على الرغم من الفروق الثقافية العميقة بين مسرحية شاهد ما شفش حاجة (1976م) التي كتبها ألفريد فرج وفق كثير من مواقع الفن الأرشيفية، وأداها الكوميدي المصري عادل إمام، ورواية الغريب (1942م) للأديب والفيلسوف الفرنسي ألبير كامو؛ فإن كليهما يتناولان موضوع العبثية، ولكن من زوايا وطرائق مختلفة تماما، فبينما يركز كامو على العبثية كفلسفة وجودية تعكس لا معنى الحياة وصراع الإنسان مع هذا اللامعنى. فتتناول مسرحية شاهد ما شفش حاجة العبثية بطريقة كوميدية فساد المجتمع وصعوبة الوصول إلى العدالة. لكن هل المقارنة بين هذين العملين ممكنة وما جدواها؟
نعم، يمكن إجراء مقارنة بين هذين العملين، بل إنها قد تكون غنية ومفيدة، لأنها تتيح لنا استكشاف كيفية تناول نفس الموضوع -وهو العبثية- بطرق مختلفة وفقاً للزوايا الثقافية والأساليب الفنية المتنوعة. لتعزيز هذا الرأي، يمكننا الرجوع إلى نظرية التلقي، أو ما يُعرف بجمالية التلقي، التي طوّرها الباحث الألماني هانس روبرت ياوس. هذه النظرية تؤكد أن تفسير العمل الفني يعتمد على أفق التوقع لدى الجمهور، أي السياق الثقافي والتاريخي وحتى الشخصي الذي يستقبل من خلاله المشاهد أو القارئ العمل. بمنعى آخر، يمكن مقارنة رواية الغريب لألبير كامو بمسرحية شاهد ما شفش حاجة لأن كليهما يعالج مفهوم العبثية، وإن بطرق مختلفة تعكس خصوصيات ثقافية وأسلوبية. اعتمادا على نظرية التلقي لهانس روبرت ياوس، يمكن أن تُظهر هذه المقارنة كيف يمكن لموضوع العبثية أن يُفسر بطرق متنوعة للجماهير المختلفة، حيث تقدم رواية الغريب العبثية في سياق فلسفي وجودي عميق، بينما تُعالج مسرحية شاهد ما شفش حاجة العبثية من خلال كوميديا اجتماعية تسخر من النظام القضائي والبيروقراطية في المجتمع المصري. ستساعد هذه المقارنة على توسيع آفاق التوقعات لدى الجمهور، حيث تُظهر أن العبثية يمكن أن تتجلى في سياقات جادة وكوميدية، مما يعزز فهم الجمهور لمفهوم العبثية بشكل أوسع. بالإضافة إلى ذلك، يوضح هذا الحوار بين العملين كيف يمكن للعبثية أن تتكيف مع السياقات الثقافية المختلفة، وتخاطب الجماهير بأساليب تتناسب مع توقعاتهم الثقافية. وبهذا، تسهم المقارنة، وفقًا لنظرية التلقي، في تعميق فهمنا للعبثية كفكرة مرنة وشاملة، مما يضيف ثراءً إلى تفسير العملين.
بداية نحاول أن نعطي ملخصاً للعملين:
تدور رواية الغريب حول شخصية ميرسو، رجل فرنسي يعيش حياة عادية ولكن يواجهها بلامبالاة شديدة. تبدأ القصة بوفاة والدته، التي يذهب لدفنها دون أن يبدي أي حزن أو تأثر. في أحد الأيام، يتورط ميرسو في نزاع يؤدي إلى قتله لرجل عربي على شاطئ البحر، وذلك بطلقة نارية يطلقها دون أي شعور بالندم أو التأنيب. عندما يُحاكم ميرسو، يصبح موضع انتقاد مجتمعي شديد، ليس فقط بسبب القتل، بل أيضا بسبب بروده وعدم التزامه بالعواطف والتقاليد الاجتماعية، خاصة لعدم حزنه على والدته. خلال محاكمته، يُعامَل وكأنه شخص غريب عن المجتمع. ويواجه ميرسو حكم الإعدام، ليبقى في النهاية رافضا لكل المعايير الأخلاقية والدينية للمجتمع، متقبلًا عبثية الحياة دون سعي للمعنى.
بينما تدور مسرحية شاهد ما شفش حاجة حول شخصية سرحان عبد البصير، وهو شاب بسيط وساذج يعمل في مهنة متواضعة، ويميل إلى السكينة والبساطة في حياته. يجد سرحان نفسه شاهداً على جريمة قتل جارته التي وقعت في نفس البناية التي يسكن بها. يُستدعى إلى قسم الشرطة ليُستجوب كشاهد عيان. تأخذ جلسة الاستجواب طابعاً كوميدياً، حيث يُعامل سرحان من قِبَل المحققين بأسلوب بيروقراطي عبثي، ويتعرض لضغوط وأسئلة معقدة لا تناسب عقليته البسيطة. يحاول سرحان تبرير موقفه وسط سلسلة من المشاهد الكوميدية، في حين يتضح للمتفرج تناقض النظام القضائي وسوء تنظيمه. في نهاية المطاف، يُطلق سراح سرحان بعد أن أصبح في موضع اتهام، وتعكس المسرحية واقع الفساد والبيروقراطية في النظام الاجتماعي، مظهرةً عبثية الواقع بأسلوب ساخر وكوميدي.
ألبير كامو في الغريب يعالج العبثية كفلسفة وجودية تتعلق بتجربة فردية في مواجهة عالم بلا معنى، حيث إن حياة ميرسو تكشف عن رفضه للنظام الأخلاقي والاجتماعي التقليدي، وتُظهر أن الإنسان في مواجهة مباشرة مع الحياة يختار التمرد والقبول بعبثية الوجود دون السعي إلى التغيير. العبثية هنا فلسفية تتعلق بمعنى الحياة وموقف الفرد من الكون. يتجلى إدراك ميرسو الفلسفي العبثي في رواية الغريب أثناء محاكمته وتأملاته في السجن. فهو يُظهر لامبالاة تجاه إجراءات المحاكمة ويرى فيها عبثية اجتماعية لا تعكس حقيقته. كما يتأمل في عبثية الحياة والموت، متقبلاً الموت بلا خوف أو معنى. ويتضح عمق رؤيته عند مواجهته للكاهن، حيث يرفض الاعتقاد بالخلاص أو الحياة بعد الموت، رافضا منح الحياة أي معنى تقليدي أو ديني، مما يعكس قبوله للعبثية كما هي.
في المقابل، شاهد ما شفش حاجة هو عمل كوميدي يعكس عبثية اجتماعية لا فلسفية، تتعلق بالصعوبات والظروف التي يواجهها الفرد في مجتمع معقد يفتقر إلى العدالة والمنطق. سرحان عبد البصير ليس شخصية فلسفية عميقة مثل ميرسو، وإنما هو تجسيد ساخر للرجل البسيط الذي يجد نفسه في مواجهات مع نظام بيروقراطي غير منطقي. السخرية والعبث في المسرحية تعبران عن نقد للنظام الاجتماعي والقضائي. ولكن وعلى الرغم من اختلاف السياق الثقافي والفكري، تجسد هاتان الشخصيتان، رؤية عبثية. لتعميق فهم العبثية في كل من الغريب وشاهد ما شفش حاجة، يمكننا تحليل ومقارنة هاتين الشخصيتين الرئيسيتين.
لتقديم مقارنة معمقة بين شخصيتي ميرسو في رواية الغريب لألبير كامو وسرحان عبد البصير في مسرحية شاهد ما شفش حاجة، يمكن تناول السمات الأساسية التي تتشارك فيها الشخصيتان من جهة، والتي تختلف فيها جذريا من جهة أخرى، حيث تتجلى ملامح العبثية وفق ظروف وأهداف مغايرة لكل شخصية. سأركز في المقارنة على سمات اللامبالاة، والتفاعل مع السلطة، والتواصل مع المجتمع، وردود الأفعال تجاه الأحداث.
اللامبالاة واللااكتراث
شخصية ميرسو في رواية الغريب تتمتع بعمق فلسفي، حيث إن لامبالاته ليست مجرد انعدام اهتمام سطحي بالتفاصيل اليومية، بل هي انعكاس لموقف فكري وجوهري تجاه الحياة. ميرسو يدرك عبثية الوجود، ويختار بوعي تام أن يتجاهل التقاليد والمشاعر المتعارف عليها اجتماعياً لأنه يرى أنها لا تضيف معنى حقيقياً لوجوده. موقفه من الأحداث المحيطة به، مثل وفاة والدته أو حتى ارتكابه لجريمة قتل، يعبر عن قناعة عميقة بأن العالم بلا معنى وأن الإنسان محكوم عليه بالعيش في هذا العبث. هذا التفكير يجعله يرفض تبني المعايير والقيم المجتمعية التقليدية؛ فهو لا يسعى لإرضاء الآخرين ولا يريد تفسير أفعاله أو مشاعره وفقاً لمعاييرهم، لأنه ببساطة لا يرى أي هدف أو قيمة لهذه التفسيرات. هذه اللامبالاة الوجودية، التي تتجاوز السطحيات وتتعمق في فلسفة عبثية الحياة، تجعل من شخصية ميرسو نموذجاً للتمرد على كل ما هو مفروض ومعروف، وتجعل عبثيته موقفاً فلسفيًا مدروساً وواعياً، مما يضفي عليها عمقاً وجودياً.
في المقابل، تظهر شخصية سرحان عبد البصير في شاهد ما شفش حاجة بصورة سطحية أبسط من الناحية الفلسفية. لامبالاة سرحان تنبع من سذاجته وطيبته، فهو لا يدرك التعقيدات الأخلاقية والوجودية التي يواجهها في حياته اليومية، بل يعيش حياته بمنتهى البساطة، معتقداً أن الخير هو القاعدة في الناس وأن الشر أو الظلم لا يحيط به. سذاجته هذه تجعله غير مكترث بأمور الحياة العملية؛ لأنه يفضل الابتعاد عن التعقيد والمشكلات. وعندما يجد نفسه متورطاً في قضايا قانونية لا يفهم أبعادها، يُظهر دهشة وارتباكاً أكثر من رفض أو تمرد. لامبالاة سرحان ليست اختياراً فلسفيا واعياً، بل هي انعكاس لنظرة بسيطة للحياة، حيث يرى نفسه بريئاً من تعقيدات المجتمع وشروره، ما يجعله يندهش بدلاً من أن يتمرد. هذا يجعله رمزاً للإنسان العادي في مواجهة عبثية الواقع المحيط، ولكن دون وعي فكري عميق بهذه العبثية، وبالتالي تُصبح شخصيته سطحية مقارنة بشخصية ميرسو. إذن، يكمن الفرق في أن لامبالاة ميرسو تأتي كنتيجة لفهم عميق للعبثية واللا معنى في الحياة، مما يجعله يواجه المجتمع بموقف وجودي رافض، بينما سرحان عبد البصير يظهر لامبالاة سطحية مصدرها البراءة والسذاجة، دون أي أبعاد فلسفية عميقة، ودون أن يكون لديه إدراك حقيقي بعبثية الحياة.
التفاعل مع السلطة
التفاعل مع السلطة يظهر بشكل متباين في شخصيتي ميرسو في رواية الغريب وسرحان عبد البصير في مسرحية شاهد ما شفش حاجة، عمقاً يعبر عن رؤيتهما للوجود، ومدى فهمهما لطبيعة القيم المجتمعية والعدالة، وكيفية مواجهتهما للقوانين التي تُفرض عليهما.
فيُجسد ميرسو في الغريب فكرة العبثية، في تعامله مع السلطة القضائية، فهو يرفض تماماً الدخول في لعبة الدفاع عن نفسه؛ إذ لا يسعى لإقناع المحكمة أو المجتمع ببراءته. في لحظة المحاكمة، ينظر ميرسو للسلطة القضائية كنظام عبثي آخر لا يحمل معنى، وهو تعبير عن مفهومه الفلسفي العميق للعبثية: الحياة بلا معنى، وكذلك نظم العدالة التي تحاول فرض معنى أو نظام على حياة البشر. ميرسو لا يعترض على السلطة بشكل مباشر، لكنه يرفض الامتثال لمنطقها، فهو لا يرى في المحاكمة سوى عبث آخر يضاف إلى سلسلة الأقدار اللامعقولة التي تقف في طريقه. بل إنه يستقبل حكم الإعدام ببرود، غير مبالٍ بالعواقب، مما يُبرز تمرده العميق على النظام الذي يسعى لتحديد قيمته أو أخلاقياته. من منظور ميرسو، السلطة تفرض قواعد وقيماً تفتقر إلى المعنى الحقيقي، ولذا لا تستحق حتى الجهد لتبرير أو الدفاع عن موقفه أمامها. بالنسبة له، التوافق مع هذه القيم المجتمعية أشبه بمحاولة إيجاد قيمة لحياة عبثية، وهو ما يرفضه تماماً، ويعكس فلسفة الوجودية العبثية.
على النقيض، يُظهر سرحان عبد البصير في شاهد ما شفش حاجة تفاعلاً مختلفاً تماماً مع السلطة. سرحان، ببساطته وسذاجته، يؤمن بالنظام ويثق في القوانين، بل ويظهر تعاوناً كاملاً، ويظل يسعى ليثبت براءته ويشرح موقفه، معتقداً أن الأمر ببساطة يحتاج إلى توضيح لينصفه النظام. لا يدرك سرحان أن السلطة المحيطة به قد تكون عبثية أو غير عادلة، ولا يستطيع أن يقرأ وراء الأوجه المتعددة للتحقيقات والمحاكمة التي تجري معه، فهو يتعامل مع النظام على أنه محايد وعادل.
في تفاعله مع السلطة، يتضح أن سرحان لا يحمل فهماً فلسفيا للعبثية، بل يرى أن المشكلة تكمن في سوء الفهم، وليس في أن النظام بحد ذاته قد يكون فارغاً أو ظالماً. عندما يتم تحريف كلامه، يندهش ويشعر بالارتباك، لكنه لا يرفض النظام ولا يتمرد عليه، بل يظل يحاول الوصول إلى حل ينسجم مع معايير السلطة، ظاناً أن النظام سيحميه ويحقق له العدالة. يُظهر سرحان في هذه اللحظة نوعاً من الثقة الساذجة في السلطة، التي يواجهها بنوع من السخرية الودية، إذ إن وعيه المحدود بعبثية الموقف يجعله ينخرط فيه بعفوية وتلقائية.
في هذا الصدد، يكمن الفرق بين الشخصيتين في أن ميرسو يعبر عن رفض عميق للنظام كونه يعكس قناعته الفلسفية بأن الحياة بلا معنى، في حين أن سرحان يُظهر قبولاً بسيطاً وساذجاً للنظام على اعتبار أنه ثابت ويهدف للعدالة. ميرسو يعكس تمرداً ورفضا وجودياً للفكرة ذاتها التي تنطوي عليها السلطة والنظام، فهو يرى في المحاكمة والعقاب عملية غير منطقية لا تستحق حتى الجدل، بينما سرحان عبد البصير يمثل الرجل العادي الذي يرى السلطة كملاذ، ويظن أنه بحاجة فقط لتوضيح سوء التفاهم، غير مدرك لطبيعة العبثية التي تقف خلف هذا النظام وتجعله في موقف غير عادل. باختصار، ميرسو يقف أمام السلطة من موقع فلسفي يعتبرها جزءاً من النظام العبثي الذي يرفض الانصياع له، في حين أن سرحان، بسذاجته وطيبته، يسعى للاندماج والتوافق مع السلطة، مما يعكس اختلاف فهم كل منهما لمعنى النظام وقيمته.
التواصل مع المجتمع
ميرسو يعيش في عزلة حقيقية عن المجتمع، ولكن هذه العزلة ليست نتيجة لظروف اجتماعية أو بيئية فحسب، بل هي امتداد لفلسفته الوجودية. فميرسو لا يرى في العلاقات الإنسانية أي قيمة تضيف معنًى لحياته، إذ يعتبرها قيداً يُضاف إلى أعباء الحياة العبثية أصلا. هذا الفهم هو ما يجعله لا يبالي بمشاعر المحيطين به، حتى في المواقف التي تتطلب تعاطفا، مثل وفاة والدته. بالنسبة لميرسو، الحب والصداقة، والتواصل الاجتماعي بشكل عام، ليس لها أي معنى حقيقي لأنها لا تسهم في تغيير حقيقة أن الحياة بلا معنى، وأنه مهما حاول الإنسان إيجاد السعادة أو التواصل، فإن هذه المحاولات لن تتجاوز كونها أشكالا من الوهم. ولهذا، اختار ميرسو أن يعيش في عزلة فكرية ونفسية، مبتعداً عن القيم الجماعية والعواطف التقليدية، رافضا المشاركة في الحياة الاجتماعية كنوع من التمرد على قيمها ومعاييرها. هذه العزلة هي انعكاس لرؤيته العميقة للعبثية، فهي ليست عبثية ظرفية تتعلق بسلوك معين أو مواقف محددة، بل هي موقف وجودي يعكس فهمه للعالم. ويمكن أن نمثل لفكرة التواصل العبثي لميرسو مع المجتمع من خلال حواره مع حبيبته ماري حيث يُظهر ميرسو موقفاً عبثياً ولامبالياً تماماً تجاه فكرة الحب والزواج، وهو ما يظهر في حواره مع ماري، حينما تطرح عليه مسألة الزواج:
ماري: "هل تريد الزواج بي، ميرسو"؟
ميرسو: "لا أعلم، لا أظن أن الأمر مهم".
ثم تتابع ماري بسؤالها:
ماري: "ألا تحبني إذن"؟
ميرسو: "لا أعرف، لكن لا أظن أن الحب أو الزواج يصنع فرقاً".
هذا الحوار يكشف نظرة ميرسو العبثية للحب والزواج؛ فهو يعتبرهما أموراً لا معنى لها ولا تضيف أي قيمة إلى الحياة، بل لا يراها تستحق التفكير أو الشعور، إذ إنها لا تقدم معنى حقيقياً في عالم لا يعترف بالمنطق أو التفسيرات العميقة. لامبالاة ميرسو هنا تنبع من فلسفة عميقة تتعلق بعبثية الحياة نفسها، حيث لا يرى في الارتباط العاطفي سوى تجربة عابرة لا تؤثر على مجرى وجوده العبثي. إن موقفه من الحب والزواج يعكس قناعته بأن كل شيء مؤقت وعبثي، ولذلك فإن السعي إلى بناء علاقات لا طائل منه. وهكذا، يظهر الحب، بالنسبة لميرسو، كجزء آخر من العبث الوجودي. من المثير للاهتمام أن نجد حواراً مماثلاً بين سرحان عبد البصير ومديحة زميلته في العمل والتي تحبه لكن من طرف واحد:
مديحه: "أنا عايزة أقلك أني بحبك".
سرحان: "وأنا مالي أنا".
هذا الحوار القصير بين سرحان عبد البصير ومديحة في المسرحية، يجسد بشكل جلي عبثية شخصية سرحان في التواصل، ويبرز سذاجته وافتقاره إلى فهم السياق الاجتماعي والعاطفي، حيث تعبر مديحة عن مشاعرها بوضوح، وتبادر بالاعتراف بحبها لسرحان، وهو موقف يتوقع أن يُقابل برد إيجابي أو تفاعل عاطفي من الطرف الآخر. اعترافها هذا يأتي من رغبة في التقرب وإقامة علاقة عاطفية، وهو جزء من التواصل الطبيعي والمتعارف عليه بين الأشخاص عند الحديث عن الحب، بل هو أكثر من ذلك هنا حيث إن من يبادر هنا هي المرأة. لكن رد سرحان كان غريبا ويعكس عدم إدراكه للمعنى العاطفي وراء كلام مديحة. رده يبدو ساذجا وخاليا من التفاعل العاطفي، فهو لا يفهم كيف يكون مشمولًا أو معنياً بهذا الاعتراف، ويرد بطريقة تشير إلى استغرابه أو حتى لا مبالاته. هذا الرد يُظهر مدى انفصاله عن المعايير الاجتماعية العادية في مثل هذه المواقف، ويفتقر إلى الفهم الأساسي لدور العواطف في العلاقات.
ومع ذلك وبمقارنته بميرسو، يجب أن نقول إن سرحان عبد البصير يعيش في وسط المجتمع ويعتمد على علاقاته الاجتماعية كجزء أساسي من شخصيته وهويته. على الرغم من طيبته وسذاجته، فهو يبدي اهتماماً واضحاً برأي الآخرين فيه ويتأثر بما يقوله الناس عنه وكيف يعاملونه، بل يسعى جاهداً إلى التواصل والتفاعل مع من حوله ببراءة تامة. التفاعل الاجتماعي بالنسبة لسرحان ليس مجرد تفصيل عابر، بل هو ركيزة تعبر عن طيبته وثقته الطبيعية في الناس، مما يعكس رغبته في الانتماء والشعور بالأمان داخل مجتمعه. هذه العلاقات الاجتماعية، رغم بساطتها، تُشكل عالمه وتجعله جزءاً من منظومة تتضمن الطيبة والألفة بين الأفراد. وهكذا، حتى عندما يقع في مواقف عبثية غير منطقية، لا يشعر بالعزلة، بل يستمر في محاولة التعامل مع المواقف بناءً على طبيعته الساذجة وثقته بالآخرين، مما يجعله يواجه التناقضات بارتباك أكثر من أن يكون تمرداً فكرياً.
إذن، يكمن الفرق بين الشخصيتين في عمق تأثير العبثية على تواصلهما الاجتماعي. ميرسو يرى أن العبثية تنبع من جوهر الوجود الإنساني، وبالتالي فإن التواصل لن يؤدي إلا إلى تعميق الشعور بالفراغ. في حين أن سرحان يعيش تجربة عبثية مرتبطة بالظروف الاجتماعية والسياسية المحيطة به، والتي تجبره على مواجهة واقع غير منطقي دون أن يدرك تماما طبيعة هذا العبث. ميرسو يرفض التواصل لأن العبثية بالنسبة له هي حقيقة فلسفية مطلقة، بينما سرحان يستمر في التواصل؛ لأن عبثيته مرتبطة بمواقف اجتماعية محددة يعجز عن إدراك عمقها الفلسفي.
ردود الأفعال تجاه الأحداث
ميرسو، في الغريب، يتسم رد فعله تجاه الأحداث بالبرود والتحكم المدروس؛ فهو يرى عبثية الوجود بوضوح ويتقبلها كتجربة حياة. عندما يقتل الرجل العربي، لا ينفعل أو يبرر ما فعل، بل يقبل حدوثه ببساطة وبدون ندم. إنه يرى أن الأحداث لا تستدعي تفسيرا؛ لأنها في نظره جزء من حياة خالية من المعنى الأعمق. خلال محاكمته، يدرك أن القضاء والمجتمع يحاولان فرض معايير أخلاقية ومعانٍ لا يؤمن بها، لكنه لا يسعى لإثبات براءته، بل يتعامل مع الحكم كجزء من عبثية الحياة التي لا يمكن تغييرها. ففلسفته في تقبل العبثية تتسم بالهدوء المطلق، إذ يرى أن محاولات تغيير الحياة لا تضيف شيئا لقيمتها، فيتقبل نهايته كاستمرار لهذا العبث، وكأنه يعلن استسلامه الواعي لحقيقة الوجود العبثي، دون حاجة لإقناع أو تبرير.
أما سرحان عبد البصير، فعلى العكس، يظهر في ردود أفعاله عفوية وسذاجة نابعة من طبيعة شخصيته البسيطة؛ فهو لا يستوعب طبيعة العالم المعقد حوله، وعندما يجد نفسه متهماً بجريمة، يُظهر خوفاً وارتباكاً يعكسان رفضه للواقع العبثي، ومحاولته التمسك بتفسيرات منطقية للأحداث. يسعى سرحان لإثبات براءته، محاولًا فهم النظام القضائي رغم عبثيته وعدم اتساقه مع الواقع. يظن أن الأمور يمكن حلها بتوضيح موقفه، فيعيد تكرار مواقفه كأن ذلك سيؤدي إلى تغيير النتيجة. عجزه عن استيعاب العبثية يجعل من ردود أفعاله تعبيراً عن تمسكه البريء بفهم منطقي ومنظم للعالم، رغم أن هذا التماسك لا يمت للواقع بصلة.
إن ردود أفعال ميرسو العبثية المطلقة والفلسفية، مرتكزة على رأيه في أن عبثية الحياة هي الحقيقة الوحيدة التي يقبلها بصمت وبدون انفعالات، بينما يظل سرحان عبد البصير يتمسك بالفطرة والمنطق البسيط، معتقداً أن الأمور يمكن أن تُفهم وتُحل ضمن قواعد المجتمع، دون إدراكه لحقيقة العبثية التي تسيطر على الموقف. ميرسو يعبر عن وعي عميق بالعبثية كمفهوم فلسفي ويعيش وفقه، في حين أن سرحان يواجه عبثية مجتمعية واقعية، تتضح من خلال تناقضات النظام والقيم الاجتماعية، ليجد نفسه ضحية لفجوة بين بساطته وسذاجته وبين تعقيدات الواقع.
في ختام هذا المقال، يمكن القول إن مقارنة مسرحية شاهد ما شفش حاجة برواية الغريب تتيح لنا فهما متعدد الأبعاد لمفهوم العبثية، رغم الفوارق الثقافية والأدبية بينهما. يتناول ألبير كامو عبثية الحياة من منظور فلسفي عميق، فيصور من خلال شخصية ميرسو صراع الإنسان مع وجود يخلو من المعنى، مؤكداً على اللامبالاة كجزء من تمرده الوجودي. في المقابل، تقدم مسرحية شاهد ما شفش حاجة عبثية من نوع آخر، تعبر عن واقع اجتماعي مضطرب وتكشف عن فساد النظام البيروقراطي بشكل كوميدي ساخر من خلال شخصية سرحان عبد البصير، الذي يظل رغم بساطته رمزاً لمواطن عادي يواجه تناقضات الواقع. من خلال نظرية التلقي، يمكننا أن نستنتج أن مفهوم العبثية ليس فكرة فلسفية ثابتة، بل هو موضوع مرن يتكيف مع السياقات الثقافية والاجتماعية، ما يسمح لكل جمهور بأن يستقبل ويفسر العبثية وفقاً لخصوصياته. وهكذا، تكشف هذه المقارنة عن جماليات الأدب والمسرح في قدرتهما على تناول موضوع واحد بطرق مختلفة، مما يثري فهمنا للأعمال الفنية، ويعزز إدراكنا لتعددية الأفكار وتنوع الأساليب.
المراجع العربية:
1. إيزر، وولفجانج، نظرية التلقي بين الأدب والنقد، ترجمة: أحمد السيد علي، القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2010م.
2. الخولي، أحمد. الكوميديا والواقع في مسرحيات عادل إمام. القاهرة: دار الهلال، 2012م.
3. عبد الفتاح، منى. السخرية في المسرح المصري الحديث. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2008م.
4. عبد الدايم، فوزي. الفلسفة الوجودية وعبثية الحياة عند ألبير كامو. القاهرة: دار الشروق، 1985م.
5. عبد الرحمن، مجدي. تاريخ المسرح العربي والكوميديا السياسية. القاهرة: دار الهلال، 2010م.
6. كامو، ألبير. أسطورة سيزيف. ترجمة: سمير ممدوح، القاهرة: دار المدى، 2005م.
7. كامو، ألبير. الغريب. ترجمة: محمد ناصر، القاهرة: دار المعارف، 1967م.
8. رجب، يوسف. نقد مسرحي: دراسة في الكوميديا المصرية. القاهرة: دار الفكر، 1990م.
المراجع الفرنسية:
1. Camus, Albert. L'Étranger. Paris: Gallimard, 1942
2. Camus, Albert. Le Mythe de Sisyphe. Paris: Gallimard, 1942
3. Jauss, Hans Robert. Pour une esthétique de la réception. Paris: Gallimard, 1978
4. Rey, Pierre. "Albert Camus et l'absurde". Revue française de philosophie, 1963
5. Sartre, Jean-Paul. L'Existentialisme est un humanisme. Paris: Gallimard, 1946