في زاوية ضيّقة من العمر الواسع، وقف سليم يُلقي بظلّه الخفيف على الجدران، كأنّه فرع شجرة مجنون تتقاذفه الرياح. كان جسده نحيلًا، لكن روحه مفرطة الثقل بالحياة. يمدّ ذراعيه كمن يعانق الهواء، يلتف حول نفسه في دوران لا ينقطع، كأنّ الأرض استعارته ليكون مركزها الراقص. يرتدي قميصاً زاهياً بألوان لا تجتمع إلا في ذاكرة قوس المطر، وبنطاله متسخ من أثر خطاه التي لا تهدأ. عيناه تشعّان كوميض برق، ولمعة السخرية تنام تحت جفونه المائلة. إذا مرّ في السوق، توارى الحزن خلف الأبواب، واختبأ العبوس في جيوب المتسوقين. يضحك، لا يُطلقها ضحكةً، بل سهمًا يثقب جمود الوجوه. يقترب من صاحب دكان يملأ الميزان بخفة متقنة، فيُطلق سليم بسخريته: يا رجل، تزن لهم ما يأكلون، لكن من يزن لك ما تأكل؟! فينفجر السوق ضاحكًا، ويهرب الصمت إلى الأروقة الخلفية.
لم يكن يمرّ بين الناس، بل يخترقهم كنسمة تفضح كل غبار عالق على السطوح الملساء. يسخر من العقول المغلقة كأنها صناديق ضيّقة بلا نوافذ، ويرى الهموم على الأكتاف أثقل من الجبال، فينفضها بكلمة أو رقصة: ألم تتعبوا من الجد؟ ما الجد إلا خدعة لتأخير الرقص الأخير. كان يسخر من كل شيء، حتى من الموت. يقول: الموت لا يأتيكم إلا وأنتم مشغولون في عد أيام لن تزيدكم يوماً. لم يكن يوماً خاضعًا للأيام، كان غريبًا عنها، خارجًا عن تقويمها، لا ينام بموعد، ولا يوقظ روحه إلا عندما تتعطّل أصوات البشر. إذا سمع ضجيجهم حول مستقبل غامض، أشار إلى ظلّه الراقص على الجدار وقال: هنا، كل المستقبل. ظلٌّ يهرب منك نحو الخلف، فتتبعه دون أن تدرك أنّه محض خدعة. الليل له في قلبه منزلة الصديق. إذا حلّ الظلام، أشعل أغنيته بصوته المبحوح كعود قديم، ورقص وحيداً تحت مصباح الشارع المتذبذب، فيعلو صوته بالكلمات التي لم يكتبها شاعر، ولم يسمعها أحد، لكنه كان ينطقها كأنها وحي خاص. وفي ليلة ضبابية، اختفت خطواته من الطرقات، لم يعد ظله يُراقص الجدران، لم يعد صوته يخرق رتابة الليل. بحثوا عنه، ولم يجدوه. قالوا: ربما تعب منّا، تركنا لنلاحق ظلالنا. وفي أقصى الحيّ، رأوه، هناك عند حافة الزقاق، واقفًا بلا حراك. رأسه مرفوع نحو السماء، ويداه معقودتان عند صدره. لم يكن يضحك، لم يكن يرقص، كان سكونه غريبًا، كأنه انتظر أمرًا ما. حين اقترب منه أحد المارّة وهمس له: ما بالك اليوم هادئًا، أين أغانيك؟ أين رقصك؟ ابتسم سليم ببطء كمن فهم السرّ أخيرًا، ثم قال بهمس عميق لا يُنسى: الله هنا... الله الآن. فالتفت الجميع إلى حيث كان ينظر، لكنهم لم يروا سوى السماء الرمادية، والريح تلعب بأوراق الشجر اليابسة. وحين عادوا بأعينهم إليه، لم يكن هناك. لم يترك وراءه إلا ظلًا ثابتًا على الحائط، ظلًّا ثابتًا لا يرقص.