كيليطو.. وروبنسون كروزو

التخلي موضوعاً للأدب

د. عبد الكريم الفرحي

لا شك في أن جل مؤلفات عبد الفتاح كيليطو تحمل أثراً بورخيسياً. وبالموازاة، من المهم أن نشير إلى أن بورخيس (Jorge Luis Borges) يبدو – بالنسبة إلى قرائه العرب- حاملاً لجيناتِ أنساب ثقافيةٍ عربية، إلى درجة أنه يجوز وصفه بــ"العربي". وصلاً بهذا التوصيف، ليس من المستغرَب أن يخصص كيليطو (الجارُ العربيّ الأقربُ إلى بورخيس) الفصلَ الأولَ من كتابه الأخير "التخلي عن الأدب" (الصادر عن دار المتوسط، ميلانو، إيطاليا، ط1، 2022) لخورخي لويس بورخيس.

 

ما لا ترويه اللغة

عَوَّدَنَا عبد الفتاح كيليطو في جل مؤلفاته على أن يُفَاجِئَ "النصَّ والقارئَ من حيث لا يحتسبان"(1)؛ فهل بالإمكان التخلي عن الأدب؟ في علاقةٍ بما يناظرُ سياقَ هذا السؤالِ الذي يستضمر نَسَقًا ارتيابياً، ذكر ألبرتو مانغويل (Alberto Manguel) (وهو أحدُ تلاميذِ بورخيس) في أثناء حديثه عن شخصية "روبنسون كروزو" (Robinson Crusoé) بطل رواية دانيال ديفو(2) (Daniel Defoe) ما يلي: "حالما نهبط على جزيرة مهجورة، نتوق إلى مغادرتها فوراً؛ نحلم دائماً بالإبحار خلف الأفق والوصول إلى شاطئ بدائيّ حيث يمكننا أن نبني عالماً يشبع رغباتنا، ونصبح فيه الحكامَ المطلقين لعالم خاص بنا. ولكن ما أن نصل إل هذه الجزيرة، حتى نفكر في مغادرتها"(3). يعلم قراء دانيال ديفو أن روبنسون كروزو غادر جزيرَتَه (أو فلنقل جنَّتَه التي تفنن في صنعها، أدبياً على الأقل) في التاسع عشر من ديسمبر 1686، بعد ثمانية وعشرين عاماً وشهرين وتسعة عشر يوماً من نزوله عليها. عاد روبنسون إلى وطنه إنكلترا لا مُفَرِّطًا في "جنته البديعة"، ولا متشوقاً إلى "حياة هادئة مطمئنة" على وفق ما أراد له أبوه قبل مغامراته، بل من أجل أن يحكي لنا الحكاية؛ فالمغامراتُ لا تُخَاضُ إلا من أجل أن تُحكى. وما لا تحكيه اللغةُ يظل كما لو أنه لم يحدث مطلقاً.
 


كيليطو وروبنسون كروزو

يُخَيَّلُ إليّ أحيانا أن كيليطو قد قرأ كلَّ كُتبِ الأدب(4). فهل يمكن لمن قرأ كلَّ كُتب الأدب أن يتخلى عن الأدب، فلا يحكي عن جِنَانِ مكتباته وجُنُون قراءاته؟ من الجليّ أن الصلة هاهنا موصولةٌ ببورخيس الذي تصور الجنة في هيئة مكتبة، كما تبدو ذاتَ وَصْلٍ بدونْ كيخوتي (Don Quichotte) الذي أصابته لوثةُ جنون من أثر إدمان قراءة كتب الفروسية. وكلاهما يحظيان بنصيب وافر من اهتمامات كيليطو في كتاب "التخلي عن الأدب" (خصص كيليطو الفصلين الأول والثاني على التوالي لبورخيس ودون كيخوتي). أطروحة الكتاب لا تتعلق مطلقاً بالتخلي عن الأدب بمعنى اطِّرَاحِهِ ونَبْذِه، كما قد تُوهمُ بذلك قَبْسَةُ العجلان في فهْم العنوان؛ وإنما بــ"التخلي" بوصفه "موضوعاً للأدب"(5).

أما بالعودة إلى تَخَلِّي روبنسون كروزو عن جزيرته فليس من المستغرب أيضاً أن نجد صلةَ انتسابٍ أو تناصٍّ بين حكايته وحكاية صاحب "التخلي عن الأدب"؛ فقد أصدر كيليطو أول كتاب له بالفرنسية عن "السرد والأنساق الثقافية في مقامات الهمذاني والحريري" سنة 1983، وهو في الأصل أطروحة ناقشها بجامعة السوربون سنة 1982. يسْتَذكرُ كيليطو تلك الفترة قائلاً: "لمدة طويلة اشتغلت بهذا الموضوع الذي كان من اقتراحي، إلا أنني لم أكن مقتنعاً به تمام الاقتناع، وطيلة فترة تحضيره لم أكن أرى بوضوح مبرراتِه وجدوَى الخوضِ فيه؛ كانت حقاً بالنسبة إليّ فترةَ قنوطٍ وشعورٍ حادٍّ بالوحدة، وكأنني في جزيرة خالية منعزلة"(6).

كان روبنسون كروزو يستأنس في عزلته اليائسة بوهم الحديث إلى الكلب "شيبي" والببغاء "بول"، ثم ساقَ إليه القدرُ قُبَيْلَ نهايةِ عزلته شخصيةَ "جمعة" (FRIDAY)، أما كيليطو فمع مَنْ كان بإمكانه أن يتحدث عن موضوعه في فرنسا؟ يقول: "كنت أنتظر بفارغ الصبر اليوم الذي أُنْهي فيه بحثي لأتفرغ للأعمال الشيقة التي كنت أزعم أنني مؤهل لها، وتليق بي فعلا"(7). (أستحضرُ ضمن هذا النسق مقولة: "إن الكتابة ضرب من الدونكيخوتية"(8)). يتماثل كيليطو هاهنا مع روبنسون كروزو الذي سئم المقامَ وحيداً في جزيرته بالرغم من بَدَاعَتِها، فقرر التخلي عنها؛ ولهذا الغرض انهمك في صنع قارب وسط الغابة بعزمٍ نُوحِيّ. يقول روبنسون: "قضيت ما يقرب من أربعة أشهر في تشكيل القاع والحفر من الداخل. وعندما انتهيت من هذا كله، أضحى لديَّ قاربٌ متوسط الحجم. وبقيتْ مشكلةٌ واحدة فقط: كيف يمكنني إنزاله إلى الماء؟ فوقتئذ كان القارب مستقراً في منتصف الغابة. دفعتُه، وجذبتُه، وجررتُه، وركلتُه، وصرخت! وببساطة لم يتزحزح. ولم يكن هناك من سبيل لأتمكن من سحبه طوال الطريق عبر الغابة والوادي، ثم الشاطئ. فبماذا كنت أفكر بحق السماء؟ انتهى صراعي مع القارب بلا شيء سوى الإحباط. فها هو ذا عالِقٌ على اليابسة إلى الأبد". لم يساعده قاربُه الذي صنعه بإرادةٍ طَمَّاحَةٍ وعزيمةٍ مِلْحَاحَةٍ على الهروب من جزيرةِ عُزْلَتِه.

أثر كيليطو

على شاكلة قارب روبنسون كروزو، ظل كتاب كيليطو بعد أن وجد طريقه إلى النشر عالقاً معزولا وسط رفوف مكتبة الناشر الفرنسي لمدى زمنيّ مُعين. فمَنْ سيفكر في أن يقرأ كتاباً عن مقامات الهمذاني والحريري في فرنسا؟ (إذا ما استثنينا "حفنةً من المستعربين بباريس وبوردو"). يقول كيليطو: "التقيتُ بالناشر فيما بعد، وَجَّهَ لي لوماً شديداً، لأن القراء لم يقبلوا على تأليفي. ومن بين مآخذه عليّ، أنني أنجزته عن المقامات التي لم تكن مترجمةً إلى الفرنسية، لا مقامات الهمذاني ولا مقامات الحريري. تلكم كانت خطيئتي الأصلية؛ أن أكتب بالفرنسية عن نصوص عربية لم تنقل إلى الفرنسية، ولم يسمع بها أحدٌ في المجال الفرنسي"(9). كان الاهتمام بالأدب العربي في فرنسا وقتئذ -خارج الدائرة الضيقة للمستعربين- "شبه منعدم، وما نُقِلَ منه إلى الفرنسية ضئيل جداً؛ مقتطفات فقط من المقامات كانت مترجمة في هذا المنشور القديم الـمُغْبرّ أو ذاك، بينما كانت منقولةً بالكامل إلى الألمانية وإلى الإنجليزية". كان بإمكان كيليطو أن يَذْكُرَ في حضرة ناشرِهِ الفرنسيّ عبارةَ روبنسون كروزو: "بماذا كنا نفكر بحق السماء". هذا، ويُضاف إلى "خطيئة كيليطو" –من منظور الناشر الفرنسي- أن جُلَّ الكتبِ التي اقْتُبِس منها أو أُحِيلَ إليها في الأطروحة مثل "التوابع والزوابع" لابن شهيد الأندلسي، و"دعوة الأطباء" لابن بُطلان، و"حكاية أبي القاسم البغدادي" لابن المطهر الأزدي... لم تكن مترجمة أيضاً، بل لا أثر لها يستحق الذِّكْرَ في المجال التداولي للثقافة الفرنسية. فكيف يمكن الحديث عن "أثر كيليطو"؟

في هذه الجزئية من سيرورة التماثل، يبدو أن الحديث عن "أثر كيليطو" يجتذبنا مرة أخرى من أجل العودة إلى حكاية روبنسون كروزو؛ ذلك أنه وَجَدَ -خلال إحدى جولاته الصباحية المعتادة على شاطئ جزيرته النائية- "أَثَرَ قدمِ إنسانٍ في الرمال". فذهل لهَوْلِ ما رأى. لا شك في أن ثمة أغراباً يتربصون به الدوائر. ماذا لو تمكنوا منه؟ أي أذى سيلحقونه به؟ أطلق روبنسون كروزو ساقيه للريح، فعاد إلى مخيمه كي يتوارى عن كل الأنظار. تساءل: لمن يعود أثرُ هذه القدم؟ تسارعتْ دقاتُ قلبه، وارتعشت يداه، وخشي من أن "كل شيء قد بناه كان على وشك التدمير". تخلى عن فكرة أنه المالكُ الوحيدُ للمكان. فكَّرَ وتَرَيَّثَ... هو يعلم يقيناً أنه ما سبق له قَطُّ أن رأى بشراً على هذه الجزيرة المعزولة. ربما يكون ردُّ فعله مُبَالَغًا فيه، فقد يكون هذا الأثرُ أثرَ قدمه هو، ولم يلحظ أنه تَرَكَهُ هنالك... عاد بعد أن استجمع بعضاً من شجاعته، وَجَدَ الأثرَ باقياً، حينئذٍ أيقن أن أثر القدم "ضعف حجمِ قدمِه تقريباً"...

بالنسبة إلى كيليطو ذي المنزعِ "البورخيسي" قد يكون صاحبُ الأثر هو "حي بن يقظان"! فليس من المستبعد أن يكون دانيال ديفو قد استلهم رواية "روبنسون كروزو" -مُبَاشرةً أو مُدَاورةً- من حكاية ابن طفيل! هل ثمة دليل قاطع يثبت هذا الادعاء؟ يجيب كيليطو في كتاب "التخلي عن الأدب" قائلاً: "شخصياً بحثتُ عن قدم ابن طفيل في الرواية، فلم أجدها، لم ألمح إلا قدم ديفو(...) لكن ليس من الضروري أن يكون هناك أثرٌ فعليّ ليحدث التأثير". لكن مهلاً، ثمة اعتراض وجيه؛ "فالقدم التي أبصرَ روبنسون أثرَهَا على الرمل لم تكن قدمه"(10) على جهة التحقيق، وقد تَثَبَّتَ من ذلك بخاصَّةِ نفسِه قطعاً للشك باليقين.

في القراءات والتأويلات ذاتِ المنزع البورخيسي بإزاء كلاسيكيات الأدب العربي، عادة ما يَتَقَفَّى كيليطو أثرَ مُقَابِلاتٍ لها في الآداب الأوروبية؛ يبحث فيها عن "آخَرِهَا" الذي يتناصّ معها؛ يستقرئُ أشباهَهَا ونظائرَهَا، أو ما يبدو أنه كذلك. وهكذا قرأ مقاماتِ الهمذاني والحريري في علاقته برواية الأدب التسكعي الإسباني (البيكاريسكي) (Novela picaresca)، لا سيما "لازاريو دي طورميس" (Lazarillo de Tormes) لكاتبٍ مجهول، و"البوسكون" لفرانشسكو دي كيفيدو (Francisco Gómez de Quevedo). بعد مُكابداتٍ ومُجاهداتٍ قرائية قد لا يعثر كيليطو على أثر. بيد أنه يظل مقتنعاً بأنه ليس من الضروري أن يكون هناك أثرٌ فعليّ ليحدث التأثير.

خاتمة:
استخلص إيتالو كالفينو (Italo Calvino) -في سياق قراءته لرواية دانيال ديفو- أن سردية "روبنسون كروزو" بمنزلة "ملحمةٍ تمجد المبادرةَ الفردية، ولا تتعارض مع حياة ديفو الخاصة"(11). يراودني إحساس بأن المسألة ذاتَها (المبادرة الفردية التي لا تتعارض مع الحياة الخاصة) تكاد تنطبق -بقدر من المقادير- على "أثر كيليطو" في تمهيد سبُلِ ترجمةِ ما كان "مطَّرَحا" و"منبوذاً" و"منسيّاً" من الثقافة العربية إلى اللغة الفرنسية. أما عن كتاب "السرد والأنساق الثقافية في مقامات الهمذاني والحريري" الذي أغضبَ الناشرَ الفرنسيَّ وأخرجَهُ عن أطواره، فلا شك في أن الترجمات الفرنسية توالت -ولو بعد حين- على جُلِّ الكتبِ العربية التي اعتمدها الباحثُ في الدفاع عن أطروحته! وهذا هو "أثر كيليطو" الذي تركه في جزيرةٍ بَدَتْ لأول وهلة معزولةً في السياق التداولي للثقافة الفرنسية، بيد أنها أزهرتْ فيما بعدُ وأثمرتْ... في ختام هذا الاستقراء، تحضرني إحدى عبارات روبنسون كروزو، وهو في جزيرة اليأس، إذ قال: "وأخيراً، أثمرتْ كلُّ جهودي المضنية". بعد الإزهار والإثمار، ودون أي "إفراط في تهنئة الذات"، هل يجوز لكيليطو "التخلي عن جزيرة الأدب"؟

 


الهوامش:
1. عبد الفتاح كيليطو، مسار، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، 2014، ص: 23.
2- DANIEL DEFOE, Robinson Crusoe, Edited with an Introduction by THOMAS KEYMER , OXFORD UNIVERSITY PRESS, New edition published 2007.
3- ألبرتو مانغويل، شخصيات مذهلة من عالم الأدب، دار الساقي، بيروت، ط1، 2020، ص: 97.
4- يقول كيليطو ضمن هذا السايق: "أقرأ كثيرا وبلا نظام، يخيل إلى أحيانا أنني قرأت كل الكتب، وأحيانا أنني لم أقرأ شيئا". ينظر: عبد الفتاح كيليطو، مسار، ص: 23.
5- عبد الفتاح كيليطو، التخلي عن الأدب، دار المتوسط، ميلانو، إيطاليا، ط1، 2022، ص: 8.
6- المرجع نفسه، ص: 95.
7- المرجع نفسه، ص: 95.
8- عبد الفتاح كيليطو، مسار، ص: 59.
9- عبد الفتاح كيليطو، التخلي عن الأدب، ص: 98.
10- المرجع نفسه، ص: 100.
11- إيتالو كالفينو، لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي، ترجمة دلال نصر الله، دار المدى، ط1، 2021، بيروت، ص: 107.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها