عَرعر.. أيقونةُ الجَمال في مُدن الشّمال

عمرو أبو العطا


خرجت من ضلع البادية، تمشي على أطراف الصحراء، بين خطوات قوافل مرت ثم عادت، تقاس بما تختزله من كرم، ومن لهجة شمالية صافية، تنبض بما يكفي ليقال عنها "درة الشمال"، وأنا أقول عنها: "أيقونة الجمال في مدن الشمال". عرعر ليست مدينة، إنها فكرة، ولدت في الجغرافيا وكبرت في الذاكرة واستقرت في القلب.


تتألق كشاهد حي على عظمة التاريخ وجمال الطبيعة، فتزهو بمعالمها التي تروي قصصاً من الماضي العريق، وتنبض ثقافتها الشعبية بأصالة الأجداد، وتفوح من أجوائها عبق الكرم والجود الذي يشتهر به أهل الشمال. إنها مدينة تختزل في جنباتها كل ما هو جميل وأصيل.

تقع على مفترق طرق دولية، في أقصى شمال المملكة العربية السعودية، على امتداد خط عرض ثلاثين درجة شمالاً، بوابة المملكة الشمالية ومعبراً استراتيجياً بين بلاد العراق وبلاد الشام، لتروي حكايات القوافل القديمة، والحجاج الذين عبروا الصحاري بحثًا عن الأمل، وحاضنة للحضارات التي تعاقبت على هذه الأرض.

الاسم ذاته، "عرعر"، لا يُقال عبثاً. يُروى أن الشجر الذي كان يغمر الوادي المحيط بها هو الذي منحها اسمها، شجر "العرعر"، المعروف بصلابته وعطره البريّ. تمامًا كأهلها، لا يهاب الجفاف، ولا تنحني أغصانه للريح. وفي تأويل آخر، أنها تعني الخط المستقيم، كأنما كُتب لها أن تكون مفترق طرق لقوافل الأمس، ونقطة التقاء حضاري للمستقبل، فليس عجباً أن يذكرها امرؤ القيس في شعره، والهجري في كتاباته.

ولدت من رَحم مشروع ضخم في أربعينيات القرن العشرين "خط التابلاين"، هذا الأنبوب الذي شق الصحاري ليحمل النفط من الخليج إلى البحر المتوسط، كان شريان حياة قد مرّ من هناك، فَنَمت حوله المدينة، وتحوّلت المحطة إلى نبض دائم، ونهضت عرعر في صمت جميل.

على ضفاف هذه النشأة الحديثة، بقيت الطبيعة حاضرة كقلب نابض.. فـ"بحيرة عرعر"، على الرغم من كونها بحيرة صناعية، صنعت لتتناغم مع الطبيعة، فتنعكس السماء على سطح الماء، وتتمايل الأغصان على استحياء، يلتقي الناس، يتنزهون، يضحكون، كأنها مرآة لوجه المدينة الهادئ.

من عصور ما قبل التاريخ حتى العصر الحديث، يقف "متحف الحدود الشمالية الإقليمي" صرحاً ثقافياً شاملاً، يُعيد بناء الذاكرة كل يوم، يضم في أرجائه كنوزاً أثرية وتراثية، من الأدوات الحجرية، والنقوش الصخرية، والفخاريات، والمخطوطات، مشاهد من حياة بدوية لا تزال تنبض في أهداب الصحراء. تاريخ متجدد لا يشيخ، يتدفق بالحياة في كل أرجاء المتحف.

ويقف "قصر الإمارة التاريخي" شامخاً، شاهداً على تاريخ الحكم والإدارة في المنطقة، محتفظاً بملامحه المعمارية الأصيلة.

بعيداً عن قلب المدينة، يأخذك الطريق إلى قرية لوقة الأثرية. أطلال صامتة، مملوءة بالحياة لمن يُنصت. جدران متهاوية، وراءها تاريخ من الزراعة، والماء، والبشر الذين عاشوا هناك، وتركوا وراءهم قلوباً منقوشة على الحجارة.

ولأن المدن تُقاس بروح أسواقها، فإن سوق عرعر الشعبي لا يُشبه إلا نفسه. مزيج من العطور، والبهارات، والتمر، فتُباع البضائع، وتُعرض الذكريات، وتُشترى الحكايات... والحرف اليدوية لا تزال هناك، سدو يُنسج بخيوط الذاكرة، وخناجر تُطلى بالفضة، وجلود تُطرز بصبر عجيب.. فنًا واقتصاداً وذاكرة، وبياناً بأن الماضي لا يزال ينبض.

وتمتد أيادي الطبيعة لتُشكل "وادي عرعر"، ممراً طبيعياً خلاباً بتضاريسه ومناظره المتنوعة، من النباتات البرية، والطيور المهاجرة، مكتسياً بحلة خضراء زاهية خاصة في فصل الربيع.

أطباقها الشعبية؛ من الكبسة والمفطح، رمز الكرم والضيافة، إلى الجريش، والمحمّر، وخبز الصاج، والمراصيع. مرآة تعكس أصالة أهل الشمال وكرمهم الفيّاض، فاستقبال الضيوف وإكرامهم جزء لا يتجزأ من هويتهم الثقافية، ومظهر راسخ من مظاهر الحياة اليومية التي تحتفي بالضيافة كقيمة متجذرة في الروح الشمالية.

ومن الكرم إلى الفرح، تعلو رقصة الدحة، رقصة الصحراء وصوت القبيلة. تصفيقٌ جماعي، أهازيج تُشبه هتاف الفخر، صفوفٌ مصطفّة كأنها جيشٌ يحتفل بانتصار. كانت الدحة في الأصل رقصة حرب، واليوم صارت نشيدًا للحياة. وحين تتعالى، تعرف أن المكان يحتفي بذاته، ويعيد تذكير أبنائه بهويتهم.

وتجاور الدحة، السامري، فن البوح، والحوار الشعري الذي لا يتقنه إلا من أدرك المعاني، قصائد تُقال على إيقاع الدف، تُشعل المجالس، وتربط الحاضر بالماضي، وتمنح اللغة معنى إضافياً من الانتماء.

لم تكتف بجمالها الطبيعي وعراقة تاريخها، فمدت جسورها نحو آفاق العلم والمعرفة، فلا عجب أن تقدم جامعة الحدود الشمالية بصماتها في عالم العلم والبحث، وتغرس جذور المعرفة في كل ركن من أركانها، فتخرج باحثون وعلماء أمثال الدكتور محمد أكرم رندهاو والدكتور محمد عمران أنصاري، والدكتور دانيال جوزيف، الذين أُدرجوا ضمن قائمة جامعة ستانفورد لأعلى 2% من علماء العالم الأكثر استشهاداً، إنجاز يبعث الفخر، ويعكس الجودة العالية للأبحاث التي تُجرى في المنطقة والمستوى الأكاديمي المتقدم الذي وصلت إليه الجامعة.

تطورت المدينة عمرانياً، من شبكات الطرق إلى المياه والكهرباء، مشروعات تنموية تخطو بخطى ثابتة نحو المستقبل، مع خطة طموحة تتناغم مع رؤية المملكة 2030، لتكون وجهة سياحية، مركزاً لوجستياً مزدهراً، وموقعاً للحفاظ على التراث والهُوية، ومستودعاً للأمل في غد أجمل.

عندما جئت إلى أرض المملكة قبل عشرة سنوات، قادني العمل إلى مدينة عرعر، أقمت فيها أربع سنوات، لا أبالغ حين أقول إنها أصبحت جزءاً مني، فهي تشبه قريتي التي ولدت بها، وأهلها يشبهون أهلي، وطعامهم يشبه طعام أمي.. فكيف لا تكون جزءاً مني، وبين حين وآخر يأخذني الحنين إلى هذا المكان البعيد، مكان محفور في أعماق الذاكرة.

وختاما أقول كما قال امرؤ القيس:
سَما لكَ شوقٌ بَعد ما كان أقْصرا
وحلّتْ سُليمى بطْنَ قوٍّ فَعَرْعَرا

 


 

Video ©  (السعودية) إدارة تعليم منطقة الحدود الشمالية ▲ 2022

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها