الكتاب الورقي والوسيط الإلكتروني

السيرورة الذهنية بين البناء والتلقي

عبد الله بن ناجي

 
 لا شكّ أنّ استسلام المجتمعاتِ البشرية، للمد التكنولوجيّ، الذي أصبح علامة بارزة وفارقة في الحياة المعاصرة، يطرح، اليوم، المسألة الثقافية عامة بنوع من الإلحاح؛ لأن غزو تكنولوجيا الإعلام والتواصل الرقميّ خلخل كل الثوابت المتعارف عليها فكراً وسلوكاً، وأضحى الثابت هو التحول المتسارعُ ذاتُه، في شتّى مناحي الحياة ومجالاتها؛ ولا غروَ، أيضاً، أن يكون سؤال القراءة أهمّ الأسئلة التي تَشغل بال المهتمين بالشأن الثقافيّ والتربويّ التعليميّ على السواء؛ وهذا التخصيص لفعل القراءة من بين مجموع المكونات الثقافية يؤول إلى امتداداته في العديد من المجالاتِ المعنيّة ببناء الإنسان أولا، ورسم معالم سلوكه وأنماطه ثانياً، وتحديد خياراته في علاقته بذاته ومحيطه ثالثاً؛ بدءًا من دور القراءة الفاعل والحاسم في بلورة شخصية الإنسان، مروراً بتحصيل معارفه وترسيخها، وصولا إلى التحليق نحو أفق الاختلاف بعيداً جهةَ الشواطئ الممتدة خارج المرئيّ واليوميّ والمألوف من الأفكار والتصورات؛ لذلك يبقى سؤال القراءة متصلا بالكتاب سؤالا مشروعاً، في زمن الوسائط التي أضحى ذكاؤها، بحسابات متعمّدة من أيادٍ لا أراها إلّا خفيّةً، أو بخطواتٍ غيرِ محسوبةِ المسافاتِ من مستعملي هذه الوسائط، أقولُ:
 أضحى ذكاؤها، أو كاد، ينوب عن الإنسان ذاته في الكثير من خياراته وشؤونه اليومية؛ ولذلك أيضاً يحق لنا أن نتساءل عن معنى أن يفتح المرء كتاباً ورقياً، لأي سببٍ كان، ولأيّ علّة محتملة؛ بل وما الجدوى من الكتاب إجمالا، ما دامت كلّ المتحصّلاتِ منه هي أقربُ من نقْرٍ على صفيحة من وسيط يكفي المرءَ عناءَ التجذيف بين حروف قد تفي بالغرض وقد تتلكّأ؟ وكثيراً ما تتلكّأُ الحروفُ! ثم أليستِ الغاية المصلحة؟ إنها تتحقق بهذه الوسائط أكثر يُسراً وكفاءَةً؟ وإن كانتِ الغاية المتعة؟ فلا مِراءَ أن هذه الوسائطَ أكثرُ بعثاً للمتعة من سوادٍ على بياض؛ ثم تأمّلْ معي! هل نحن، نحنُ من يتمسّك بأهداب الكلمات على الورق، أقول: هل نحن أكثرُ نباهةً وحرصاً على المعنى من كبار المفكّرين والأدباء والعلماء والفقهاء والمنظرين في كل المجالات، الذين ولوجوا عوالم هذه الوسائط وجعلوها بديلاً لكتبٍ طالما تغنّوا بها وبفوائدها؟

يبدو، إذن، أن الكتابَ، وما خطّتْهُ على صفحاته، الأيادي بالأقلام وشكّلتهُ أفئدةُ الأنام، يبدو أنه سائرٌ إلى زوالٍ؛ وهنا نتساءلُ مجدّداً: أليس من باب العبث والمغالبة الجوفاءِ أن نتمسّكَ بالكتابِ في زمنٍ صار فيه واقع الوسائط سيّداً يفرض وجوده رغبة فيه، حتّى من قِبَلِ المعاندين لهيمنته المطلقة؟ ثم أليس لكل زمانٍ خصوصياتُه وأدواته وأساليبه ووسائطه، تماماً كما أنّ لكلّ زمانٍ رجالاتُه؟ ونتساءلُ: ما للكتاب وليس للوسائطِ؟ وما للوسائط وهو ليس للكتاب؟

من هذا الزحف الحثيث للأسئلة، أنطلق في بسط وجهة نظري في الموضوع، وأتجاوز العديد من التفصيلات والآراء المستهلكة حول مضارّ الوسائط الإلكترونية على الإنسان نفسياً وجسدياً، أو حتى تلك التي تحصر فوائدها في خِفّة حملها وقدرتها على تخزين ما يُعادل حجم مكتباتٍ في ملفّ واحدٍ؛ أتجاوز هذا النوع من النظرة التبسيطية في التحليل والتفسير، لأقابل بين الواقعين، واقعِ القراءة في كتابٍ وواقع القراءة عبر الوسائط الإلكترونية بنوع من الموضوعية والحياد، ما استطعتُ.

وأفتتح بمسألة قراءة الكتابِ ذاتها؛ فالقراءة في كتابٍ فعلٌ وفاعليّة، حركة ذهنية دؤوبٌ، وإعمال للعقل والفكر، وتتبع لمسارات المعنى في مختلف مسالكه، التي تحددها الصياغة والتركيب والمعجم ودلالات هذا المعجم وسياقاته، والقراءة في كتابٍ شَحذٌ لحالات التركيز القصوى، وتوسّلٌ بالطاقات والمداركِ والقدرات والمهارات جميعِها من أجل أن يتمّ فعل القراءة على خير سبيلٍ مما ينبغي أن يكون عليه الفعلُ؛ والقراءة في كتابٍ متعة بَعْدَ مشقّة، ونوالٌ بعدَ صبر وتجلّدٍ وتحصيل بعد جَهدٍ، وعِلمٌ إن خرجَ، خرجَ من مصفاة الشكيمة وسَمِّ خِياطها؛ فما للوسائط من هذا الذي للقراءة في كتابٍ؟

في تقديري، ليسَ لها منه نصيب! لأنّ كلَّ الذي ذُكِرَ حول فعل القراءةِ متّصلا بالكتاب، ينتفي في الوسائطِ الإلكترونية بحكم طبيعتها وطريقة اشتغالها، وما تراهن هذه الوسائط على تحقيقه؛ أي نعم، الوسائط تفاعليّة، لكنّ التفاعل الذي تقوم عليه لا يتأسس على أفعال ذهنيّة مُركّبةٍ كما هو الحال أثناء قراءة كتاب، بل هو تفاعل آليّ ميكانيكيّ، لا يخلخل البنيات الذهنية للمستعمل، بل على العكس تماماً يدفع بها إلى ردود أفعال واستجابات لا تتجاوز حدود الرؤية الحسية البصرية في الغالب؛ والوسائط ميّالة إلى تقديم المنتوج بطرق تعتمد التأثير في المتلقي بمؤثراتها البصرية السمعية؛ والحاصل أن هذه المؤثرات تؤدي إلى تشتيت الانتباه أكثر مما تنمي القدرة على التركيز؛ ومحتوى الوسائط يُبنى على خلفية وظيفية أساسها مبدأ تسهيل الولوج والاستعمال، ومعلوم أن ما يُتحصّلُ بيسر يكون سريع النسيان والتلاشي، ولا فائدة منه تُرجى ولا طائل يُرتجى؛ وإذا كانت نظريات التعلم في مختلف الأدبيات التربوية تؤكد على أن مداخل التعلم عديدة: سمعية وبصرية وحسيّة ومعنوية وشفهية ومكتوبة، وأنها تتباين بحسب الخصوصيات البنيوية للأفراد، فإن هذا المعطى يُعد حجة على الوسائط، مادامت تعتمد مدخلاً واحداً يقوم على التوجيه البصريّ للمتلقي؛ وبذلك يمكن القول إن القراءة في كتاب أكثر فاعليّة وإفادة من الوسائط الإلكترونية على مستوى التحصيل العلميّ والبناء الثقافيّ للشخصية، لكنّ الإنصاف يقتضي منا أن نسائل القراءة في كتاب بميزات الوسائط الإلكترونية، وهو الوجه الثاني من زاوية نظري للموضوع.

لا مراء أن الوسائط الإلكترونية غنية بما تمنحه من مستويات جذّابة لإمكانات العرض والتخزين ومعالجة البيانات وحركيةِ المحتوى وأساليب الربط والترابط وإمكانية الاسترجاع الآنيّ للمعطيات، حتى حين يتعلّق الأمر بالقراءة ذاتها؛ وهي، وإن كانت ذاتَ أعراضٍ جانبية، منها ما ذكرنا آنفاً، فإن لها محاسنَ وفوائد لا يمكن المجادلة حولها، خاصة حين تكون الفئة المستهدفة من محتواها في حاجة إلى جاذبية العرض من أجل ضمان الإقبال والمتابعة؛ والوسائط، أيضاً، ذاتُ ميزات تواصلية حقيقية، حتّى وإن كانت افتراضية؛ صحيح أنها محفوفة باللّبس في الكثير من جوانبها، عكس التواصل الإنساني، لكنّ ما تنصّ عليه النظرية العامة للتواصل من شروط التواصل الناجح ومكوناته ومستوياته، يبقى أمراً ممكن التحقق عبر هذه الوسائط وضمنها؛ وميزة ثالثة، أخرى، جليةٌ للعيانِ، تتصل بمسألة النشر والانتشار، حيث استطاعت الوسائط الإلكترونية تكسير التلازم، الذي ظل سائداً منذ البشرية الأولى إلى حين ظهور هذه الفورة الرقمية لتكنولوجيا الإعلام والتواصل، ما بين المسافة والزمن، وأضحى يسيراً أن يصل أي محتوًى لأي عمل في الآن واللحظة إلى أقصى بقاع الأرض دون اعتبار لمسألة المسافة الزمنية التي تفصل بين المكان المصدر والمكان الهدف، وهي أكثر الميزات التي أسهمت في الإقبال على الوسائط دون غيرها من مداخل القراءة والتعلم والتثقيف، بما تمنحه للمتلقي، متعلّماً أو معلّماً، من حريّة الاختيار اللامحدود بين الأعمال والمُنتجات المعروضة.

وميزة رابعة وأخيرة، تكمن في تقديري، فيما تمنحه الوسائط من إمكانية العرض الآنيّ لمحتويين، وهي عملية يتعذر تحقيقها ورقياً، في سياقات عامة أو في سياقات تعليمية وتعلمية تقليدية؛ وهو أمر يسمح بالمقارنة والموازنة والتحليل للمعطيات بنوع من التدقيق دون عناء تحويل الانتباه ذهنياً أو تحويل الاتجاه جسدياً، فهل بإمكان هذه الميزات ضمان تقدم معرفيّ سليم؟ وما للقراءة في كتابٍ من كلّ هذه الميزات التي للوسائط؟

أعتقدُ أنّ لا شيء لها من هذا، إلا وجهاتِ نظرٍ تدحض بها هذه الميزاتِ، من قبيل ما قد تؤدي إليه الوسائط من فقدان للتأصيل على مستوى المرجعيات: المرجعية العلمية للمحتويات والمرجعية القِيميّة لثوابت المجتمع التي نتأطر داخله، فالكتاب جزء من منظومة تتسم بطابع المحافظة، والميل إلى النمطية والثبات على مستوى البنيات والأنظمة، وهو ثبات لا شكّ ينعكس على الذهنيات؛ فإلى عهد قريب، على مستوى النشر والتداول، كانت الكتبُ عامة، تخضع لرقابة المؤسسة، حيث لا ينشرُ ولا يتم السماح بالتداول إلا للكتب التي توافق المرجعيات الثابتة لهوية الأمة وخياراتها الدينية والسياسية والثقافية؛ وإلى الآن ما زالت الكتب المدرسية تخضع لرقابة المؤسسة بشكل صارم، رغم التوجّه نحو نهج تعدد المقررات الدراسية؛ والمعنى أن الوسائط تتفوق على الكتاب في طرائق العرض، لكنها قد لا تتسم بالضبط، وقد تؤدّي إلى منزلقات لغوية وفكرية وعاطفية أيضاً، خاصة وأنّ أيّاً كان الآن، مؤسساتٍ وأفراداً، لا يملك القدرة على التخلص من الآثار السلبية، التي قد تصحب استعمال الوسائط الإلكترونية.

يبقى السؤال الآن، كيف يمكن للكتاب أن يُفيد من إمكانات الوسائط، لتغدوَ القراءة فيه على قدر من التوهّج، الذي يشعر به متصفح الوسائط الإلكترونية؟ وكيف نجعل الوسائط الإلكترونية تمتلك خصائص الكتاب على مستوى الضبط المعرفيّ والتحفيز الذهنيّ للقدرات الكامنة؟

أعتقد أن الأمر ليس هيّناً، لكن الأمر موكول للمؤسسات الثقافية والتربوية الوصية أكثر مما هو متصل بمحاولات الأفراد، فكما كانت المكتبات الوطنية لا تسمح إلا بإصدار الكتب عالية الجودة لغة ومعرفة وبناءً، والتي تحترم ضوابط المجالات العلمية والفنيّة الأدبية التي تتأطر داخلها؛ وكانت وزارات التربية والتعليم، وما زالت، تحرص على ضبط المقررات معرفة ومنهجاً وقِيماً؛ فإن على الدول إحداث مؤسساتٍ وصيةً تحرص على حجب الوسائط التي لا يرقى محتواها إلى تطلعات القارئ والباحث والمتصفّح عامة، ولا يُسهم في بلورة شخصيته إيجابياً بتنمية مهارته وقدراته الذهنية، ولا يحترم ثوابت الأمم وقيمها وتوجهاتها؛ وفي المقابل، أعتقد أنه ما من سبيل لنجعل الكتاب بجودة العرض التي للوسائط الإلكترونية، إلا من خلال جعلها -أي الوسائط- حاملا للكتاب، ليتحقق الإقبال عليه كما هو واقع الإقبال على الوسائط؛ وهي غاية لن تُبلَغَ إلا بإمكانيات مادية ليست يسيرة، وبرؤية فنية إبداعية تحتاج في الكثير من جوانبها إلى مسح شامل لمنظورنا الكلاسيكي لمسألة الكتابة والإبداع أولا، ولمسألة القراءة ثانياً.

ومهما يكن، وبالرغم من كلّ المؤثرات التي قد تحظى بها الوسائط الإلكترونية، فإن مسألة القراءة تتصل اتصالا وثيقاً، بما أسماه شارباك، بغمس اليد في العجين، وعجين القراءة الكتاب، لذا أختم بضرورة انفتاح المهتمين والقيّمين بشؤونه على مؤهلات الوسائط الإلكترونية للإفادة منها، في أفق التعاون بدل أفق الصراع والنظرة الإقصائية دون سند في الرؤية والتصور.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها