عندما يمتزج الخيال بالواقع، تولد الخرافة، هكذا هو حال البشرية منذ قديم الأزل، إنه ذلك السؤال المبهم عن الأشياء، والذي يرافق الإنسان حين يعجز عن تفسير واقعه، ليلجأ إلى الخيال فيصنع منه واقعاً جديداً، ويُلبسه رداءً من خيالاته القادمة من روحه التواقة للأمان، يصنع من خياله خرافةً ذات إيحاءات ورموز وطلاسم، محاولاً الصهر بين ما هو ممكن وما ليس ممكناً، وموظّفاً أشياء ومظاهرَ خارقة للعادة وخارجة عن المعقول خدمة لغروره، ويبثها شيئاً من روحه كي تعيش أطول فترة ممكنة، غير آبهٍ بما تؤول له الأحداث، ما دامت هذه الخرافة أو الأسطورة تمنحه شيئاً من الطمأنينة والأمان، فتتجدّد روحه، وتهنأ حياته بكثير من الخرافات.
ولأنّ الأساطير والخرافات لا تولد في زمن الانتصارات بل في زمن الهزائم، فإنها بذلك تخفي الخيبات والضياع والإخفاقات، التي لا يجد الإنسان لها جواباً مقنعاً، حينها يولد البطل الذي يرتدي ثوب البطولة كي يخلص المجتمع من المشكلات.
وهذا حال المجتمعات الفقيرة التي تُلقي جلّ مشاكلها على القدر، منتظرة ذلك البطل الخرافي الذي ينقذها، ويرفعها من الحضيض. ومن فكرة الخرافة والبطل استوحى الكاتب "ممدوح عبد الستار" أفكار وأحداث روايته، التي صدرت بعنوان "فتنة" عن دار ميزوبوتاميا للنشر والترجمة، لعام 2023. سوريا. القامشلي.

جاءت الرواية في مائة وست وأربعين صفحة، من القطع المتوسط، حيث تدور أحداث الروية في بلدة "الدلجمون" الريفية المتواضعة، والتي تقع في دلتا النيل شمال القاهرة، البلدة التي تسكنها هذه الرواية بأحداثها ووقائعها، فالرواية هي ذكرٌ ليوميات عائلة مصرية متعددة الأجيال، حيث تجاوز الكاتب في هذه الرواية الزمن، ليعود بنا إلى الزمن البعيد، زمن الاحتلال البريطاني لمصر، مستحضراً في سبيل ذلك سرد يوميات عائلة بسيطة من عائلات البلدة، بأدق التفاصيل، ليكوّن لنا عالماً من التساؤلات ومرآة تعكس المرارة في أوجه الأبطال، وقد عمّر الجهل فوق رؤوس ساكنيه قصوراً من الخرافات، فعبروا به إلى عالم الدجل والخرافة.
هي رواية عن التاريخ المنسي للقرية المجهولة في ذلك الخواء الاجتماعي، حيث تتناثر القيم على جنبات دروب الفقر، ليأتي الكاتب ليعرّي الواقع من سلبيته ويُظهر لنا جوانب عدة من شخصيات آثرت السكون مرة والثورة مرة أخرى، في عالم موبوء بالجهل ومثقل بالضغينة والطبقية، وبأخطاء الكائن الشهواني الذي يسيره الطمع.
الدم الحار.. الفعل الحار
هذه هي الجملة التي ابتدأ بها الكاتب روايته ليضعنا أما تساؤل عن ماهية هذا الدم وحرارة هذا الفعل الذي أفضى في النهاية إلى القتل، مُفتعلا حواراً بين الراوية والراوي في تفسير الجملتين الاسميتين أيهما يسبق الآخر، مشّكلة ضباباً من الأوهام والأفكار أمام عيني القارئ الذي سيجد تفسيراً لهذه الجملة في قادم الرواية.
"يقول الراوي: الولد الأعور يتعقّب حامد وأن أصحابه يتأمرون بأمره.
تقول الرواية: حامد هو الذي فقأ عين الولد الغلبان حينما ركل زلطة كبيرة، فصفّت العين اليمنى...".
فتوح وزكية وحامد.. عائلة ثلاثية الأبعاد
فتنة الكاتب تحمل أكثر من وجهة، فهي تارة تمثّل الفقر، كمكوّن أساسي من مكوّنات المجتمع الريفي المظلوم والمأفون بالحشيش، وتارة أخرى فتنة الشخصيات التي تتمحور حولها الرواية، فنجد الأب فتوح والأم زكية في تلك الفوضى الاجتماعية، يصارعان نفسيهما بعد أن سرد لنا الكاتب أصول كل منهما وكيف استقر بأجدادهما المقام في هذه القرية المنكوبة بالجهل، وكيف أنهما يبرران سلوكياتهما وفقاً لأهوائهما، فنجد الأب فتوح المشهور بالطبع النزق والزير الذي لا يشق له غبار، لا يملّ من ملاحقة النسوة، إضافة إلى الحشيش الذي أودى بعقله، ونجد زكية تلك المرأة الريفية المغلوبة على أمرها، ترفض التمرد عليه ومصممة على البقاء في رعاية الأبناء ومسامحة فتوح عن كل الإساءات التي تعرضت لها، رغم عناد ومشاكل الزوج.
أما الابن حامد الذي عاش طفولته متنقلا بين عيادات الأطباء ومن بعدها حياة ملؤها البؤس والشقاء، فقد آثر الهروب من القرية ومن أبيه وتحوله إلى شبح يلاحق النساء، وينجب من إحداهن طفلا ليموت الطفل على صدر أمه، وحين يعود لقريته، يجد والده قد تحول إلى شيخ وله مريدون وأتباع، في وقت شاع عنه أنه في ساعة صفاء قد أُزيح عنه الحجاب وصار من أصحاب الكرامات، وصارت تحكى عنه الشائعات، كقصة النبي موسى والنبي خضر.
وفتنة أخرى هي فتنة المكان، حيث يستفيض الكاتب في وصف مساكن الفقراء والمهمشين وعلاقتهم ببعض، فنجد أن لا فائدة للجدران التي تفصل بين البيوت، بقدر ما هي ستارة يُخفي خلفها أبطال الرواية أسرارهم وعلاقاتهم المشوهة أحياناً.
تحاول رواية فتنة أن تقدم لنا إجابة عن سؤال الفتنة، من خلال اقتحامها لعالم الشيخ فتوح في قرية الدلجمون، مختزلا هذا العالم الكبير في هذا المقام، وفي هامش الرواية يتعرض لسبب تسمية بعض البلاد كـ(دمنهور) بهذا الاسم كما جاء في معجم البلدان: وقد سميت بذلك بسبب الحرب بين الروم وعمرو بن العاص، وكان الدم نهوراً، في إشارة واضحة إلى ارتباط المكان بما ينسج حوله من حكايات تاريخية وأساطير، وقد وثّقت الرواية حياة بعض الشخصيات التاريخية ذات الصلة بفكرة الرواية، وهي شخصية إسحاق أبو حصيرة، وتورد حكايته كيهودي صالح بنى له مقاماً في بلدة دمنهور، ويقام له مولد سنوي كل عام، وهو ما يشير إليه في متن الرواية، كل هذا يصنع علاقة وثيقة بين الحيّز الروائي وحيّز المكان الجغرافي الواقعي، ويؤدي مقام سيدي فتوح وظيفته لتصبح نموذجاً للمكان، كما تخلقه الخرافة أو الحكاية أو حاجة الناس البسطاء لاختراع أسطورتهم.
يأتي دور العقل في الرواية عندما يرفض أحد الحاضرين في مقام الشيخ.. ما يُشاع أو يُقال عن كراماته في تلك الغرفة الغارقة في سحاب من دخان الحشيش، فتتلوى أعناق الحاضرين ويتمايلون جذلى كلما ذُكر اسمه، ويتلو أحد ما سيرة ملفقة لهذا الشيخ الذي كان فيما مضى فاسقاً مشهوداً عليه الفسق، إلى شيخ وقور ينطق بالحكمة والموعظة، في سرد لا يخلو من الفتنة اللغوية والتي جعلت من الرواية تسير كنهرٍ عذب.
إن ما يطرحه الكاتب في هذه الرواية الشيقة، هو موضوع العقل وأهمية التعليم للقضاء على الجهل المستشري في المناطق النائية، والتي جعلت من الخرافة سبيلا لإقناع العقول الواهنة هناك بحقيقة الأشياء بعيداً عن ممارسة العقل؛ إنها الدوّامة التي يحاول الكاتب فيها أن يمسك بيد القارئ ويسير به في متاهته كي يصل به في النهاية إلى برّ الأمان.