بين موسيقى الشعر وإنتاج المعنى

جولةٌ في لحْنِ الخِطاب الشّعريّ

د. محمد رمصيص

من المؤكد أن الإنسان عرف الموسيقى قبل صناعة آلاتها، حيث اعتمد في زمن بداياته الأولى على صوته باعتباره آلة لحنية طبيعية، ويديه وقدميه لخلق الإيقاع. زمن ارتبطت فيه الموسيقى بالسحر وتوظيفها للهيمنة، ومع مرور الوقت تخلصت من خلفيتها الغيبية، وإن ظل تأثيرها على الإنسان مستمراً إلى الآن لكن في سياقات مختلف.. كما أنه من المرجح أن البحور الشعرية في لحظة تاريخية معينة تشكلت من ألحان غنائية لدى العرب، كالسناد، والهزج، والنصب الذي كانت تؤدى في مناسبات مختلفة، مصحوبة بآلات موسيقية أو غير مصحوبة، فكانت البحور الشعرية بمثابة المقامات في الغناء. ومن المؤكد كذلك، أن الشعر رافق الإنسان منذ زمن بداية وعيه الأول بالوجود؛ رافقه في أحزانه وأفراحه، أنشده متغنياً بانتصاراته في الحروب أو راثياً موتاه. وصلنا بعضه من خلال الرواية الشفوية والتدوين لاحقاً. وساعدت الموسيقى على تسهيل تخزينه في الذاكرة.


والموسيقى بالمعنى العام والشائع، هي ظاهرة قديمة، عرفها الإنسان في حركات الكون المتعاقبة والمتكررة منذ كان. أدرك الإنسان بحسه الفطري أن الكون كله يتأسس على تعاقب الضوء والظلام، البرد والحر، الفرح والحزن، الحياة والموت.. بهذه الخلفية خبر الإنسان إيقاع الوجود وإيقاع الجسد (خفقان القلب) قبل أن يتعرف على موسيقى الشعر بالمعنى الدقيق للمفردة. وتقاطع إيقاع الوجود (ليل نهار، برد حرارة..) بإيقاع الجسد (نوم يقظة، حركة سكون) يجيب من بعيد على سؤال: لماذا أقبل الإنسان باكراً على الشعر الموزون فهو محكوم فطرياً بإيقاع وجودي عام، وإن كان الشعر لا يحقق موسيقاه بالإيقاع العام للبحر، فهناك الإيقاع الخاص بالكلمة، والجرس الموسيقي لكل حرف، والحروف في تتابعها وتقابلها.

ومع تطور خبرة الإنسان الموسيقية وتجذر وعيه بها، أضحى الشاعر يتميز عن غيره بمدى وضوح موسيقاه وصخبها أو هدوئها. تباين لم يقتصر على الشاعر ولكنه امتد للمتلقي كذلك. صحيح أن الاستجابة لها تختلف من فرد لآخر حسب مخزونه الموسيقي واستعداده لتلقيها، وإن اقترن الشعر بها منذ البدء، حيث رأى أرسطو أن الدافع للشعر شيئان: المحاكاة وغريزة الموسيقى، أو الإحساس بالنغم، وإن اتسع مجال الشعر لاحقاً ليشمل إيقاع المعنى وبلاغة التخييل، وصدق العاطفة وطرق توظيف اللغة الشعرية وما إليه. فقط يلزم التشديد هنا على أن المتلقي أحياناً يتفاعل مع النغم الموسيقي حتى وإن تعذر عليه فهم معنى الكلام. يقول أبو عثمان الجاحظ: "وقد بكى ماسرجويه من قراءة أبي الخوخ فقيل له كيف بكيت من كتاب الله ولا تصدق به؟ قال إنما أبكاني الشجا"1.

وبالنظر لتطور تاريخ موسيقى الخطاب الشعري نتصور أنها كانت في لحظة بدايتها خالية من التصنع فطرية تماماً، وتدرجت مع الوقت للسجع فالكلام المقفى. ومع السجع تولدت الأوزان البسيطة فالمركبة. وعلى امتداد تاريخها كان هدفها شَدُّ أزر معنى الشعر وتقوية تأثيره في وجدان الملتقي. لكن رغم هذا الاشتباك الذي يعطي الانطباع بتوحد الشعر بالموسيقى؛ فإن النغم هلامي الدلالة في الغالب، وهو غير مضبوط كالكلمة الشعرية المحددة المعنى نسبياً. أحياناً؛ نعرف الإطار العام للموسيقى دون معرفة معناها الخاص كالإنصات للموسيقى الحربية والكنائسية وما إليه. يقول هيكل في هذا السياق: "أما الشعر فبينه وبين الموسيقى آصرة قربى وثيقة، على اعتبار أنهما كلاهما يستخدمان وسيلة حسية واحدة، هي الصوت. لكن الفنين يختلفان عميق الاختلاف واحدهما عن الآخر، من حيث طريقة التعامل مع الأصوات ونمط التعبير... فقط الأصوات في الشعر، لا تصدر عن آلات شتى اخترعها الفن؛ إنما تتحول الأصوات المنطوق بها، والصادرة عن عضو النطق البشري، إلى محض علامات لفظية"2.

الموسيقى بهذا المعنى روح أكثر مما هي مضمون محدد؛ ولذلك فهي تحيل من بعيد. ولربما ترجع قوتها التأثيرية على الإنسان كونه هو نفسه آلة موسيقية، بحيث يشكل نبض خافقه إيقاعاً وتموجات صوته موسيقى وأنغاماً. خلاصة انتهى إليها الإنسان بعد أن حملته الطبيعة على محاكات الشلالات والسواقي وتقليد أصوات الطيور. الطبيعة التي كانت معلمه الأول والمحفز له على تأسيس علم الموسيقى. فقد كان "للطير وظائف عدة منها: إشعار الأنثى، واستثارة الرغبة، أو تحذير الطيور المنافسة، ولذلك يبدو الطير الذكر في لحظات البحث عن أنثى أنشط غناء، وهذا يعزز فكرة داروين عن الأغنية باعتبارها دعوة لإشباع الرغبة؛ إنها من فعاليات الذكر عادة. وقد تنشط الأنثى للغناء إذا ما أشبعت الهرمونات الذكورية"3.

والحديث تاريخياً عن تأثير موسيقى الشعر في المتلقي يحيل مباشرة على أسطورة "أرفيوس"4، وموسيقاه التي امتد تأثيرها على الجماد والنبات كما الحيوان. "أرفيوس" الكائن النصف سموي الذي فقد زوجته بلدغة أفعى، وبفعل موسيقاه الآسرة سحر حراس مملكة الموت وافتك زوجته من قبضة المنية وعاد بها، غير أنه أخلف وعده لهم بالنظر لها قبل بلوغ النور فتلاشت وعادت إلى العتمة. فعاد للتفجع إلى أن تعرض لسخط "ديونزوس" فقتل وقطع جسده، وارتفعت قيتارته لتصبح كوكباً مضيئاً. ومع مرور الوقت تحولت حكايته إلى ديانة يونانية جانبية. وتأثير موسيقى الشعر في تاريخ الشعريات العالمية أكبر من أن يحصى في مقاربة مماثلة.. يكفي استدعاء تجربة إزراباوند شاعر الحركة التصويرية والناقد الموسيقي الكبير. وتأثيرات نتشه الفيلسوف والشاعر وعازف البيانو من الطراز الأول. وقبلهما تصور شاعر الحداثة شارل بودلير لموسيقى الشعر ودورها في بناء المعنى واللائحة طويلة.

لكن نرى لزاماً علينا قبل الاسترسال في الحديث عن تطور موسيقى الشعر، تحديد المفهوم بسبب طرحه إشكالات حقيقية، ليس فقط على الدارس ولكن حتى على الشاعر والمهتم لتداخله مع مفاهيم عدة منها: الإيقاع والوزن وغيرهما. ولهذا نبادر بالقول إن الإيقاع هو مجرد صوت يتكرر بتباعد زمني محدد ومنتظم، بصرف النظر عن السرعة والبطء. فمثلاً لدقات الخافق إيقاع كما لصوت كعب الحذاء على الأرض إيقاع، ولأصوات سقوط المطر في إناء فارغ إيقاع وهكذا... الإيقاع بهذا المعنى تناوب الصوت والصمت على تباعد زمني محدد ليس إلا... يقول -في هذا السياق- محمد غنيمي هلال: "الإيقاع يقصد به وحدة النغمة التي تتكرر على نحو ما في الكلام أو في البيت؛ أي توالي الحركات والسكنات على نحو منتظم في فقرتين أو أكثر من فقر الكلام أو في أبيات القصيدة، وقد يتوافر الإيقاع في النثر. أما الإيقاع في الشعر فتمثله التفعيلة في البحر العربي، فحركة كل تفعيلة تمثل وحدة الإيقاع في البيت، أما الوزن فهو مجموع التفعيلات التي يتألف منها البيت، وقد كان البيت هو الوحدة الموسيقية للقصيدة العربية"5.

 بالنتيجة الموسيقى كلحن ونغم حاضرة حتى في غياب الإيقاع، أقصد حضورها إبان الإيقاع المختل أو غير المنتظم. بينما الوزن هو كم التفاعيل في البيت الشعري. والحديث عن البيت الشعري وليس السطر الشعري يعني أن النموذج العروضي الخليلي هو مجرد إمكانية عروضية عربية.. نظرية كتب لها الانتشار دون أن تعني أنها هي كل ما يوجد من إمكانات عروضية. ويجدر التشديد هنا على أن مفهوم موسيقى الشعر هو مفهوم واسع يتجاوز نغم المفردة، ولحن الجملة الشعرية إلى موسيقى خفية تتأسس على وسائط بلاغية منها موسيقى المعنى مثلاً، حيث يربط الشاعر بين خيبته العاطفية، ومنظر تكسر الموج على صخور الشاطئ، أو صورة الفراشة وهي تحترق بالاقتراب من نور الفانوس، وقس على ذلك فكرة ربط الشاعر قديماً بين الطلل المهمل وبقر الوحش التائه وهكذا.. وهو أمر اعتاد بعض الباحثين على تسميته بموسيقى العواطف والأفكار إلى حد قول أحدهم: "الشعر موسيقى ذات أفكار".

والحديث هنا واضح عن موسيقى معنوية تبنى على الأفكار أساساً فضلاً عن تقنية التقديم والتأخير، الذكر والحذف، أو الوصل والفصل، والترادف والطباق وما شابه ذلك.. بهذا المعنى موسيقى الشعر مفهوم واسع يشمل النغم ووقع صوت الحرف والمفردة على المتلقي، إضافة للموازين الصرفية للكلمات والصور البلاغية.. موسيقى تستثمر كل الإمكانات الصوتية والصرفية والتركيبية والحركات الإعرابية والمدود وما شابه ذلك.. موسيقى أكبر من أن تحصر في البحور الستة عشر، أو ما سمي بالموسيقى الخارجية للشعر.. الموسيقى بهذا المعنى مفهوم شامل للهندسة الصوتية في القصيدة بينما الوزن والإيقاع ليسا سوى بعض من الكل. "فالشعر هندسة حروف وأصوات نعمر بها في نفوس الآخرين عالماً يشبه عالمنا الداخلي، والشعراء مهندسون لكل منهم طريقته في بناء الحروف وتعميرها"6.

بالنتيجة الإلمام بعالم الموسيقى بهذه الخلفية مفيد جداً للشاعر، وذلك من خلال إفادته من الرنين الكامن في الكلمات والحروف والجمل وطبقات الصوت والكثافة. بل والصمت الدال والمعبر أكثر من الصراخ.. "فمن لم يحركه الربيع وأزهاره والعود وأوتاره، فهو فاسد المزاج ليس له علاج"7. خلفية تجعل موسيقى الشعر تخاطب الأحلام والنوازع السرية والأعماق الملتبسة. بهذا المعنى يمكن القول إن موسيقى الشعر تحكي أحياناً تمزقنا الذي يسببه الموت، وغبطتنا جراء حب الحياة السريعة العطب. فموسيقى الشعر لها أحياناً وقع المخدر إن تهيأت النفس لذلك.. شرفتها الروحية هي الإصغاء. وكما يقال إذا كان التشكيل إمتاع للعين باللون؛ فإن الشعر إمتاع للأذن بالنغم وللوجدان بالمعنى.

إن موسيقى الشعر تمتلك شحنة سيكولوجية مؤثرة على الشاعر أولا، وعلى المتلقي في مستوى ثان. وباستثمارها يوقظ الشاعر الخيال الخامد من خلال الرواء العذب والسلس للأصوات.. لكل هذه الاعتبارات لا أعتبر موسيقى الشعر مجرد إثارة حسية للذة، ولكنها اتصال خفي بالتاريخ العاطفي لكل منا.. فكل نغمة موسيقية تفيض على كونها مجرد لحن بل إنها علامة صوتية تحيل على حدث، وبالتالي فالكثير من مشاعرنا هي ذكريات صوتية. لهذا تحديداً تمتلك هذه الموسيقى دون غيرها تأثيراً ساحراً على مسامعنا. "يعرف قراء الشعر أن لكل قصيدة وقعاً على قارئها يختلف عما سواه من قصائد، حتى وإن تماثل وزنهن العروضي.. والسبب في كل ذلك أن لكل كلمة لغوية وزناً عروضياً، ولها وزن صرفي، كما أن لها نظاماً مقطعياً، وفيها نظام نبري.."8.

بالنتيجة موسيقى الشعر لا تعكس مزاج الشاعر فحسب، بل تمتد لترجمة نمط الوعي المجتمعي بمرحلة تاريخية بعينها. ولنأخذ موسيقى الشعر في زمن الخيبة العربية الحديثة والمعاصرة.. زمن يطرح علينا أكثر من سؤال: ترى هل يمكن للشاعر المعاصر أن يكتب الشعر بوزن في زمن وواقع مختلين؟ ألا يفترض أن يكون ثمة توافق بين إيقاع العالم وإيقاع الذات؟ وهل الإحساس بالإيقاع شيء فطري في الإنسان أم هو شيء مكتسب؟ ترى ما هو الأصل وما هو الفرع، الموسيقى أم الشعر؟ وهل يتأثر إيقاع الشعر بإيقاع الكون من مد وجزر وتعاقب الليل والنهار؟ وماذا عن توافق إيقاع الجسد من خلال نبضات خافقة مع تعاقب النوم واليقظة؟ وأي مكانة يحتلها الصمت في موسيقى الشعر؟ علماً أن السكوت ليس رفضاً للكلام ولكنه قول للمعنى بالصمت.. ثم هذا الاستنتاج التركيبي الذي خلص إليه إبراهيم أنيس حيث قال: "إذا مال الشعب للدعة والاستقرار مالت أصوات لغته إلى الانتقال من الشدة إلى الرخاوة، فإذا اعتز بقوته وجبروته مال إلى العكس"9.

وهو استنتاج يقتضي هيمنة غرض معين على حقبة معينة، والحال أن الفكرة لم يسبق أن تحققت في فترة معلومة من التاريخ العربي على الأقل.. إن الشعر من الشرفة الصوتية همس ووشوشات، انخفاض وارتفاع، علو ونزول في الصوت.. لهذا فقيمة المفردة الشعرية ليست في موسيقاها فقط، ولكن في تعالقها مع إيحاءاتها الصوتية. ثم هذا السؤال المربك: هل يتوفق الشاعر المعاصر في كتابة شعر حداثي بأوزان الماضي (البحور الخليلية)؟ وهل هو شعر يقفز على التاريخ، ويوقف تطور الكتابة الشعرية في لحظة معطاة؟ وهل التخلص من البحور الخليلية شرط موضوعي لإنتاج الشعر أم العكس هو الصحيح؟ أعتقد لا الحرية المطلقة تصنع شعراً ولا التعصب الأعمى للقديم يحفظ للأشياء قداستها؛ وإنما التجربة والإحساس العميقين باللغة والذات والعالم هو أُسّ الكتابة الشعرية.. صحيح جداً أن الشعر هو حصيلة تراث كتابي ضخم لكن ينبغي أن لا ننسى أن الإبداع في أحد أوجهه هو خرق للنموذج.. وأستحضر هنا خروقات الشعراء القدامى، واجتراحهم للموشح والأرجوزة وما شابه ذلك.

إن تلاق الشعر بالموسيقى في كونهما معاً فن سمعي يعتمد على الأداء الصوتي الذي يخلق حالة وجدانية من المشاعر تتراوح بين الحزن والغبطة، بين الحماس والإحباط يقتضي من الشاعر أن يكون متلقياً جيداً لجمالها.. موسيقى الشعر بهذا المعنى تظل دوماً طموحاً يسعى الشاعر لتأسيسه فهي ليست شيئاً قائماً في اللغة سلفاً.. إنها موسيقى تكتسب بالتجربة. قوتها في أنها ترمز إلى شيء دون سجنه في معنى محدد؛ وإنما هي أصوات تحيل على نيّات وتختلف باختلاف المتلقين. موسيقى الشعر بهذا المعنى ليست هي القافية ولا الروي ولا البحر.. ولكنها نغم مشتت على الخطاب الشعري كله. تدخل فيها أنماط الحروف الصوتية المتعاقبة أو الصامتة، الجناس والسجع وما شابه ذلك.

يقول أدونيس في ذات الاتجاه: "الإيقاع في اللغة الشعرية لا ينمو في المظاهر الخارجية للنغم، القافية، الجناس، تزاوج الحروف وتنافرها، هذه كلها مظاهر أو حالات خاصة من مبادئ الإيقاع وأصوله العامة، إن الإيقاع يتجاوز هذه المظاهر إلى الأسرار التي تصل فيما بين النفس والكلمة، بين الإنسان والحياة"10. فقط ينبغي التشديد هنا على أنه إذا كان لتشابه الحروف وقع موسيقي خاص؛ فإن للتضاد قيمته. وقديماً قال المتنبي: "والضد يبدي حسنه ضده". لهذا يظل طموح الشعر على مستوى موسيقاه هو تحميل الصوت قوة إيحائية بالمعنى، فموسيقاه تخلق معنىً موازياً لمعنى الكلمات. بل إن الموسيقى أحياناً تؤسس معناها قبل معنى الكلمات، الأمر الذي يوضح أن سحر الموسيقى يتمثل في قوتها التأثيرية في خلق حالة نفسية شديدة الخصوصية واتخاذها أحياناً دور المعالج والمطهر. سحر يتعالق مع معنى الخطاب الشعري؛ صحيح أنها قد تؤدي معنىً يعجز عنه اللفظ لكن هذا هو الحد الأدنى لوظيفة الموسيقى، وسقفها الأعلى هو تضافرها بالمعجم. فموسيقى اللغة الشعرية تعد شرفة لقراءة تاريخ الشعوب، لكن مع الكثير من الحرص على فرادة التجربة الشخصية وخلقها لمسافة جمالية عن التجربة العامة. يقول عبد الفتاح صانع نافع في هذا السياق: "إن أبا تمام يسعى إلى التأثير عن طريق الوقع الصوتي بما يختاره من ألفاظ فخمة ضخمة، وبما يقدمه من سبك محكم، فهو أشبه بخطيب منبر، والبحتري يلجأ إلى التأثير عن طريق الألفاظ الحلوة السلسة الجميلة ذات الحروف المهموسة والخفيفة فهو واصف جُؤذر، أما المتنبي فيجعلنا نحس من ألفاظه كأنه في معركة دائمة لا نهاية لها، فهو أشبه ما يكون في شعره بقائد عسكر"11.

وإذا كانت موسيقى الشعر تفصح إلى حد كبير عن أحشاء الشاعر وهويته؛ فإن كل خروج عن حدها الأقصى يصير فاضحاً له ويصير الأمر أشبه بالتلاعب بملامح الوجه، وإظهار عكس ما يعتمل بالداخل. عند هذا المستوى من التأمل يمكننا طرح السؤال التالي: هل ثمة تلازم بين البحر الشعري والغرض في القصيدة العمودية؟ فبعض النقاد ذهبوا إلى أن البحر الطويل والبسيط مثلاً يشملان الأعاريض الفخمة الرصينة التي تصلح لمقاصد الجد والفخر ونحوه، حيث ذهب الأديب البستاني في مقدمة ترجمته للإلياذة إلى أن كل بحر له غرض يوافقه، بل أكثر من ذلك هناك من ذهب إلى القول إن حرف القاف وموسيقاه يجود في الشدة والحرب، والدال في الفخر والحماسة، والميم واللام في الوصف والخبر، والباء والراء في الغزل والنسب.

نسجل بداية أن هذه الاقتراحات مغرقة في النسبية، ولا تصلح أن تكون قاعدة عامة يقاس عليها. ونسبيتها لا تقلل من قيمتها الاقتراحية ولكنها نسبية تلزمنا بالنظر لمجمل الاقتراحات الأخرى باحتراس شديد.. وذات الاحتراس والتوجس يمكن تسجيله حول مقترحات الدكتور إبراهيم أنيس عندما ربط الوزن بنبض القلب، ورأى صلة بين النبض وما يقوم به الجهاز الصوتي وقدرته على النطق بعدد المقاطع (موسيقى الشعر). فالبحر الطويل مثلاً يشمل على 28 صوتاً مقطعياً، والنطق به يحتاج إلى تسع نبضات من نبض الخافق"12، ومن هنا أقام علاقة بين الحالة الشعورية والنغم الصوتي. لكننا نرى أن الشاعر عندما تجيش نفسه بالشعر لا يضع في اعتباره بحراً ولا قافيةً؛ وإنما يأتي هذا طواعية ليلائم أحاسيسه وانفعالاته، بحكم أن الموسيقى شيء عضوي مع المفردة، وليس حلية تضاف من الخارج.

إن موسيقى الشعر يفترض فيها أن تستثمر كل أصوات اللغة، لا أن تقف عاجزة متذرعة بأحكام قيمة نقدية تذهب إلى أن ثمة حروف غير مستحبة يكون وقعها على الأذن غير مرغوب فيه. ولاسيما في القافية مثل الغين والطاء والتاء.. قد نتفق على أن المفردة مغلقة ما يفتحها هو الحركة الإعرابية. وقد نتفق نسبياً على أن موسيقى الحركة الإعرابية لها بعد نفسي، فشعراء الرقة يميلون إلى استعمال الكسر لما فيه من لين وانكسار يلائم العواطف الرقيقة المنكسرة. وشعراء الفخامة يميلون إلى الضم ليناسب تحدياتهم وقوة شخصياتهم.. لكن القول بأن حروفاً وكلماتٍ وتفعيلات تصلح للشعر وأخرى لا، قول عار من الصحة.

نخلص إلى أن موسيقى الشعر في القصيدة العمودية شيئاً قبلياً على فعل الكتابة، بينما في الشعر المنثور تولد في نفس لحظة الكتابة وهذا يعني أن المشاعر يصعب حصرها في البحور الخليلية؛ لأنها بشكل من الأشكال موسيقى البداوة الأولى ولا يمكنها أن تغطي وتستجيب لموسيقى الشعر الحداثي إن لم نقل إنها تتعارض معه.. إن الشعر وإن كانت غايته هي إنتاج الجمال بمروحة ملونة من الوسائط التبالغية؛ فإن الموسيقى ليست إلا لوناً من ألوان قوس قزح القصيدة. وهذا يعني أن الجمال قائم على الكل وليس على الجزء. خلافاً لتمثل القصيدة العمودية للجمال. لهذا نجد أن الشعر المنثور في خطابه يقترح ولا يقرر، يفتح ولا يغلق، يقلق أكثر مما يطمئن.. بخلاف القصيدة العمودية التي بوفائها للقافية الموحدة تنتهي إلى خيانة المعنى من جهة واستهلاك موسيقى استنفدت طاقتها التعبيرية من جهة ثانية.

إن تخطي الموسيقى الخليلية انتصار لحرية اللحظة الشعرية غير المحددة، وبالتالي القول بأن الخيال السمعي وموسيقى الشعر لا يبنيا فقط على التناظر والتناغم والانسجام والتناسب والإيقاع، بل على التنافر كذلك والنشوز والتناقض. فالشعر يبنى على التنوع لا التكرار، وعلى التحرر من النمط لا على الارتهان إليه، وعلى خيانة النموذج لا الوفاء له.. لهذا كله قلنا إن موسيقى الشعر هي جرس الحروف والمفردات، وتردد بعضها ووقعها النفسي وكثافة تأثيرها، أنغام مشتتة على السطر الشعري كله.. لهذا كله اعتبرنا موسيقى الشعر من أعمق وسائل الإيحاء وأقدرها على إيصال أحشاء الشاعر، تتوفق عادة في إيصال ما يعجز الكلام العادي عن إيصاله؛ ولهذا لها سلطان على النفس والوجدان بصرف النظر عن كونها خارجية أو داخلية؛ وإن كانت الموسيقى الخارجية تعتمد البحر الشعري؛ فإن الموسيقى الداخلية تتأسس على توافق الحروف وانسجام الأصوات، وتناغم الكلمات والجمل والعبارات. توافق يحدث عادة تناغماً موسيقياً خاصاً، وينتج بنية إيقاعية محددة للقصيدة؛ موسيقى تتوسل عدة وسائط تبالغية منها: الجناس أي ما اتفق في نوع الحروف وعددها وهيأتها وترتيبها، سواء أكان جناساً تاماً أو غير تام. إضافة للسجع الذي يحدث موسيقى رنانة بسبب الكلام المقفى، أو التقطيع الصوتي للجمل الشعرية. فضلاً عن التكرار الدال حيث تتكرر الألفاظ مثلاً لكن يختلف معناها أو التصريع وما إليه..

ننتهي إلى أن موسيقى الشعر أكبر من البحور الخليلية وهي وثيقة الصلة بالتخييل والصور الشعرية ولغة الكتابة. وتجديدها يستجيب لتجدد الحياة نفسها؛ إذ لا يعقل أن يكتب شاعر القرن الواحد والعشرين بمنطق بحور الخليل فقط. يكفي أن نذكر أن القصيدة العمودية بنيت على رؤية تجزيئية تعتبر البيت وحدة مستقلة، بينما القصيدة الحداثية هي كل عضوي، وكل مكونات الخطاب الشعري تقف على قدم المساواة في صنع صوت القصيدة الجمالي. تجربة مختلفة تماماً فقد فيها البيت الشعري استقلاليته وصار لبنة في صرح القصيدة. وفي ذات السياق نستحضر موقف القرطاجني التجزيئي في "منهاجه"، حيث اعتبر القافية أهم ما في البيت الشعري فهي:-في نظره- قادرة على تغطية الكلام المعيب والدلالة الكريهة إن وردت في وسطه. لكل هذا نتصور أن تجديد الأوزان الخليلية بات ضرورة، والأمر غير نابع من عجز لمجاراتها أو رغبة في تقليد موازين وموسيقى مختلفة كيف ما اتفق؛ بل إن كتابة الشعر على خلفية بحور الخليل فقط تلغي التاريخ والتطور، وتلغي الذات أساساً وتجعلها خارج منطق التحول لسبب بسيط أنها موسيقى مفروضة من الخارج.. كما أنه ليس كل كلام يحتكم لها ينتسب بالضرورة للشعر. لهذا قلنا إن الموسيقى المتحررة يصعب توقعها كما هو شأن موسيقى الشعر المتنور؛ موسيقى مفتوحة تنتصر لحرية النغم والخيال والفكر، وتمجد التجاوز والخرق.

بالنتيجة؛ إذا كان الشعر كما الموسيقى كلاهما يحاول اكتشاف سر الحياة ومعنى الوجود، فإن الشاعر كما الموسيقي يسعيان معاً لإيجاد توافق بين إيقاع العالم وحركة النفس الداخلية؛ مستوى تصير فيه اللغة نفسها آلة موسيقية تعزف النغم والمعنى. وإذا كانت مهمة الشعر كما قال هاوسمان هي: "تنسيق أحزان العالم"؛ فإن الموسيقى أشبه ما تكون بقطعة سكر تمنح السائل مذاقاً حلواً دون ضجيج وتنسحب؛ هي وسيط مساعد على نقل مشاعر الأحشاء. وسيط محكوم بشرط تاريخي خاص؛ بمعنى أنها خاضعة للتطور. بهذه الخلفية نفهم إقبال الناس على الموشحات مثلاً، إقبال يترجم ملل الأذن العربية من البحور الخليلية وبحث عن موسيقى بديلة.. وهو ذات الشيء الذي حدث مع موسيقى الشعر المنثور الذي راهن على ظلال الكلمات والموسيقى الداخلية، باعتبارها أكثر عفوية وتأبى الافتعال والتصنع.

الموسيقى بهذا المعنى ليست حلية تضاف من بعد ولا قالبا يصب فيه الأفكار، هي تولد في نفس اللحظة التي ترى فيها القصيدة النور لا قبل ولا بعد. وهي لا تقتصر على النغم حصراً بل تشمل الهمس والوشوشات التي قد تكون أكثر تأثيراً من الصوت الجهوري، يكفي أن تكون نابعة من أعماق الشاعر. لهذا نتصور ربط بعض النقود القديمة بين البحر الشعري والغرض بشكل ميكانيكي، ربط أخلف الموعد مع الرهان الجمالي بكل بساطة؛ لأن الشاعر لما تنتابه الدفقة الشعورية، فهو لا يفكر في استدعاء هذا البحر أو ذاك ليصف فيه أفكاره. وما قلناه عن البحور ينسحب على الكلمات والحروف.


إحالات:  1. أبوعثمان الجاحظ، الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون، منشورات مصطفى البابي الحلبي، ج/4-1965، ص: 191. ┊ 2. هيكل، فن الشعر، ترجمة جورج طرابشي. دار الطليعة بيروت. ط/1-1980. ص: 19. ┊ 3. فوزي كريم، الموسيقى والشعر، دار نون للنشر. ط1/2015. ص: 29/30. ┊ 4. عبد المعطي شعراوي، أساطير إغريقية، الجزء الأول، أساطير بشرية، الهيئة المصرية للكتاب، 1982. ص: 192 وما بعدها. ┊ 5. د. محمد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث، دار النهضة العربية، القاهرة، 1969، ص: 463.┊ 6. نزار قباني، الشعر قنديل أخضر، منشورات المكتب التجاري، بيروت، ط/2- 1964، ص: 39. ┊ 7. الإمام الغزالي، إحياء علوم الدين، ج6، دار ابن حزم، ط/1/2005. ص: 147. ┊ 8. عبد الله الغذامي، الخطيئة والتكفير، من البنيوية إلى التشريحية، ط1، النادي الأدبي الثقافي، جدة 1985، ص: 311. ┊ 9. إبراهيم أنيس، الأصوات اللغوية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ط/5/1978، ص: 168. ┊ 10. أدونيس، مقدمة للشعر العربي، دار العودة بيروت، ط/4-1986، ص: 94. ┊ 11. عبد الفتاح صالح نافع، عضوية الموسيقى في النص الشعري، مكتبة المنار، الأردن الزرقاء، 1985، ص: 22. ┊ 12. إبراهيم أنيس، موسيقى الشعر، مكتبة الأنجلو المصرية، 1978. ص: 175 وما بعدها.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها

زينب اوليدي

حين يأخذ الكلم سموه من قلم كالاستاذ د محمد رمصيص فان حرفه يملأ الافق صدى ونور ويتخذ من معابر الجمال والخلود موطنا له لا عدمنا قلمك الراقي رائع كما عهدناك واكثر مودتي والتقدير

4/7/2022 4:13:00 AM

1