
ينسب الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي إلى "الشابيّة"، وهي إحدى ضواحي مدينة "توزر" في الجنوب التونسيّ. ولد في مطالع القرن العشرين عام 1909، وتعلّم في الكتاتيب الشعبية، ثم نال إجازة الحقوق من جامعة الزيتونة، ولسوء حظه فقد عانى خلال حياته القصيرة مرارة اليتم ووطأة المرض، وتوفي في ريعان الشباب عام 1934، وهو في الخامسة والعشرين من عمره، ولكنه خلال هذه الفترة القصيرة كان قد اطّلع على الأدب والشعر العربي والغربي، وجمعت أشعاره في ديوان أسماه (أغاني الحياة)، وترجمت قصائده إلى الإنجليزية والفرنسية. ومن مؤلّفاته النثرية: "الخيال الشعري عند العرب"، و"مذكّرات الشابي"، و"إلمامة عن الأدب العربي في العصر الحاضر".
كان الشابي أحد شعراء مجلة (آبولو) المصرية، والحركة الرومانسية الناهضة عربياً في تلك المرحلة من النصف الأوّل من القرن العشرين، ولعله الشاعر المغاربي الوحيد الذي حاز على شهرة كبيرة في أرجاء المشرق العربي إبان تلك المرحلة من النضال ضد الاستعمار، والحراك النهضوي وما أفرزه من وعي مرافق له مع رعيل شعراء (آبولو) من مثل: أحمد زكي أبو شادي، وخليل مطران، وإبراهيم ناجي، وعلي محمود طه، ومحمد عبد المعطي الهمرشي، وحسن الصيرفي وصالح جودت... وغيرهم
وفد امتاز ديوان الشابي بعدد من الخصائص التي ترتبط بتوجهات الرومانسية، لكنها نوع من الرومانسية المتمردة على نهج لورد بايرون وبوشكين، وسواهما ممن ثار ضد الاستعمار، وعاين طبائع الاستبداد، وتغنى بالحرية ومجد الشعب معبّراً عن المشاعر الذاتية والوجدان العام في الحبّ والحزن والتمرّد على التقاليد الكلاسيكية فضلاً عن الثورة على الظلم والاستعمار، وتغنى بالحرية في سائر قصائده من مثل قصيدته المشهورة "إلى طغاة العالم"، التي خاطب فيها المستعمر بتحدّ وغضب مؤكّداً أن الشعب سينتصر على الظالم المستبد.
ألا أيُّها الظالِمُ المستبدُّ
حبيبَ الظلام، عدوَّ الحياهْ
سَخرْتَ بأنّاتِ شعبٍ ضعيفٍ
وكَفُّكَ مخضوبةٌ من دِمــاهْ
وسِرْتَ تُشوِّهُ سِحْرَ الوجودِ
وتَبْذُرُ شَوْكَ الأسى في رُباهْ
وما يمكن استخلاصه من هذا النص الثائر رغبة الشاعر في نزع صفة الإنسانية، وشعار الأنوار الزائف بإصراره على تبيان الوجه القبيح للسلوك الاستعماري، موضحاً دلالات التسمية ""إلى طغاة العالم"، مكثفاً الدلالة حول ثنائية النور والظلمة، فالمستعمر يشيع الموت حيثما حلّ وارتحل، ويسفح دماء الشعب، ويستهزئ بأنينه، ويشوّه براءة الحياة وطهرها وجمالها بما يرتكب من مظالم.
ثم ما يلبث أن ينعطف نحو التهديد فيتوعده بسوء العاقبة والمصير:
رُوَيـدَك! لا يخــدعنْك الــربيع
وصحوُ الفضـاء، وضـوءُ الصبـاح
ففـي الأفُـقِ الرحـبِ هـولُ الظـلام
وقصفُ الرعـودِ، وعصـفُ الريـاحْ
حــذارِ! فتحـت الرمـادِ اللهيـبُ
ومن يبـذرِ الشـوك يجـنِ الجـراحْ
والنصّ في هذا المستوى من توظيف عناصر الطبيعة تعبير رمزي عن ثورة الشعب، فالربيع الذي يراه المستعمر، ليس إلاّ لحظة مؤقتة؛ لأنه سرعان ما سيتحوّل إلى صواعق تحرّقه كردّ طبيعيّ على "من يزرع الشوك" بدلاً من الزهور الجميلة، وشتان ما بين الزارعين؟
وإذا كان ثمة عبرة يمكننا أن نستفيد منها في هذا المجتزأ، فهي أن الشعراء النهضويين كانوا قد أجمعوا على أن الشعوب قادرة على تحقيق النصر مهما كانت المتاعب والآلام، فثقة الشاعر بالشعب كبيرة، ويقينه المطلق بانتصاره، ويكفينا في هذه العجالة أن نتذكّر بيتيه المشهورين:
إذا الشعبُ يوماً أراد الحياة
فلا بدّ أن يستجيب القدر
كذلك قـالت لي الـكائنات
وحدّثني روحها المستتر
ولا بدّ لنا هنا أن نتساءل عن الكائنات التي أوردها الشاعر بيته الثاني، لاسيما إذا ربطنا بين مواقفه الفكرية ونزعته الوجدانية لنكتشف أن هذه العناصر ليست إلاّ: الريح والمطر، والتراب والنار، بمعنى آخر هي الطبيعة الخلاّقة رصيد الإنسان في إنسانيته؛ لأنها ما انفكّت تؤدي دورها الإحيائي القار في الذاكرة الجمعية، على العكس من عالم الظلم والظلام.
ومن هنا؛ فإن رموزه امتازت بشفافية يمكن تعميمها إنسانياً لتنوّع دلالتها، وإمكانية الإسقاط واقعياً، فالسيل على سبيل المثال رمز لقوّة الشعب وفاعلية المقاومة. والشوك رمز للقسوة والألم أما الزهور: فهي رمز الشباب والمستقبل والحياة الهانئة، وسوى ذلك من رموز تعززت بالصور الكلية والجزئية لتجعل من النص أشبه بلقطة "فيديو"، تتكامل عناصرها وتتفاعل كما في قصيدته الرائعة "نشيد الجبار/ أو هكذا غنى بروميثيوس"، وبروميثيوس هنا هو سارق النار، بطل الأسطورة الذي ضحّى لأجل إيصال النار بكلّ معطياتها الدلالية للبشر الذين يحتاجونها، فتمّت معاقبته ذلك العقاب البشع من قبل آلهة الأولمب، ولعلّ الشابي في هذه القصيدة يتماهى في الشخصية الأسطورية، فهو بدوره منح الشعب الشعر والمعرفة، ولكنه بدوره عوقب من قبل الفاعلين في المشهد الثقافي آنذاك، فضلاً عما حلّ به من مرض إذ يقول في مطلعها:
سأعيـش رغم الداء والأعداء
كالنسر فوق القمّة الشماءِ
أرنو إلى الشمس المضيئة، هازئاً
بالسحب، والأمطار، والأنواءِ
وأسير فـي دنيا المشاعر حالماً
غرداً، وتلك سعادة الشعراء
فهذه القصيدة تعتبر مثالاً نموذجياً عن انعطافة الرومانسية نحو تمثّل الأساطير الغربية من مثل (آبولو، أورفيوس، أفروديت، فينوس)، وسواها بما يمنح النصّ بعداً سردياً يتوخّى الحكمة والتعبير عن المشاعر الملتمسة، في شعر رعيل الشابي من شعراء التجديد انسجاماً مع روح العصر، أو ما سُمّي بالعصرية، فضلاً عن التفاعل الكبير مع رموز الشعر في أوروبا، ولكنهم لم يكونوا مقلدين كما أشاع خصومهم وحسّادهم الكثر، ولعل الشابي أشار إليهم بوصفهم (أعداء)، فمضى في نصّه هاجياً متحدياً الصعاب كالنسر في السماء، فيكفيه أنه شاعر يمتلك موهبة وخيالاً يمكنانه من تجاوز هذه التفاصيل:
أصغي لموسيقى الحياة، ووحيها
وأذيب روح الكون في إنشائي
وأصيخ للصوت الإلهي الـذي
يحيي بقلبي ميت الأصداءِ
وكنا فيما سبق قد اصطلحنا على هذا النمط من الشعر بـ"فلسفة التعبير عن المشاعر الإنسانية"، وهي حاضرة بقوّة في الشعر الوجداني العالمي والشعر العربي الحديث، مثل شعر الشابي الحافل بالاستعارات المؤنسنة للطبيعة وتناغمها مع حالته النفسية، كما فعل في هذا المجتزأ من القصيدة ذاتها:
سأظل أمشي رغم ذلك، عازفاً
قيثارتي، مترنماً بغنائي
أمشي بروح حالم، متوهـّج
في ظلمة الآلام والأدواء
النور في قلبي وبين جوانحي
فعلام أخشى السير في الظلماء؟
إني أنا الناي الذي لا تنتهي
أنغامه، ما دام في الأحياء
وأنا الخِضَمُّ الرحب، ليس تزيده
إلاّ حياةً حلوةُ الأنواءِ
فالنور الذي في القلب صورة متكررة في الشعر الوجداني، باعتباره معرفة وهادياً إلى درب الأمل بالخلاص من المتاعب والوصول إلى السعادة المنتظرة برفقة القيثارة، ولعلها قيثارة أورفيوس في إشارة إلى الأسطورة المعروفة فضلاً عن الناي، ولعلّه أشار بدوره إلى أوبرا موتسارت "الناي السحري"، فالصراع بين الخير والشر والنور والظلمة متشابه في كلا العملين، إلى جانب ما يعززه التشبيه "أنا الناي" من رقّة المشاعر والأحاسيس بما يبثّه من أنغام أو أشعار، ولكن هذه الرقّة لا تعني الضعف والانكسار، فهو بحر عميق لا تكدره الدِّلاءُ بتعبير الشاعر حسان بن ثابت خلال مجابهته لشعراء الجاهلية:
لساني صارم لا عيب فيه
وبحري لا تكدره الدّلاءُ
والتناص كائن هنا، ويعكس ثقافة الشاعر التراثية.
وتجدر الإشارة في الختام إلى شعره الوجداني في الغزل، فالشابي شاعر شاب، وقد شغل الحب قلبه وتفكيره وشغف بالأنوثة وفق المتخيّل الرومانسي: حبّ سعيد ينتهي إلى مأساة تترك آثراً بالغاً في ذات الشاعر الموجوعة كما في "روميو وجولييت" لشكسبير، أو ما تركه من حزن وألم في ذات الشاعر وليام وردزورث أحد مؤسسي الحركة الرومانسية ومنظّريها في القرن التاسع عشر.
وكنموذج لهذا التوجّه نتوقف برهة عند بعض نصوص شاعرنا الشابي في قصيدته "الجمال المنشود"، التي خاطب فيها عذراوات أفروديت قائلاً:
"يا عذارى الجمال والحبِّ والأحلامِ
بل يا بهاءَ هذا الوجودِ!
قد رأينا الشُّعورَ مُنْسدِلاتٍ
كلَّلتْ حُسْنَها صِباحُ الورودِ
ورأينا الجفونَ تَبْسُم أو تحلُمُ
بالنُّورِ، بالهوى، بالنشيدِ
وكما في قصيدته "الجنة الضائعة"، كنموذج مهم عن رؤيته للحبّ في مستواه الإنساني الراقي:
كَمْ من عهودٍ عَذْبةٍ في عَدْوَةِ الوادي النّضيرْ
فِضّيةِ الأسحار مُذْهبَةِ الأصائلِ والبُكورْ
كانت أرقَّ من الزّهور، ومن أغاريدِ الطيور
وألذَّ من سِحْرِ الصِّبْا في بسمةِ الطفل الغريرْ
قضَّيتُها ومعي الحبيبةُ لا رقيبَ ولا نذيرْ
إلا الطفولَة حولَنا تلهو مع الحَبِّ الصغير
ومن المؤسف له أن سيرورة الإعلاء من شأن الحبّ تنتهي في الغالب بضربة قدرية كفقدان الحبيبة والمرض الذي أعاقه وللمصادفة فإن هذه التحربة المريرة تشبه إلى حدّ بعيد تجربة الشاعر الرومانسي الإماراتي خلفان بن مصبح (1923- 1946)، الذي بدوره عاش عمراً قصيراً، ومات في ريعان الشباب، ولما يتجاوز الثالثة والعشرين من العمر، وتشابهت التجربتان من جانب التوجهات الرومانسية في الحبّ والمعاناة، والمرض والألم والموت المبكر؛ لكنهما في الوقت نفسه تركا نتاجاً إبداعياً يخلّدهما، ويجعلهما أحياء وكأنهما يعيشان بيننا الآن.