثة. ويبقى هذا مجرد اجتهاد؛ لأنه لا يمكن أن نجد في كل مجتمع ثقافة سياسية يعترف بها.
 

 مفهوم ثقافة المؤسسة 

هذا المفهوم كما يرى دنيس كوش ليس من ابتداع العلوم الاجتماعية؛ وإنما انحدر من عالم المؤسسة وسرعان ما شهد نجاحاً كبيراً. وقد ظهرت العبارة في الولايات المتحدة، أول مرة، خلال السبعينيات، وكان يعتقد أن موضوع "ثقافة المؤسسة" يسمح بالتشديد على أهمية العامل البشري في الانتاج. في فرنسا، ظهر المفهوم في بداية الثمانينيات في خطاب مسؤولي التسيير.

يرى دنيس كوش، إنه إذا ما كان لمفهوم "ثقافة المؤسسة" من معنى، في نظر علماء الاجتماع؛ فلأنه يشير إلى النتيجة الحاصلة من المواجهات الثقافية بين مختلف المجموعات الاجتماعية التي تكوّن المؤسسة، إذ لا وجود لـ"ثقافة المؤسسة" خارج الأفراد المنتمين إليها، ولا يمكنها أن تكون سابقة لهم، بل هي تبنى من خلال تفاعلاتهم.

ومن أجل التوصل إلى تحديد ثقافة المؤسسة يتوجب حسب دنيس كوش، الانطلاق من ميكرو ثقافات المجموعات التي تنتمي إليها. هذه الثقافات، سواء بسواء، تؤمن، مع التنظيم ذاته، الاشتغال اليومي للورشات والمكاتب وترسم حدود المقاطعات، وتحدد إيقاعات العمل، وتنظم العلاقات بين الشغالين وتتخيل حلولاً لمشاكل الإنتاج التقنية، بديهي أن ميكرو الثقافات هذه تنشأ، أخذاً بعين الاعتبار إطار المؤسسة الخاص، وخاصة إكراهات العمل الشكلية والتقانة المستخدمة، ولكن هذين العنصرين لا يحددانها، فهي تخضع أيضاً للأفراد الذين يكوّنون مجموعات العمل.

مع التنبيه على أنه لا تتيسر دراسة "ثقافة المؤسسة" بمعزل عن الوسط المحيط. ولا تشكّل المؤسسة عالماً مغلقاً بإمكانه أن يفرز ثقافة مستقلة تماماً، بل إن المؤسسة الحديثة، على العكس من ذلك، وثيقة التبعية لمحيطها، سواء على المستوى الاجتماعي والثقافي، وعلى رأي دنيس كوش، لا يجوز اليوم، لأي تحليل علمي اجتماعي للمؤسسة أن يغضّ النظر عن السياق، وبتعبير آخر ليس لنا أن نختزل "ثقافة المؤسسة" في مجرد ثقافة تنظيمية.

هكذا يتضح، أن "ثقافة المؤسسة" مجرد انبثاق لنسق تنظيمي، بل هي انعكاس للثقافة المحيطة، وإنتاج جديد يُبنى داخل المؤسسة، عبر كثرة من التفاعلات الموجودة على المستويات كافة بين من ينتمون إلى التنظيم نفسه، إذ اعتبر دنيس كوش أنه إذا لم يكن الحديث عن ثقافة المؤسسة، في معناها السوسيولوجي والإثنولوجي، عديم الفائدة فذلك للإشارة إلى الحاصل المركب، في لحظة ما، لصيرورة بناء ثقافي لا ينتهي أبداً، مشركاً مجموعات فاعلين وعوامل كثيرة التنوع، من دون أن يكون بالإمكان تحديد مجموعة على أنها الوحيدة التي بإمكانها الإمساك بزمام الأمور.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها