اجتمعت حوالي 100 لوحة بين رسم وتشكيل في المعرض الجماعي الذي شارك فيه 20 فناناً وفنانة من الوطن العربي. والملفت أن الفنانين المشاركين من أجيال مختلفة، وكل منهم قدم بين 4 و7 لوحات، احتفى بها النادي الثقافي العربي بالشارقة بعنوان "معرض صيف 2024"، الذي حضرته شخصيات رسمية وفنية ومثقفة إضافة لمحبي الفنون.
تداعيات حكائية:
تداعت الأعمال بين المدارس والمذاهب المعروفة، وغلبت الواقعية والرومانسية والتعبيرية والتجريبية، وظهرت التناصّات مع أعمال فنانين عالميين، ومذاهب فنية متنوعة، منها التكعيبية، والرومانسية، والواقعية، والتعبيرية، والتجريدية، والواقعية السحرية.
وبشكل عام، تمحورت الثيمة الموضوعية للأعمال حول مكونات البيئة الطبيعية ومنها الصحراء الواقعية وأحصنتها وجمالها، ونباتاتها وطيورها ورمالها، والبحر بموجاته الشاحبة، أو الصامتة، أو الصائتة، والمدينة بمبانيها وأبراجها وغروبها وشروقها ومناجاتها، وتداخُل هذه المكونات مع المكانية بأبعادها المتعددة، منها المكان المحدود في إطار اللوحة، أو المفتوح على السماء، أو المتناغم مع البيوت وحكاياتها وشخوصها، وما تبوح به من ذكريات وانتظار، وانعكاسات هذه الاحتمالات على البراري والأشجار والغيوم، أو كمكان محتمل بين الحلم والمخيلة والواقع؛ وأيضاً، كمكان نفسي مندغم مع الزمان الداخلي وهو يحكي بصمت، أو انفصام، أو ضجيج يميل إلى تدرجات اللون الأحمر، والتراكم في بُعد واضح من الكآبة رغم تمظهره بألوان الفرح، عبوراً إلى الزمن الواقعي من فصول ومسافات موضوعية تتداخل مع فواصلها الزمنية الذاتية.
وجوهٌ تُمسرح الدلالات:
للوجوه تأويلاتها وحكاياتها، فلكل وجه قصة أو أكثر، وهذا ما نشاهده في حضور فن "البورتريه" في أعمال كثير من الفنانين المشاركين في هذا المعرض، وكلٌّ منهم عبّر عن منظوره لتلك النقطة التي تلتقي فيها ملامح الأعماق مع ملامح الحياة، فهناك من ارتكز على توصيل الفكرة بطريقة مباشرة، مثل رأس نيفرتيتي وما يتضمنه من إحالات تاريخية، برزت فيه الألوان المتداخلة، ومنهم من استعاد حضور شخصيات فنية مؤثرة مثل تشارلي شابلن الذي جاء بواقعية الأسود والأبيض.
كما حضرت الوجوه الإنسانية الأخرى بتعبيرات دلالالية متنوعة، منها التعايش مع المجتمع مع الكشف عن الأقنعة، أو محاولة إخفاء الوجوه الداخلية العديدة للألم بوجه مشرق يتألف من عدة جراح غير منظورة، تماماً، كحضور وجوه النساء بملامح بعضها متوهج ينشر الفرح، وبعضها متألّم ويحتاج لأحد ليخبره بأسراره ومعاناته، بينما تزينت بعض رؤوس نساء اللوحات بالورود، وتيجان من ألوان.
أمّا ملامح الوجوه فتنوعت بين الباهتة اليائسة، والمتفائلة، والغارقة في أبعاد درامية بين الذات وأحلامها ونومها وواقعها وتداعياتها، وكأن الإنسان يحاول الهرب من قواميس الهذيان إلى ازدحام الألوان، أو بالعكس، ليعبّر عن مكنوناته الداخلية، بطرق مختلفة، منها الرومانسية المغلوبة بالحياد والشرود، والواقعية السحرية مع محاولة للتملص من الحياتي المعتم إلى يوميات متخيلة، أو عن طريق المباشرة الواقعية، أو الواقعية اللمّاحة، بما فيها من مسرحة وسخرية وانتقاد وبوح عميق وتأمل، أو من خلال سوريالية متحركة بين عين تحدق إلى الخارج، وعين تحدق في الداخل.
لكن الوجوه، وبمختلف أساليب رسمها وتشكيلها، تلتقي في حالة البحث عن أهدافها خارج الإطار، لعلها تتفلّت من الضغط الجواني والاجتماعي لتسافر إلى عالم الطبيعة وكائناتها، وبعدها، لتعود متوازنة إلى أعماقها الكائنة في اللوحة.
تجريدية وسوريالية:
وضمن هذه الأعمال الفنية، تميزت عدة أعمال، منها -على سبيل المثال- لوحات الفنان وليد الشامي نتيجة خبرته العريقة، الواضحة في جُملهِ اللونية المختزلة المتحركة بين التجريدية والسوريالية، وإيقاعاتهما السردية المنسابة مع الكتلة والفراغ، وهذا مما عكسته ثلاثية من لوحاته، وكأنها تختزل العالم في الذات، وتعيد صياغة مكوناته بخطوط رشيقة غامقة بين تدرجات الأسود والبني الترابي والأحمر، وتمزجها مع ملامح الأزرق بإيقاع مشوب بالأبيض، فتصبح ملامح العناصر الغامقة والغامضة أكثر وضوحاً وتقرّباً، متغلّبة على الفجوات الذاتية.
وهنا، ترتفع معزوفة الخروج من اللحظة الدرامية الشاحبة إلى اللحظة الأكثر تفاعلاً مع الظل الدال على الآخر كمؤنث، وهذا ما تكمله اللوحة الثانية، المبتهجة بحالتها الأقرب إلى رقص واحد لشخصيتين ثنائيتين منطلقتين من البيت المضاء إلى أفق المدينة البعيد عن مبانيها، القريب من لحظة ملونة باللازورد السماوي، لتكون الفضاء المناسب لتلك الرقصة الإنسانية الذاهبة إلى حكايتها في اللوحة الثالثة، حيث لا تطل حركة الجسد ورموزها فقط، بل تفسح المجال لانطلاقة غنائية روحية تستجمع تجربتها من خلال الخطوط اللامرئية بين الظل والضوء، والسماء والأرض، متشكلة في تحولات جديدة تجمعها مع مروياتها الألوانُ ذاتها، الباردة، والحارة، وتدرجاتها، وما تنتجه من أحمر وأسود وأزرق وأبيض وأصفر.
عصفور الشمس:
والملفت، أن الفنانة رحاب صيدم ركّزت في أعمالها الأربعة على الانطباعية الحديثة، جاعلة من لوحاتها حالة من اتحاد عناصر العمل، خصوصاً، لوحتها التي تتشجر فيها المرأة الفلسطينية لتبدو عناصرها المؤلفة من المرأة والأرض والشجرة شخصية واحدة، تتمركز اللوحة، جذعها ثابت في الأرض، وممتد عالياً في الفضاء.
وضمن ثيمتها الموضوعية المختزلة بالوطن ومعاناته وظروفه القاسية، حضرت فلسطين من خلال رموز عديدة، منها عصفور الشمس المتفائل بالقادم، والشجرة الشامخة المتجذرة في الأرض، والبرتقال، وقبة الصخرة، والمسجد الأقصى، ومفتاح العودة.
وعن حضور زخم هذه العناصر الرمزية معاً في إحدى لوحاتها، أجابتني: أحببت أن تكون كل هذه العناصر رموزاً في هذه اللوحة التي تحمل فيها المرأة المفتاح وعيونها على السماء التي يحلق فيها عصفور الحرية الفلسطيني، وهو أحد رموز الهوية، وأسميها بأغنية فيروز "عيوننا إليك ترحل كل يوم"، وأضافت: اعتمدت في لوحاتي على سكب الألوان لاسيما الأزرق وتدرجاته واختلاطاته مع الأبيض والألوان الأخرى.
حالة مغادرة:
وعن مشاركتها، أخبرتنا الفنانة سهام الوزيري، بأنها تعتمد على التكعيبي والفرعوني في أعمالها، وتحب أن تكون هناك حالة من الديالوغ.
وبالفعل، هذا ما يتضح في لوحاتها وألوانها بتدرجات انسيابية وخطوط حادة، وهي تحكي عن حالة من العلاقة بين قلبين، يمكث الحب بينهما فترة، ولا يلبث أن يصبح حالة شبحية سوداء بملامح شخص منهما يهمّ بالمغادرة من اللوحة، إلاّ أنه يخبرنا بأن هناك حالة من المحاكاة مع مؤثرات فنية لا تبوح بها الأعمال، لكنها قابلة للقراءة من خلال الحركة الحيوية للجسد المتكون بين التشريح المضمَر والأشكال الهندسية، وتحولاته الطيفية، وأفكاره المنعكسة من الحركة أكثر من الملامح، وهذا ما تعبّر عنه الشخصية المؤنثة في الثلاثية المتجهة إلى النسيان بعد الفراق.
ألوان اللحن:
بينما نلاحظ كيف وظفت الفنانة آية محمود في بعض لوحاتها حالات العزلة والكآبة والحزن كبوابة للوصول إلى الأمل والفرح، معتمدة على البعد التبسيطي الأقرب للتجريد، كما أنها حاولت أن ترسم الموسيقا من خلال شخصية عازفة المندولين، وانسجامها مع الخطوط الشبيهة بالألحان، إضافة إلى اختفاء العينين بحالة إغماضة دائمة متناظرة مع خطوط تدور حول قلبها بشكل هندسي أقرب إلى شبكة العنكبوت، والملاحظ أن البطولة الغامضة كانت لهارمونية الألوان لا للشخصية العازفة، حيث ظهر التناغم بين البنفسجي وتدرجاته مع الألوان والخطوط الأخرى، لاسيما التفافة الأسود المتداعية مع بقية الألوان؛ لتوحي بأنها الألحان الطالعة من الأوتار.