أدب جنوب أفريقيا

"كويتزي نموذجاً"

سمير عبدربه



لعل "سوينكا" يعبر بتلك المقولة عن الضرورة الملحة للكتابة الإبداعية بمختلف أشكالها، وعن مدى أهميتها لمواجهة كل ما تموج به القارة الأفريقية السوداء من منتناقضات غريبة وصراعات عنيفة، إلى جانب غياب الحد الأدنى من الحرية التي بدونها لا تستقيم الكتابة، ولا يصبح للفن ذلك المذاق الساحر، ولعلها تعكس -أيضاً- حتمية الكتابة، وتفسر في نفس الوقت ذلك التفرد الإبداعي الذي تتميز به القارة الأفريقية السوداء عموماً، وجنوب أفريقيا على وجه التحديد، ومن هنا فإنني أجد صعوبة بالغة كلما حاولت الكتابة عن الإبداع الأدبي في أفريقيا، وتزداد حدة هذه الصعوبة عند الكتابة عن أدب جنوب أفريقيا الذي يختلف كثيراً عن آداب الشعوب الأخرى من حيث درجة الثراء، وحيث إن الموسيقى والرقص والكتابة الإبداعية بمختلف أشكالها هي أجمل أنواع الفنون في ظني، فلقد صرت مفتوناً بمجمل الإبداع الأفريقي غير أن آداب وفنون جنوب أفريقيا احتلت المرتبة الأولى في ذلك الافتتان.

قبل تناول الرواية التي بين أيدينا بالعرض، وقبل التعريف بصاحبها تجدر الإشارة إلى أن تعدد الأجناس واختلاف الثقافات إلى جانب تسلط الأقلية البيضاء التي كانت – وفي ظني أنها ما زالت – تنتهج سياسة التمييز العنصري (الأبارتايد Apartheid) يجعل الحديث عن الإبداع في جنوب أفريقيا، وعن الحركة الروائية بشكل خاص مختلفاً بعض الشيء عن مثيله عند بقية الشعوب، ولعله يفسر ذلك الثراء والتميز الذي يتمتع به.
 

جون ماكسويل كويتزي:

بدأت الكتابة الإبداعية في جنوب أفريقيا في منتصف القرن التاسع عشر مع ظهور البعثات التبشيرية، وكان يغلب عليها -في ذلك الوقت– طابع اللغة الشفاهية الدارجة ومع اتساع دائرة الإبداع نشأ الحلم بعمل دور للنشر تقوم بطبع مختلف الإبداعات، لكن حكومة جنوب أفريقيا آنذاك حالت دون تحقيق هذا الحلم، ولم تتوقف عن مصادرة كثير من الأعمال وزج أصحابها في السجون مما جعل كثيراً من المبدعين الذين يكتبون باللغات الأفريقية الأصلية أو لغة الزولو يتجهون إلى الكتابة باللغة الإنجليزية، حتى يتسنى لهم نشرها بالخارج، وبالتحديد في أمريكا وأوروبا، كما غادر بعضهم جنوب أفريقيا تجنباً للمصادرة والرقابة والاعتقال.

في مثل تلك الأجواء نشأ الكاتب الجنوب أفريقي من أصل أوروبي "جون ماكسويل كويتزي J. M. Coetzee" صاحب هذه الرواية الهامة والتي أطلق عليها اسم (عصر مايكل ك وحياته Life & Times Of Michael K).

حصل "كويتزي" على جائزة نوبل في الآداب عام 2003، ويعد الكاتب الثاني من جنوب أفريقيا الذي يحصل على نفس الجائزة بعد الكاتبة الشهيرة "Nadine Gordimer" نادين جورديمر التي حصلت عليها في العام 1991، والتي تناولت في أعمالها المتعددة مختلف أشكال القهر والعنصرية، وكما حصلت "نادين جوديمر" على جائزة بوكر حصل عليها أيضاً "كويتزي" مرتين عن رواية (Disgrace العار)، ثم عن هذه الرواية التي بين أيدينا ( Life & Times Of Michael K عصر مايكل ك. وحياته). وقد ولد "جون ماكسويل كويتزي" في كيب تاون بجنوب أفريقيا في التاسع من فبراير عام 1940 وهو أكبر إخوته الثلاثة، وكانت والدته تعمل بالتدريس بأحد المدارس الابتدائية أما والده فقد التحق بالخدمة مع قوات جنوب أفريقيا في شمال أفريقيا وإيطاليا في الفترة من 1941 – 1945، وبالرغم من أن والديه ليسا من أصل إنجليزي إلا أن اللغة الإنجليزية كانت هي اللغة السائدة فيما بينهم في المنزل.

تلقى "كويتزي" تعليمه الابتدائي في كيب تاون بأحد المدن القريبة من (Worcester ورسيستر)، ثم التحق في التعليم الثانوي بمدرسة في كيب تاون يقوم بإدارتها الرهبان الكاثوليك، وتخرج منها في العام 1956، ثم التحق بالجامعة عام 1957، وتخرج منها عام 1960 – 1961 بنجاح كبير مع مرتبة الشرف في مادة اللغة الإنجليزية ومادة الرياضيات، وبعد ذلك سافر إلى إنجلترا حيث مكث هناك ثلاث سنوات في الفترة من 1962 – 1965، وعمل هناك منسقاً لبرامج الكمبيوتر في نفس الوقت الذي كان مشغولاً فيه بأطروحته عن الروائي "فورد مادوكس فورد"، وأثناء ذلك وبالتحديد في عام 1963 تزوج من امرأة تدعى "قيليبا جوبر" المولودة عام 1939، وأنجب ولداً يدعى "Nicolas نيكولاس" عام 1966 لكنه توفي عام 1989، وأنجب كذلك بنتاً عام 1968 واسمها "Gisela جيزيلا".

سافر "كويتزي" إلى الولايات المتحدة الأمريكية في العام 1965 والتحق بقسم المتخرجين في جامعة تكساس بأوستن، حيث حصل منها على درجة الدكتوراة عام 1968 في اللغة الإنجليزية وعلم اللغويات واللغة الألمانية، وكانت أطروحته عن أعمال "صمويل بيكيت" المبكرة.

عمل بعد ذلك ولمدة ثلاث سنوات من 1968 – 1971 كأستاذ مساعد للغة الإنجليزية في جامعة نيويورك، وعند رفضهم طلبه بالموافقة على التصريح بالإقامة الدائمة في الولايات المتحدة الأمريكية عاد إلى جنوب أفريقيا، ومنذ 1972 حتى 2000 عمل في جامعة كيب تاون كأستاذ بارز ومتميز في الأدب.

ما بين الأعوام 1984 و2003 ظل يقوم بالتدريس في أمريكا بشكل متقطع بجامعة نيويورك، وجامعة جونز هوبكنز وهارفارد، وستانفورد وشيكاغو، حيث ظل لمدة ست سنوات عضواً في لجنة الفكر الاجتماعي.

أما عن "كويتزي" المبدع فلقد بدأ الكتابة الإبداعية عام 1969، وقد نشرت له الأعمال الأدبية التالية حسب الترتيب الزمني:
◅ (Dusklands بلاد الظلام) المنشورة في جنوب أفريقيا - جوهانسبرج 1974.
◅ (In The Heart Of The Country في قلب الوطن) - لندن 1977 والتي حصل بموجبها على جائزة جنوب أفريقيا، وجائزة الأعمال الأدبية الرئيسة، وكذلك جائزة CAN وقد تم نشرها في كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.
◅ (Waiting For The Barbarians في انتظار البرابرة) - لندن 1980.
◅ (Life & Times Of Michael k عصر مايكل ك وحياته) - لندن 1983 والتي كانت سبباً في شهرته واحتلاله مكاناً مرموقاً ومتميزاً في أوساط جنوب أفريقيا الأدبية، ولدى كل قراء الأدب في العالم والتي حصلت –كما أشرنا– على جائزة بوكر.
◅ (Foe العدو) - لندن 1986.
◅ (Age Of Iron عصر القوة) - لندن 1990.
◅ (The Master Of Petersburg حاكم بطرسبورج) - لندن 1994.
◅ (Disgrace العار) - لندن 1999 – جائزة بوكر.

 بالإضافة إلى أن "كويتزي" أصدر كتابين يندرجان تحت مسمى (دراسات قصصية)، وكان الأول بعنوان Scenes From Provincial : Boyhood الصبا : مشاهد من حياة الريف) لندن 1997 والثاني بعنوان (Youth الشباب) - لندن 2002، كما أصدر في العام 1999 سلسلة محاضرات قصصية ثم تلاها في العام 2003 بكتاب (Elizabeth Costello إليزابيث كوستيلو) - لندن، أما عن كتابه (White Writing الكتابة البيضاء) الصادر عام 1988 فهو عبارة عن مجموعة من المقالات التي تطرق خلالها إلى أدب جنوب أفريقيا وثقافتها - نيو هافن – جامعة ييل.

كتب "كويتزي" أيضاً مجموعة أخرى من المقالات عام 1992 بعنوان (Doubling The Point مضاعفة الغاية)، ويتضمن الكتاب بالإضافة إلى المقالات لقاءات صحفية مع "David Attwell دافيد آتويل"، أما في العام 1996 فلقد أصدر دراسة هامة عن الرقابة والمصادرة الأدبية – شيكاغو – مطبعة جامعة شيكاغو، وأخيراً مجموعة أخرى من المقالات الأدبية عام 2001 بعنوان (Stranger Shores شواطئ الغريب).

جدير بالذكر أن "جون ماكسويل كويتزي" قام بالعديد من الترجمات عن اللغة الهولندية والأفريكانية، كما تجدر الإشارة إلى أنه هاجر إلى أستراليا عام 2002 ويعيش هناك مع رفيقته "Dorothy Driver دوروثي درايفر" في (Adelaide أديليد) بجنوب أستراليا، حيث يشغل منصباً شرفياً في جامعة (أديليد)، وإذن فنحن في هذه الرواية أمام كاتب ومبدع غزير الإنتاج ولقد تناول الكثير من النقاد أعماله الأدبية المتميزة بالدراسة والتحليل، خاصة هذه الرواية التي بين أيدينا إلى جانب رواية (في انتظار البرابرة)، وذلك لقدرته الهائلة على خلق شخصيات يصعب نسيانها إلى جانب أسلوبه النثري المذهل والمثير للدهشة.
 

 

عصر مايكل.ك وحياته:

تتناول الرواية حكاية البستاني "مايكل ك" ذلك الرجل المنعزل الذي يصبح مسؤولاً عن رعاية أمه المريضة التي تعيش حياة محفوفة بالمخاطر، والتي ظلت تحلم بتحقيق رغبتها المكبوتة في العودة إلى الريف الهادئ الذي عاشت فيه صباها بعد أن ترك ابنها "مايكل" عمله في كيب تاون، وراحت تتخيل نفسها وهي تستقل القطار مع ابنها في طريقهما إلى مسقط رأسها، حيث يمكن أن تعيش بعيداً عن كل التعقيدات، وحيث يستطيع ابنها "مايكل" أن يجد وظيفة جديدة، غير أن أحلامها تلك حدثت في ظل نظام جنوب أفريقيا العنصري (Apartheid) الذي يضع قيوداً محكمة على تحركات الفرد الشخصي، كان "مايكل" فرداً هامشياً في مجتمع حديث لكن أمه كانت تعلق عليه الآمال وتتمني لو أنه استطاع تحقيق حلمها، رغم افتقاره إلى الذكاء والفطنة إلى جانب شخصيته الضعيفة.

أثناء قراءة هذه الرواية وبعد الانتهاء منها يتمتع القارئ بقدر كبير من المتعة بالنظر إليها كعمل أدبي خالص، لكنها إلى جانب ذلك مليئة بالأفكار والقضايا الفلسفية التي ينبغي على القارئ أن يفكر فيها لاكتشاف تميزها وقوتها، والمتتبع لأعمال "كويتزي" يستطيع أن يدرك ببساطة أن الاضطهاد والظلم هما الموضوعان المتكرران في كل رواياته، ويمثلان الفكرة الأساسية لهذه الرواية (عصر مايكل ك وحياته)، ورغم أن أحداث الرواية تقع في جنوب أفريقيا إلا أن العمل لا يتضمن ذلك صراحة؛ وإنما تحكي الرواية عن الاضطهاد العنصري، وعن المعاملة التي يلقاها "مايكل" وكأنه غريب وخانع وذليل، إنها رواية "كويتزي" الأكثر تفرداً، وأظن أنها عمله الأدبي الأروع.

إن المتتبع للأعمال الفنية والأدبية في جنوب أفريقيا أثناء وفي ظل نظام التمييز العنصري، يستطيع أن يكتشف بسهولة مدى انعكاس ذلك النظام على معظم الإبداعات إن لم يكن على كل الإبداعات، حيث لا يخلو أي عمل فني أو أدبي من الإشارة إليه مثلما حدث تماماً مع الفنانين والأدباء في أمريكا الجنوبية إبان عصور العبودية، أو في روسيا أثناء فترة الشيوعية، لكننا نستطيع ضمن حديثنا عن هذه الرواية أن نشير إلى سبب آخر من أسباب جمالها وروعتها، وهو أنها لم تتعرض للحديث عن سياسة التمييز العنصري، أو عن الاضطهاد الذي يعاني منه سكان البلد الأصليين ولو مرة واحدة، رغم أن الرواية في مجملها ترتكز على الصراع العنصري، فنراه قد تجاوز ذلك كله، كما يستطيع القارئ ملاحظة عدم تطرق الكاتب إلى القول بأن "مايكل" هو أحد السكان الأصليين لذلك البلد، رغم أنه كذلك وأتصور أن "كويتزي" لا يتعمد ذلك؛ وإنما من الواضح أنه يكتب بتلك الطريقة عامداً لإظهار سيطرته ومهاراته، وما يتمتع به من إلهام ومقدرة مذهلة في البناء القصصي.

يبرهن "كويتزي" بعدم تعرضه لسياسة التمييز العنصري بشكل مباشر على مهارته، ولا يكتفي بعرض جنون وخبل النظام في جنوب أفريقيا؛ وإنما يذهب إلى أبعد من ذلك، ويكشف عن الجنون العام للحضارة الإنسانية برمتها، ويبين لنا قدرة الشخصية الرئيسة في الرواية على قهر تلك الحضارة بمجرد تجاهلها، تلك الشخصية المنبوذة والتي لم تنل قسطاً من التعليم والذي ينطق دوماً بالسؤال القديم: كيف يحيا الإنسان؟ ثم ينعم بالسلام حين يجيب بنفسه على السؤال إما بالتجاهل أو بعدم المبالاة.

يتجول بنا "كويتزي" داخل الرواية في قلب الوجود القاسي، وعبر معاناة الإنسان من خلال رحلة غير موفقة فنجد "مايكل ك" بطل الرواية وهو يهيم، ويتنقل بين البستان ومشاهد الطبيعة في محاولة منه لإخراج نفسه بالكامل من أي شيء ينتمي إلى ما يسمي بالمجتمع، كما يتحرك منسحباً نحو الجبال، غير أن الجوع يجبره على العودة، ويمكننا القول بأن الرواية تعد إلى حد بعيد دراسة عن الجوع أو كيفية الموت جوعاً.

في النهاية وقبل الإشارة إلى تنوع وثراء الأدب في جنوب أفريقيا الزاخرة بمبدعيها المتميزين في مجال القصة القصيرة والرواية والشعر والمسرح، والذين لسنا الآن بصدد الحديث عنهم وعن أعمالهم؛ فإنني أرغب في التأكيد على أن هذه الرواية (Life & Times Of Michael K عصر مايكل ك وحياته)، ورواية (Waiting For The Barbarians في انتظار البرابرة) هما في ظني أجمل وأروع أعمال "جون ماكسويل كويتزي"، فكلتا الروايتين دليل على تقديم الموضوعات والأحداث الضمنية الكامنة خلف السطور؛ إذ نجد "مايكل" في هذه الرواية والقاضي في رواية (في انتظار البرابرة) يمثلان أدوات للتعبير عن أحداث وموضوعات الحرب الكامنة، ويعبر الكاتب من خلالهما أيضاً عن الصراعات والتناقضات التي تزخر بها جنوب أفريقيا وعن حرية الإنسان.

في الأخير "كويتزي" صاحب موهبة فائقة، تتجلى بوضوح في مشاهد الرواية الرائعة وفي بنائها المحكم.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها