لفت فيلم "فوي فوي فوي" الأنظار بسبب جرأته في الطرح، ومقدرته الجادة على التناول من خلال معالجة درامية قادرة على الإضحاك، رغم ما تعبر عنه الأحداث من مآسٍ يعيشها أبطال الفيلم، ورغم المفارقات المتتالية التي يتعرضون لها.
على الرغم من أن الفيلم تجربة أولى لمخرجه، إلا أنه يعدّ واحدًا من الأفلام الجادة التي عُرضت خلال العام الماضي (2023)؛ لأنه استطاع أن يقدم كوميديا ناضجة تنتجها المواقف الدرامية، وطبيعة الأحداث وتناميها بعيدًا عن الإفيهات المكررة والجمل المقحمة التي تستجدي ضحكات المشاهدين، من خلال مأساة يعيشها مجموعة من الشبان يحلمون بالسفر إلى الخارج فيدّعون العمى. وهو ما دفع إلى ترشيح الفيلم لتمثيل مصر في المسابقة الدولية "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي، ووصوله إلى قائمة أفضل 30 فيلماً.
استطاع الفيلم أن يغوص داخل الشخصيات، وأن يعبر عن كثير من الفواجع وحالات الخلل الاجتماعي، بسبب عدم الاستقرار والظروف المادية الطاحنة. واستطاع عمر هلال مخرج الفيلم ومؤلفه أن يقدم صورة معبّرة عن الواقع، وعن مدى تأثّر الشخصيات ومآلات مصائرها نتيجة لما تمر به من ظروف حياتية تسيطر وتتحكم في اختياراتها.
كوميديا سوداء وواقع مأزوم
تتمحور الأحداث حول حسن (محمد فراج) الشاب الذي يعمل حارس أمن ويعيش حياة فقيرة مع والدته، ويسعى جاهداً للسفر إلى أوروبا، وحينما تفشل محاولاته، يقرر الانضمام لفريق كرة قدم للمكفوفين، حيث لم يتبق أمام الفريق سوى مباراتين فقط، يسافر بعدها إلى أوروبا للمشاركة في بطولة كأس العالم، ما يجعلها فرصة جيدة للهرب وبدء حياة جديدة، لذلك يحاول تمثيل شخصية فاقد البصر بعد أن فشل في أن يسلك طريق الهجرة غير الشرعية، وتراجع عنها عندما علم من القائمين عليها بالمعوقات والمخاطر التي سيواجهها، وأنه في كل الأحوال لن يسلم من الغرق في عرض البحر، أو الترحيل في أفضل الحالات إذا نجح في الوصول إلى أوروبا.
لذلك؛ رأى أن فكرة ادعاء العمى والتخفي بين لاعبي فريق كرة الجرس المكفوفين فرصة جيدة للسفر، وأن عليه استغلالها، فقام بالتدرب على اللعب دون أن يبصر، ثم ذهب إلى النادي وعرض خدماته كلاعب ضرير يجيد لعب الكرة منذ الصغر.
فكرة الفيلم مستوحاة من أحداث حقيقية بطلها شاب مصري يدّعي فقدان البصر من أجل السفر للخارج، وبالفعل سافر فريق كرة الجرس للمكفوفين إلى بولندا للمشاركة في بطولة دولية، لكنهم هربوا ولم يعودوا إلى الوطن، وتبيّن في ما بعد أنهم مبصرون. استطاع المخرج وبمقدرة كبيرة أن يقدم شكلًا من أشكال الكوميديا السوداء معتمداً على تصوير الحياة البائسة لمجموعة من الناس يجمع بينهم حلم السفر إلى أوروبا للهرب من واقع مأزوم يعيشونه، لذلك تخرج الضحكة متهكمة وحزينة ومندهشة حيال ما آلت إليه أحوال الشخصيات التي تعبّر بطبيعة الحال عن أحوال كثير من البسطاء.
صور تعبيرية منفتحة على الدلالات
حمل الفيلم صوراً تعبيرية لأحداث منفتحة على مزيد من الدلالات التي يدفعها إلينا المخرج واحدة بعد أخرى، فالسينما تعبر عن الواقع، ومرآة عاكسة له بلا شك، أو بحسب سيجفريد كراكاور إن الشكل السينمائي المثالي هو "القصة الموجودة في الواقع"؛ لأن السينما أداة جيدة لتسجيل الواقع المادي والكشف عنه، بالتالي يخطئ من يظن أن الأحداث بالغت في هذا التصور الذي يجعل أغلب الشخصيات تتدافع للهروب بطرائق غير مشروعة بسبب الظروف التي تعانيها.
استطاع محمد فرّاج أن يعبر تعبيراً صادقاً عن شخصية الكفيف، لاسيما في لغة الجسد التي يتسم بها فاقد البصر خاصة في إمالة رأسه وحركة الساعدين والساقين. وجاء مشهد المواجهة أو المصارحة مع إنجي (نيللي كريم) من أقوى المشاهد أداءً، حيث عبّر عن لحظة فارقة على مستوى الأداء، وعلى مستوى التصاعد الدرامي للشخصية، فقد عبّر انفعاله وبكاؤه وهو يسأل عن ماذا أخذ لكي يعطي، والظروف المريرة التي يمر بها والمستقبل الضائع، عن استحضار كل الظروف والمعاناة التي يعيشها جيل كامل من الشباب يبحث عن نفسه وعن مستقبله وسط ظروف صعبة.
شخصيات مهشمة
تمثل شخصية حسن محور الأحداث، والشخصية المركزية التي تجرى الأحداث من خلالها، إلا أن ثمة مركزية أخرى لباقي الشخصيات تبرزها ظروفها الحياتية التي تدفعها أيضاً للسفر، فهي شخصيات مهمشة اجتماعياً، تسعى من أجل التغيير بلا نتائج مرضية، لذلك نجد الأصدقاء الثلاثة يعملون في أعمال متدنية (فرد أمن، دليفري، عامل في السيبر) وبالتالي فإن صديقه طه الدسوقي، والآخر أمجد الحجار يعيشان أيضاً حياة بائسة. ولا غرو أن يسلك مدرب الفريق الكابتن عادل (بيومي فؤاد)، والدكتور رؤوف طبيب الفريق (محمد عبد العظيم) وبعض اللاعبين نفس المسلك للبحث عن حياة أخرى.
يلقي الفيلم الضوء على استشراء الفساد من خلال توظيف شخصية د. رؤوف دراميًا بما يتناسب وظروف الحياة الاجتماعية التي تدفع إلى للهرب، حيث إن الدكتور أكبر سنا ومركزا ويفترض أن يكون قدوة للشباب، لذلك لم يأت طلبه للمال مقابل السكوت مباغتة؛ فمناخ الفساد والاحتيال والانتهازية يسيطر على الأجواء التي انبثق منها طموح البطل الرئيس. بينما عبّر الفيلم عن ضمير الصحافة من خلال شخصية إنجي (نيللي كريم) التي رفضت احتيال حسن وهددته بإفشاء سره، كما أنها أحبته وتعاطفت معه قبل أن تعرف الحقيقة، ولذلك طالبته بالتراجع عن فكرة السفر.
الكفيف.. وحلم الفوز بالبطولة
لم تكن المباغتة أيضاً في موقف محمد السعداوي اللاعب الذي يجب أن يعمل الجميع من أجل إسعاده، فهو الكفيف الذي يعيش من أجل الاحتفال بالفوز بالبطولة، فهذا يسعده أكثر من الجميع، لكن تكشف الأحداث أنه مبصر ويكون أول الهاربين من الفندق بمجرد الوصول إلى أوروبا.
حوى الفيلم العديد من الإشارات والدلالات التي تولدت من الأحداث وساهمت في تطور الشخصيات وتبرير طموحها دراميًا، فهي تعيش واقعاً متردياً لا مجال فيه لأي نجاح، لذلك ولأن الشخصيات نفسها جزء من هذا الواقع؛ فهي تساهم بدورها في هذا الفساد واستشرائه في المجتمع. وتكشف المواقف التي تتعرض لها سواء في العمل، أو في علاقاتها بالأسرة، أو مع الحبيبة أو الزوجة، ما يبرر دراميًا سعيها للهرب والبحث عن حياة أخرى، فهي شخصيات مأزومة، وتعيش حالات من الغبن، استطاع الفيلم أن يبرز ذلك في السياق الدرامي، مثل حياة حسن في عمله وعلاقاته غير المتكافئة، وعدم مقدرته على الزواج من الفتاة التي يحبها بسبب ظروفه المادية.
أما صديقه سعيد (طه الدسوقي) عامل الدليفري الذي فوجئ بحبيبته القديمة في موقف غير مقبول؛ فإنه يعيش حياة بائسة، فيما يعاني عادل مدرب الفريق من زوجة متسلطة، فضلا عن شخصيته الانتهازية، وعلى الرغم من استقراره النسبي بعد تعيينه في النادي، إلا أنه يستغل الظروف لكي يهرب، ولديه حلم بأن يلحقه ابنه الوحيد إلى أوروبا.
ادعاء العمى من أجل الهرب
هكذا نرى الأوضاع الاقتصادية تدفع للاحتيال وادعاء فقدان البصر من أجل الهرب إلى أوروبا كبديل للهجرة غير الشرعية المحفوفة بالمخاطر، وكأن الاحتيال هو المعْبر الوحيد للهرب. لذلك ترتسم ملامح الشخصيات لكونها جزءاً من الفساد الذي تعيشه، في ما يعني أن الجميع مسؤول عن هذا الواقع المتردي.
استطاع حسين بيضون وسالي الشامي مهندسا الديكور من إضفاء السمات الأساسية للبعد الاجتماعي في بيت الشخصية المحورية، وسطح البيت الذي شهد لقاءاته بحبيبته الأولى (بسنت شوقي)، كما تضافرت الموسيقى التصويرية التي وضعها ساري هاني مع مكونات البيت، وعبرت الموسيقى عن الأحداث والمشاهد، ويلاحظ هدوء وتيرتها تارة وعلوها تارة أخرى تبعًا للتصاعد الدرامي.
الفيلم بداية مبشّرة لمخرج واعد، استطاع أن يلفت الأنظار بعمله الأول، ويلامس أوجاع البسطاء في حياتهم اليومية، وأن يكون معبراً بصدقٍ عن قضايا الواقع الذي يعيشونه.. حقق الفيلم إيرادات مرتفعة في كل من مصر والسعودية والإمارات.