الاستعارة.. بين الواقع والدراما

د. أحمد يحيى علي

الانتقال بالتجربة من حال المعايشة إلى موقع الرصد والتسجيل يأخذنا إلى آليتين أثيرتين من آليات التعبير الإنساني؛ الأولى: طريقة المؤرخ أو طريقة الصحفي التي تعتمد على المباشرة وعلى منطق الحقيقة في المعالجة؛ فالقالب اللغوي بالنسبة إلى كليهما واحد –إلى حد كبير– أما الثانية: فهي طريقة الفنان بمجالات عمله المتعددة التي ترتقي فوق الطريقة الأولى لتجعل من الرمز -الذي يقتضي مزيد عمل في محاولة استبطان ما يُظن أنه المعنى المراد– مدار عملها، وبناءً على ذلك تنتقل لغة المتلقي المهتم بالمعنى من مرحلة التفسير إلى مرحلة أخرى أكثر عمقًا (مرحلة التأويل)1، هذه الثانية وثيقة الصلة بكل نشاط يقوم به فضاء التداول تجاه الأعمال الفنية عمومًا2.


 

الاستعارة ووسائط الاتصال

إن قانون الخيال الذي يحيل النسيج اللغوي إلى بناء غامض يمكن نعته بالبناء الشفري الطابع، قد التحم في زماننا المعاصر بالنقلة النوعية التي تميزت بها وسائط الاتصال الحاملة لرسالة المرسل (فنان أو غيره) إلى المستقبل لها، التي يمكن تحديدها في أربعة وسائط رئيسة:
✧ ورقية
✧ سمعية
✧ مرئية تمثيلية
✧ رقمية تتصل بفضاء الإنترنت

هذه الحركة الأفقية لقانون الخيال وما يعلق بها من مصطلحات تعني أن المتلقي على موعد تنوع في صيغ التشكيل التي تظهر أمامه بها رسالة المرسل تبعًا لطبيعة القناة الاتصالية الحاملة لها، ولا شك في أن الرمز الذي ينقلنا من مستوى التصريح إلى مستوى التلميح في الاستخدام اللغوي يأخذنا بالتبعية إلى مصطلح الاستعارة المتصل به والمدلول الأثير المصاحب له؛ ألا وهو التعبير عن المعنى بغير لفظه3؛ أي أن الصيغة الظاهرة للبناء الاستعاري الذي عليه رسالة المرسل ستقتضي إدراكاً للخصائص المميزة لكل قناة اتصالية؛ ففي عالم المرئيات –على سبيل المثال– تتدخل عوامل، قراءتها تشكل جزءًا مهمًا في عملية استخلاص الدلالة المرتبطة بالعمل؛ لذا يصير لعناصر مثل الموسيقى التصويرية ولغة الجسد وتصميمات الأماكن (الديكور)، والألوان دورها في إقامة معمار هذا البناء الاستعاري جنبًا إلى جنب مع عناصر القصة والسيناريو.

الاستعارة والدراما

وبنظرة إلى حال الجمهور المتلقي في زمننا المعاصر نجد أن للصورة غوايتها وقدرتها الجاذبة لقطاع كبير ممن يعتمدون عليها في إشباع غايات المتعة والترويح بالتوازي مع ما تطرحه من قضية يسعى من يبثها إلى صياغة وعي معين من خلالها؛ إذ يمكن القول: إن الدراما في هذا العصر أضحت مصدرًا رئيسًا للمعرفة وبناء الوعي لدى الأكثرية من الجمهور المتلقي، ونتيجة لهذا الحال يمكن النظر إليها بوصفها تحمل طابعًا شعبيًا إذا ما قورنت بقنوات الاتصال الورقية التي تعد في المقابل بمثابة قنوات نخبة، تأتي في منزلة تالية من حيث الكثرة العددية، وبناءً على هذا الطرح يمكن مراجعة مفهوم الأدب الشعبي وأدب النخبة بالنظر إلى طبيعة القناة الاتصالية الناقلة لرسالة الراسل.

وفي عصرنا هذا أضحت الدراما بأثوابها المختلفة (أفلام، مسلسلات، برامج تمثيلية) أداة فعالة يتم توظيفها في عمليات صناعة الوعي الجمعي وتوجيهه في مسارات بعينها تنسجم وطبيعة اللحظة المعيشة وما تموج به من أحداث وما يطفو على السطح من قضايا تحظى باهتمام4؛ فهي وفق هذا التصور تعد أحد أشكال القوة الناعمة التي يتم اللجوء إليها في صياغة علاقات بينية متوازنة ومستقرة بين عناصر البناء الاجتماعي وشرائحه المختلفة؛ فإذا كان الشعر والأدب بصفة عامة قد أديا هذا الدور منذ القدم، وكان لأغراض مثل المدح والهجاء والفخر والرثاء أثرٌ فاعل في بناء هذه القوة فإن الدراما في الحاضر المعيش تفعل الشيء نفسه إلى حد بعيد.

والدراما شأنها شأن التاريخ المكتوب بمثابة سجل للتدوين وعين يمكن من خلالها الوقوف على جانب مما كان في الماضي تم التقاطه والتعبير عنه وفق رؤية جمالية لها خصوصيتها تنسجم وطقس الفن الغالب؛ ألا هو الخيال؛ ومن ثم فإن المستقبِل بإمكانه قراءة التاريخ عمومًا عبر نوافذ متعددة: لدى المعنيين به من كَتَبَته، ولدى كُتَّاب المقال الصحفي في زمانهم، ولدى أهل الصنعة الفنية على اختلاف مشاربهم5.

الدراما وتحولات الواقع

وفي الحركة التاريخية لأية أمة تحدث تحولات تنقلها من طور إلى طور ومن نسق قِيَمِي إلى نسق آخر، هذه التحولات ليست ببعيدة عن عدسات أهل القلم وأهل الرأي بصفة عامة؛ لذا تبقى النزعة الواقعية في الصياغة الفنية أكثر النزعات حضورًا وانتشارًا، خصوصًا في العصر الحديث وما ينوء به من تفاصيل من العسير الانصراف عنها والالتفات بعيدًا.

وإذا ما تم النظر إلى واقع الجماعة المصرية –على سبيل المثال- في القرن العشرين نجد أن السياسة وما ألقت به من ظلال على البنيان الاجتماعي قد تركت أثرًا واضحًا، ويمكن تقسيم هذا القرن فتراتٍ ثلاث رئيسة: فترة الملكية ما قبل ثورة يوليو 1952م، الفترة الناصرية ما بعد يوليو 1952م حتى وفاة عبد الناصر وما كان يسودها من مد اشتراكي، جاء ملازمًا له شعار أثير (القومية العربية)، الفترة الساداتية وما تلاها وما شهدته من قيم تعتمد على مفهوم جديد (الانفتاح) ببعديه السياسي والاقتصادي وما ترتب عليه من آثار في منظومة القيم وفي ترتيب طبقات المجتمع بظهور شرائح جديدة وتراجع أخرى كان لها مكان وحضور متقدم فيما سبق، في هذه الحقبة الأخيرة تحديدًا بدأت تسود قيم المادة ورأس المال.

والفن بهيئاته المتعددة لم يكن بمعزل عن رصد حركة التحولات هذه والإشارة إليها حسب قانون النوع الذي يتبناه صاحبه؛ فكان –على سبيل المثال- لفن الرواية نصيب، وكان للشعر نصيب، وبالطبع كان للدراما نصيب؛ ويمكننا الوقوف –على سبيل المثال لا الحصر- مع عناوين نجد فيها ملامح لحركة التحول هذه وما صاحبها من أحداث:
- رد قلبي ليوسف السباعي، رواية مثلت فيلما.
- اللص والكلاب لنجيب محفوظ، رواية مثلت فيلمًا.
- الكرنك لنجيب محفوظ، رواية مثلت فيلمًا.
- البكاء بين يدي زرقاء اليمامة، ديوان شعري لأمل دنقل.
- أهل القمة، فيلم.
- موت عباءة لخيري شلبي، رواية.
- المواطن مصري، فيلم.
- أيام النوافذ الزرقاء لعادل عصمت، رواية.

استعارة الواقع في مسلسل "الرايا البيضا"

وفي ثمانينيات القرن المنصرم خرج علينا الكاتب أسامة أنور عكاشة بحكاية تم تحويلها إلى مسلسل درامي عرض على شاشة التليفزيون المصري في خمس عشرة حلقة متتابعة بعنوان: "الراية البيضاء"، والملاحظ أن العنوان قد تمت صياغته بالعامية اتساقًا مع اللسان المصري الدارج وانسجامًا مع الطابع الشعبي الذي تنطوي عليه المادة الدرامية في عصرنا هذا عمومًا بالنظر كما ذُكر من قبل إلى من يتلقاها، في هذا العمل الدرامي حرص أنور عكاشة على رصد حركة التحول الاجتماعي من الحقبة الناصرية إلى الحقبة الساداتية وما تلاها من خلال إطار مكاني هو قصر يحمل قيمة فنية وتاريخية مكانه محافظة الإسكندرية، هذا القصر له وجود في عالم الحقيقة بالفعل وقد سكنه أحد المهندسيين المصريين البارزين في مجال الإنشاء هو (عثمان باشا محرم)، هذا القصر تم تصوير أحداث المسلسل فيه؛ بوصفه العمود الأساسي الذي تقوم عليه الحبكة؛ إننا في هذا العمل بصدد قضية يطرحها عكاشة من خلال هذا المكان الرئيس الذي يمكن النظر إليه بوصفه الشخصية البطل داخله، هذه القضية تكمن في صراع فكرتين:

الأولى: قيم الجمال والذوق والتاريخ ويمثل هذه الفكرة داخل المسلسل د. مفيد أبو الغار (الفنان جميل راتب) ومعه شخصيات مساعدة.

الثانية: قيم الرأسمالية بوجهها المتوحش الراغبة في إعلاء مبادئ الربحية والاستحواذ والكسب المادي بغض النظر عما يتبناه وينادي به الفريق الأول؛ لذا فإن القصر من وجهة نظر هذا الفريق مجرد بناية تعيق مشروعًا ضخمًا يدر عوائد مادية كبيرة على من سينفذه ويتملكه، وقد مثل هذه القيمة داخل المسلسل شخصية المعلمة فضة المعداوي تاجرة السمك (الفنانة سناء جميل)، ومعها شخصيات تعينها على الوصول إلى ما تريد.

أما عن الراية البيضاء، أو بالصياغة الدرامية العامية لها (الرايا البيضا)، فهي بمثابة نتيجة لانتصار الفريق الثاني على الأول في طرح فكري يقدمه أسامة أنور عكاشة ذو المسحة الناصرية يعكس مآلات الحال داخل الواقع المصري؛ إن عثمان باشا محرم ساكن القصر في الواقع قد استحال في لعبة تعتمد على الترميز إلى د. مفيد أبو الغار، وتاجرة الخردوات التي استولت على القصر حقيقة في الإسكندرية واستطاعت هدمه أخيرًا لتقيم على أرضه برجًا سكنيًا نجدها في المسلسل في ثوب بائعة سمك؛ إننا بصدد بنية استعارية تمثيلية تعكس حالة التحول هذه ومأساة تراجع منظور في الرؤية لصالح غيره، في جدلية تقوم على النفي والإثبات أو التقديم والتأخير، العجيب أنه في أثناء كتابة عكاشة لهذه الحكاية وفي أثناء العرض على الشاشة لم يكن القصر قد هُدم بعد؛ كأنها كانت محاولة من جانبه لتقديم رؤية استشرافية للمستقبل القريب بناءً على معطيات واقعية ستفضي حتمًا إلى نتائج محددة، من هنا يمكن القول: إن استعارة جانب مما في الواقع في الفن لا يكتفي فقط بمسألة الرصد أو الوصف للحظة آنية معيشة، لكنه يسعى إلى تجاوزها إلى ما بعدها؛ لذا ستتجاوز فكرة الرمز واتصالها الوثيق بالاستعارة عتبة اللزوم والوقوف على ما هو واقعي في زمانه ومكانه إلى عتبة إدراك النتائج6.

وفي ضوء هذا الطرح يمكن متابعة وظائف عدة للشكل التعبيري الفني المتصل بهذه الحزمة المصطلحية (الرمز، الاستعارة، الخيال، العدول، الانزياح) التي تشير جميعها إلى خصوصية عالم الفن عمومًا بأثوابه المختلفة بإزاء أنماط التعبير الإنساني الأخرى:
◀ إظهار الخصوصية، وبيان الفرق بين رؤية الفنان ورؤية غيره لما في عالمه.
◀ الرصد والتسجيل لبعض ما في العالم.
◀ التشخيص، حينما يتحول المجرد من قيم وأفكار إلى شخوص مسموعة الصوت ومرئية.
◀ بيان حركة الجماعة في الزمان وفي المكان وما يعتريها من تغيرات، إذا ما نظرنا إلى هذا النموذج الدرامي لأسامة أنور عكاشة على وجه التحديد.
◀ القدرة على ربط ماضٍ بلحظة حاضرة معيشة -تعد إحدى نتائجه- بمستقبل آت في لحمة درامية واحدة7؛ فالراية البيضا تعد استعارة درامية عاكسة لهذا الترابط على المستوى الزمني ومختزلة له في الوقت ذاته.
◀ طرح أسئلة؛ إن الاستعارة تعد حتمية وأمرًا بديهيًا يلازم كل عمل فني، وما يثيره هذا العمل من تساؤلات في وعي المتلقي المتابع، مبعثها ما تطرحه هذه الاستعارة من احتمالات في التأويل؛ ودراما "الرايا البيضا" قد تدفع للوهلة الأولى إلى صياغة وعي متعاطف مع د. مفيد أبو الغار الذي بدا هو ومن معه في ثوب المقاوم المدافع عن قيم الجمال وروح التاريخ والأصالة في وجه غوغائية رأس المال، والفئة التي أضحت تمثله ومستواها العلمي وذوقها المتردي خصوصًا بعد عصر الانفتاح؛ فالاستعارة داخل هذا العمل الدرامي تنشطر نصفين: فالذوق الرفيع والمعرفة تتشخص في (د. مفيد أبو الغار وفريقه)، وتردي الذوق والاستخفاف بالقيم وتواضع المعرفة تتشخص في (تاجرة السمك فضة المعداوي وفريقها). لكن خلف هذا الصرح الاستعاري يكمن سؤال أعمق: من الذي أوصل الطرف الأول ليكون ضحية ترفع الراية البيضاء منهزمة في نهاية المطاف؟ أهي سطوة الفريق الثاني وجهله بالقيم والمال الذي أطغاه؟ أم عزلة الفريق الأول عن هذا الفريق وترفعه عن الاختلاط به ومحاولة تغيير سلوكه؟ إن د. مفيد أبو الغار بدلاً من أن يخالط هذه الفئة ويكون عنصرًا مؤثراً فيها اعتزلها مفضلاً المكوث بعيدًا بحزمة القيم التي يؤمن بها تاركًا هذه الفئة تتربى بطريقة غريزية حيوانية بعيدًا عن منطقه الفكري الإنساني الراقي؛ لذا كان عليه أن يدفع ثمن عزلته.

إن عكاشة بقصد منه أو بغير قصد يطرح عبر هذه الاستعارة الدرامية فكرة المحاكمة ومن الذي يجب أن ندينه حقيقة، إن الصالح في نفسه لا يغير وجه الواقع، بل تبقى مواطن الاعتلال على حالها، أما المصلح فإن عليه دورًا حيويًا في مسألة التغيير وإن لم يظهر في زمنه فإن ما يغادره من قيم تصير بمثابة بذور تصادف من يقوم على رعايتها حتى تنبت، إن مفيد أبو الغار كان ظالماً وجلادًا قبل أن يكون ضحية، وما فضة المعداوي إلا عرض لمرض الاعتزال وعدم النهوض بأدوار إصلاحية من شأنها الإسهام في تغيير الحالة الواقعية وتوجيهها إلى مسارات أمثل.



الهوامش:
1. انظر: د. حامد أبو أحمد، الخطاب والقارئ، طبعة دار النسر الذهبي، القاهرة، دون تاريخ، ص: 98، 99. د.أحمد يحيى علي، هوية النص بين شخصية الأديب وشخصية الناقد، إبريل 2020م، مجلة الرافد، الإصدار الرقمي، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، الإمارات. / 2. انظر: د.مصري عبد الحميد حنورة، الخلق الفني، طبعة دار المعارف، القاهرة، دون تاريخ، ص: 18، 19. / 3. انظر: الجرجاني (عبد القاهر)، دلائل الإعجاز، الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة 2000م، ص66، 67. / 4. انظر: خميس خياطي، النقد السينمائي، طبعة دار المعارف، القاهرة، دون تاريخ، ص: 14، 15، 16. / 5. انظر: د.أحمد يحيى علي، الوعي باللحظة في القصة الومضة، مجلة الكويت، عدد أغسطس 2018م، ص: 70. / 6. انظر: د.أحمد يحيى علي، الأدب وصناعة الوعي، دار كنوز المعرفة، عمان، الطبعة الأولى 2017م، ص: 45، 46. / 7. انظر: د.عبد الرحمن عبد السلام، النص والخطاب من الإشارة إلى الميديا، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الطبعة الأولى 2015م، ص: 67، 68، 69.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها