الشِّعرُ المنطوق مصدراً للشفاء!

بقلم: إيريكا فليتشر

ترجمة: علي شنينات


إيريكا فليتشر هي باحثة تحمل درجة الدكتوراه من جامعة بورنموث بلندن. يستكشف بحثها شعر الكلمات المنطوقة، والشكل الفني والقيمة الاجتماعية التي يجلبها للمشاركين، سواءً كمؤدين أو مستمعين. وقد انطلقت في دراستها من كونها باحثة في الشعر وتأثيره في المجتمعات التي تحتفي بهذه القيمة العليا، وما تتركه في النفس البشرية من أثر بالغٍ الجمال والسمو.
 

وتقول الباحثة: إنه مع عودة الشعر إلى جذوره كفن أداء؛ فإنه يوفر للكثيرين مصدرًا قويًا للشفاء، لهم وللمجتمع بشكلٍ عام. تخيّل أنك تجد نفسك وسط جمهور وشخصٌ يتحدث بميكروفون مفتوح، سيأسرك المؤدي على خشبة المسرح وهو يعرض أعمق أفكاره في الغرفة، ويكشف عن ضعفه الإنساني:
"اليوم اشتريت لكِ الزهور
فكيف يمكن للمعاني أن تتغير
ما كان يوما رمزاً للفرح أصبح الآن رمزاً للألم"

إنّها لغة عالمية تستخدمها عندما لا تعرف ما تقوله، فالحشد منتبه، ولكنه بعيد عن الصمت طوال الأداء، تسمع فرقعة الأصابع والهتافات، مما يدلّ على الموافقة على خطوط معينة. يصرخ أحدهم "أرجع"! وهذا يعني أنهم تأثّروا بسطرٍ معين وكانوا متلهفين لسماعه مرة أخرى، فيلتزم الشاعر بإرادتهم ويعيده مرّة أخرى. وفي نهاية العرض يتعثر الشاعر وينسى كلماته للحظات. إذا لم تكن قد حضرت حدثًا للكلمات المنطوقة من قبل، فقد تشعر بعدم الارتياح، وتتوقع أن يكون حكم الجمهور سلبيّاً، وبدلاً من ذلك، تمتلئ الغرفة بسيمفونية داعمة تتمثل في نقر الأصابع والتصفيق والصيحات المشجعة، وتختتم القصيدة، مما يثير تصفيقًا مدويًّا ويعود الشاعر إلى مقعده. لقد انتهى العرض هنا، لكن طاقته باقية طوال الليل، وخلال فترات العرض وبعد العرض، ترى الشاعر وهو يناقش قصيدته مع الجمهور، مما يحافظ على روحها حيّة.

الأحداث الشعرية المنطوقة بعيدة كل البعد عن القراءة الشعرية القياسية، ويعتقد الكثير من الناس اليوم أن الشعر هو عمل فردي صامت، لكنه في الواقع بدأ كتقليد شفهي وليس مكتوباً. قبل محو الأميّة الجماعي، كان يتم مشاركة القصائد والقصص شفهيًا وتقديمها للجمهور، فعلى سبيل المثال، خلال العصور الوسطى، كان من المعتاد أن يؤدي النصوص فنان، مثل المنشد، أو المؤلف نفسه، ولكن في العصر الحديث، قدّمت وسائل الإعلام للجمهور وسائل بديلة للترفيه وتراجع فن رواية القصص. إن الشعبية الحديثة والمتزايدة للكلمة المنطوقة (المعروفة أيضًا باسم شعر الأداء) هي شعر يعود إلى جذوره الشفهية.

وتقول: خلال مشاركتي في الكلام المنطوق لمدة 10 سنوات، وبحثي عنه لمدة خمس سنوات، رأيت كيف يساعد الشعر المنطوق الناس على تحقيق التوازن العاطفي والشفاء. إنها تشترك في العديد من الفوائد مع الشعر المكتوب، والأشكال الأخرى من الكتابة التعبيرية، بما في ذلك مساعدتنا على تنظيم أفكارنا، وإعادة كتابة رواياتنا ومعالجة عواطفنا، وكلها تمكننا من التعامل بشكل أفضل مع التجارب الصعبة أو المشاعر اليومية. إذا سبق لك أن كتبت قصيدة أو حتى تدوين يوميات عن تجربة شخصية، فربما تكون قد اختبرت بالفعل التحرّر الشافي، الذي تحقق من خلال صياغة مشاعرك بالكلمات. يقدم شعر الكلمات المنطوقة كل هذه الفوائد، ولكن أيضاً مع البعد الإضافي المتمثل في التواصل الاجتماعي، وهو أمر أساسي في جوهره وبالغ الأهمية، لمساعدة المشاركين في الحصول على تجربة شفاء أو متعة تجعلهم سعداء.

تعزز الكلمة المنطوقة التأمل الذاتي والتوازن العاطفي واستكشاف الهوية. ففي حدث الكلمات المنطوقة المفتوح خلف الميكروفون، يقوم الأشخاص بالتسجيل لأداء قصائدهم الأصلية، وعادةً ما يقوم الشاعر المحلي بالتنظيم والاستضافة، وتشمل الأماكن المقاهي المريحة والحانات النابضة بالحياة، ومساحات الفنون الملهمة وحتى دور السينما. يتم تنظيم جدول الأعمال لمدة تتراوح من ثلاث إلى خمس دقائق تقريبًا لكل منها، ولكن بعض الأحداث تضمّ شاعرًا معروفًا كحدثٍ رئيسي، يقدّم خلالها مجموعة أطول من قصائده المنسّقة والمعمّقة.

تحظى الكلمة المنطوقة بشعبية عالمية، وعلى الرغم من أنها تكون أساسًا في أماكن مستقلة، إلا أن هناك منظمات وأماكن ومسابقات راسخة في جميع أنحاء العالم تنظّم هذه الفعاليات. في إنجلترا، تأسست منظمة Apples and Snakes في عام 1982، وهي منظمة الكلمات المنطوقة الرائدة في البلاد. بينما في أمريكا، يعتبر مقهى Nuyorican Poets Café، الذي تأسّس في عام 1973، مكانًا يحظى باحترام كبير للكلمات المنطوقة. تقيم منظمة World Poetry Slam نسخة تنافسية من برنامج الكلمة المنطوقة وفي مدينة مختلفة كل عام، وكان آخرها في مدينة ريو دي جانيرو - البرازيل.

سواء كنت مؤدياً أو بين الجمهور، يمكن أن يساعدك شعر الكلمات المنطوقة على فهم نفسك بشكل أفضل، فهو يعزز التأمّل الذاتي والتوازن العاطفي واستكشاف الهوية. من خلال هذا الشكل الحميمي من التعبير، نتعمّق معًا في مشاعرنا وأفكارنا ورواياتنا الشخصية.

إن العديد من القصائد في فعاليات الكلمات المنطوقة، هي عبارة عن سيرة ذاتية، وتتناول موضوعات يمكن أن يرتبط بها معظمنا - سواء كان ذلك يتعلق بالوقوع في الحب، أو حسرة القلب، أو الحزن، أو التحيز، أو الصراع مع الصحة العقلية، أو الإحباط بسبب المناخ السياسي، وهذه مشاكل إنسانية عامّة نشترك بها جميعاً. إحدى الشاعرات التي أعرفها تؤدي عروضها كوسيلة لمعالجة الحزن الذي أحاط بوفاة والدها، وعندما تؤدي هذه القصائد، تشعر كما لو أنها أطلقت مشاعرها للجمهور، مما خفّف العبء عن نفسها. وهذا أيضًا ما أشعر به بالضبط، عندما ألقي قصائد عن جدي الراحل، فلدي بعض القصائد التي تركّز على تجربتي مع الحزن، وأخرى تحتفي بحياته:
"اليوم نتبادل القصص
عن الشخص المفقود من الجدول
نمرّر الأطباق الحزينة بيننا
نتناول شطائر مليئة بالذكريات
نحاول أن تبتلع الكتلة الموجودة في حناجرنا"

ليست مجرد مشاركة الشعر هي التي تساعد على الشفاء، بل إنها الروابط التي تتشكل بين الجمهور والشاعر. يمكن للشعراء أن يكونوا على طبيعتهم في هذا الفضاء الآمن، حيث يغيب التهكّم والسخرية. يقدم الشعراء وأعضاء الجمهور الآخرون التشجيع والتعاطف، مما يخلق مساحة يتم فيها الاحتفاء بالضعف الإنساني واحتضانه. تعمل القصائد كنقاط بداية للمحادثات التي يمكن أن تستمر بعد الحدث.

يحدث الشعور بالتنفيس عندما يعبر شخص ما عن مشاعرك في كلماته. أتذكر ذات مرة، بعد أن قدمت قصيدة عن موضوع وفاة جدي، دخلت في محادثة مع شاعر آخر كان لديه تجربة مماثلة. لقد نقلنا قصصًا عن عائلاتنا المرتبطة بهذه التجربة المشتركة، وتشاركنا الأدوات التي كانت تساعدنا على الشفاء، مثل البحث في الصور الفوتوغرافية، وتدوين الذكريات، وكتابة الرسائل لهم. ينطبق الشعور بالشفاء الجماعي أيضًا على أفراد الجمهور الذين يرتبطون بكلمات الشاعر، ذلك إن الاستماع إلى شخص يمرّ بنفس المشاعر أو التجارب التي تمر بها، أو مررت بها في الماضي، يمكن أن يجعلك تشعر بوحدةٍ أقل وأكثر ارتباطًا بالآخرين.

في بعض الأحيان قد يكون الاستماع إلى هذه الكلمات أمرًا صعبًا إذا كانت مرتبطة بتجربتك. خلال محادثة أجريتها مع شاعرة سوداء، أخبرتني أنه في بعض الأحيان، قد يكون من المؤلم سماع تجارب الناس مع العنصرية أو التمييز الجنسي التي عاشتها هي أيضًا. فعلى الرغم من صعوبة سماع هذه الأشياء، إلا أن الشعور بالتنفيس لا يزال يحدث عندما يعبّر شخصٌ ما عن مشاعرك في كلمات. هل سبق لك أن قمت بغناء أغنية حزينة عندما كنت حزينا؟ أو شاهدت فيلمًا تعرف أنه سيجعلك تبكي عندما تكون غير سعيد؟ إن القيام بهذه الأشياء يثير المشاعر ويمكن أن يؤلمنا، لكنه يسمح لنا أيضًا بمعالجة المشاعر والشعور بالتحرر.

تعزّز الكلمات المنطوقة أيضًا التواصل والشفاء، من خلال تعريضنا لتجارب متنوعة وتعزيز التعاطف، حيث تعد الكلمة المنطوقة شكلاً من أشكال الفن الذي يمكن الوصول إليه بشكل لا يصدق، ولا يتطلب منك أكثر من حضور الحدث، والاستعداد لأداء كلماتك أمام الجمهور، دون قواعد تهيمن عليك، طالما أنك تؤدي مقطوعة أصيلة وليست طويلة جدًا (أقل من خمس دقائق هو متطلب نموذجي)، ولا تتضمن أي محتوى مسيء، فسيتم قبولها في حدث الكلمات المنطوقة، ويتفاعل معك الآخرون.

رأيت مغنيي الراب يؤدون كلماتهم بدون موسيقى، أو شعراء يعزفون مقطوعات موسيقية مساندة إلى جانب أدائهم. فإذا كانت الكلمات هي محور الأداء، فإن هناك عدداً قليلاً جدًا من القيود. تجذب العوائق المنخفضة أمام الدخول جمهورًا متنوعًا بشكل استثنائي، وتجمع بين أفراد لم يكن من الممكن أن يلتقوا أبدًا. فمن خلال الانخراط بنشاط مع شعر الناس والاستماع إلى تجاربهم مباشرة، نبدأ رحلة من التعاطف وأخذ وجهات النظر. يمكننا أن نحمل هذه المشاعر والمهارات إلى مجالات أخرى من حياتنا، مما يفيد علاقاتنا وربما يساهم في بناء مجتمع أكثر تعاطفًا وتناغمًا.

 

أعتقد أن شعر الكلمات المنطوقة يبرز بين المجموعات والمجتمعات الداعمة له، بسبب مزيجه المميز من التعبير عن الذات والتواصل الاجتماعي والإبداع الفني، على عكس المجموعات الأخرى، حيث توفر فعاليات الكلمات المنطوقة منصة للأفراد، لمشاركة قصصهم الشخصية. فإذا كنت مهتمًا بعالم الشعر المنطوق، فأنا أشجعك على البحث عن الفعاليات في منطقتك.. أغتنم الفرصة لمشاركة كلماتك الخاصة، أو مجرد الحضور كعضو في الجمهور. ابدأ بالبحث عن "شعر الكلمات المنطوقة" لرؤية الحياة كما يجب.




انقر الشعار للولوج لرابط المقال الأصلي

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها