إن إحدى أهم القضايا التي تثير الجدل في "النقد الثقافي"، هي قضية المنهج، التي تتفرع عنها قضية فرعية مثيرة للجدل هي "تعدد المنظورات"؛ إذْ ينظر إليها بوصفها دافعاً لجعل الممارسة النقدية الثقافية تتصف بفائض الفوضى، التي لا تنضبط لجهاز مصطلحي أو منهجي واضح. وفي مرجعيات النقد ما يعزز هذا التصور، فلقد شبه كولن سباركس استراتيجية الدراسات الثقافية، وهي صيغة متقدمة للنقد الثقافي ما يجمعهما يفوق ما يفرقهما، بحقيبة الظهر التي تحمل أفكاراً، ومناهجَ في النقد الأدبي، السوسيولوجيا، التاريخ، ودارسات الميديا (...). وهي الفكرة نفسها التي يناقشها دوغلاس كلنر، ويؤكد على أهمية أن تكون الدراسات الثقافية "متعددة المنظورات". وهذا التعدد يروم تقديم قراءة موسعة في النصوص والخطابات الأدبية من زوايا متعددة، لا من منظور واحد، قد يغفل باقي الجوانب في النص الأدبي. ويحاجج كلنر بأن تعدد المنظورات يسعف في تجاوز هفوات بعض المناهج النقدية حينما توظف منفردة، "فالنقد الماركسي في نظره قادر على تحليل "الطبقة"، لكنه ضعيف في التحليل الشكلي، والنسوية تتفوق في تحليل "الجندر" لكنها تتجاهل الطبقة والعرق، والبنيوية مفيدة في التحليل السردي، غير أنها شديدة الشكلية".
إن تعدد المنظورات في النقد الثقافي بما يتيحه من فرص تقديم قراءة ثقافية موسعة، تستحضر أبعاداً متنوعة من الخطاب الأدبي، هو في الوقت نفسه يصنع رهاناً حقيقياً، على الناقد الثقافي أن يربحه، وهو كيفية التعامل مع هذا التنوع، دون أن يؤدي ذلك إلى إفقاد النص النقدي اتساقه وانسجامه من جهة، وانضباطه المنهجي من جهة أخرى. وإذا كان عبدالله الغذامي يوظف جهازاً مصطلحياً ثابتاً مكوناً من المجاز الكلي، التورية الثقافية، النسق الثقافي المضمر... ليقارب بنيات خطاب مختلفة أدبية وغير أدبية، كخطاب الصورة والمدونة الفقهية، والظواهر الاقتصادية، فإن هذا الثبات يعود في جوهره إلى منظور واحد هو البلاغة العربية، أو الأنثروبولوجيا الثقافية كما في مفهوم النسق الثقافي. وهو ثبات قد لا يحقق الغاية من تنوع المنظورات، التي تسعى إلى خلق مرونة منهجية، تسترفد من المنظورات جهازها المصطلحي قصد تنويع رهان القراءة.
ومن الجهود المبكرة التي انتبهت إلى ضرورة إحاطة تعدد المنظورات بضوابط صارمة في التعامل معها في النقد الثقافي دوغلاس كلنر، الذي أكد أن "اختيار المنظورات ينبغي أن يكون حسب أهداف وغايات القراءة، وبالتالي فبعض الأهداف ستحتاج، مثلاً، منظوراً نسوياً ولا تتطلب منظورات أخرى". أي تحديد الغاية من القراءة النقدية هو الذي يجعلنا نختار المنظور المناسب، وهذه الغاية تختلف من ناقد إلى آخر، وتقترن بطبيعة النص المقارب. ولعل المشكلة الأكبر التي يمكن ملاحظتها في بعض القراءات التي تقدم تحت يافطة النقد الثقافي أنَّ القارئ المتخصص قد لا يفهم أسباب اختيار منظورات بعينها، التي قد لا تتناغم مع الأهداف التي صاغها "الناقد الثقافي"، أو قد تغرق في منظور موضوعاتي خالص، يلخص المضامين، حتى دون أن يكون هناك جهاز مصطلحي دال على المنظور المختار.
إن أخطر ما قد يواجه القراءة الثقافية، ويمنعها من غايتها في تقديم قراءة حياتية للنصوص، مع نزوع غيري واختلافي، ويحافظ على بنيات خطابها الواسمة، هو أن يتم تلخيصها في كشف الأنساق المضمرة اللا واعية فقط، أو يتم اعتماد جهاز مصطلحي ثابت من منظور واحد، أو حتى على النقيض من ذلك استرفاد وفرة منهجية غير منضبطة لمنهج واضح. ولعل أولى مبادئ المنهج في النقد الثقافي أن يكون اختيار المنظورات مقترناً بالهدف من القراءة الثقافية، ولنفترض أننا نروم في هذه القراءة أن نقرن أثر الالتزام في نصٍّ روائي مثلاً على بناء الفضاءات الثقافية والغيرية، فهل نعتمد لهذه الغاية منظوراً واحداً من مرجعية بلاغية، كالمجاز الكلي أو التورية الثقافية، أم الأدق هو اعتماد منظور السيميائيات الثقافيات والماركسية الجديدة مثلاً، اعتباراً لكون المنظور الأول يقدم عبر جهود يوري لوتمان مفاهيم إجرائية لبناء الفضاءات الثقافية، والمنظور الثاني يمنح أدوات متنوعة وتصورات مختلفة حول تطور مفهوم الالتزام وأبعاده.
إن اختيار المنظورات ينبغي أن ينضبط لغايات القراءة، لكن أيضاً أن يقترن بطبيعة الجنس الأدبي المقارب، فالقراءة الثقافية التي من المفترض فيها أنها توفر معرفة وأدوات لنظرية الأدب تمكنها من نمذجة بنيات خطابه، لا بُدّ أن تكون الأدوات الإجرائية الموظفة مناسبة للجنس الأدبي، فلا يمكن أن نتخيل أن نحلل نصّاً شعرياً دون مرجعية تمتح من التحليل البنيوي، فهو منظور ضروري، للكشف عن بنياته الفنية، ويمكن أن ندعم هذا المنظور بآخر يوسع من غاية القراءة، كأن يكون منظور "النسوية ما بعد البنيوية" داعماً في قراءة ثقافية تتغيا الكشف عن الخصائص الفنية ومقاومة النزعة الذكورية في نص شعري لولادة بنت المستكفي مثلا. وقس على ذلك اختيار منظورات أخرى في مقاربة أي نص أدبي.
وإذنْ؛ فإن تنوع المنظورات خاصية واسمة للقراءة الثقافية، فالمنظور عنصر عضوي مثلما يؤكد آرثر أيزابيرجر الذي يقول إن "النقد الثقافي يتأسس دائماً على منظور ما، يرى الناقد من خلاله الأشياء"، وهذا معناه سقوط دعاوى الفوضى المنهجية التي تُرمى بها هذه الاستراتيجية النقدية؛ إذْ لا بد أن يستند الإجراء النقدي فيها إلى منظور واضح، يتناغم مع الهدف من القراءة. ولقد طرح ستيوارت هال hall مفهوم "التمفصل" Articulation، وهو مصطلح منهجي بالغ الأهمية، ليعبر عن التناغم الذي يحدث بين تخصصين (منظورين) في حقبة تاريخية لتخلق وحدة ما، وهذا التمفصل هو ظرفي، وله علاقة بالقوى الاجتماعية "فنظرية التمفصل تعد طريقة لفهم كيفية تماسك العناصر الأيديولوجية، في ظل بعض الظروف داخل خطاب معين". وهكذا يمكن لمنظورات الجندر (النوع)، الطبقة، الإثنية.. أن تتحد مع النظرية النسوية، أو الماركسية أو الأنثروبولوجية أو التفكيكية في حقبة تاريخية تميزها ظروف معينة، وقد تصير تلك المنظورات أثيرة عند نقاد تلك الفترة. بمعنى أن اختيار المنظورات من قبل النقاد الثقافيين لا بُد أن يخضع أيضاً للظروف الثقافية وللقوى الاجتماعية والسياسية المهيمنة في حقبة ما.
إن هذا التصور للشكل الذي ينبغي أن يتخذه المنهج في النقد الثقافي، هو تقريباً نفسه عند توجهات المظلة النقدية، فالمادية الثقافية، وهو المفهوم الذي صاغه رايموند وليامز، يستند أيضاً إلى المنظور الماركسي المعدل الذي ابتعد فيه رايموند وليامز عن الماركسية المبتذلة، دون أن يتخلى عن دور الثقافة في إحداث التغيير الاجتماعي، ومناهضة تجبر السياسيّ. وهي المرجعية نفسها عند نقاد التاريخانية الجديدة، الذين دعوا إلى إنتاج القراءة المقاومة التي تفضح القيم الرجعية داخل النصوص الأدبية. أي تحليل النصوص من الداخل، بالرغم من أن هذه القراءة/ المقاربة المقاومة التي يقترحونها هي أيضاً متعددة المنظورات، وهو ما وضحه دانكان بتأكيده أن نقاد التاريخانية الجديدة يأخذون بلا حرج من الماركسية والتحليل النفسي، ونظرية اللغة والسيميوطيقا، وهو ما ينسحب على عدد كبير من نقاد التاريخانية الجديدة.
إن مرجعيات النقد الثقافي تمنح مداخل لاستثمار تعدد المنظورات في تقديم قراءة موسعة وشاملة، تستغور الخطابات الثقافية: أنساقها ورؤاها، وتقدم قراءة حياتية لهذه الخطابات، غير أن النظر إليها باعتبارها أساساً للفوضى المنهجية، ينطلق من تمثل يقوم على فكرة "المنظور الواحد"، الذي يحتاج إلى إعادة نظر في المدونة النقدية العربية.