أتت تشق ظلمة الليل بهدوء شديد، وخطوات واثقة رغم ارتجافها، الصقيع يراودها عن نفسها إلا أنها تستعصم، تنظر إليه من بعيد بشوقٍ ولهفةٍ شديدين، تمشي إليه بخطواتٍ جريئة ومرتبكة في آن واحد، شاخص بصرها إليه لا تلتفت هنا أو هناك.
قابع هو هنالك تحت أحد أعمدة الإنارة الخافتة، محتجبًا عن أعين الناس ربما، أو لعله يتوارى من الصقيع الذي يحوط المكان بذراعيه القاسيتين، ينتظر قدومها بشوقٍ ربما يفوق شوقها، وبلهفةٍ تكاد تحركه من مخبئه منطلقًا إليها.
لا تعبأ بحبيبات البَرَد التي تتطاير وتتقاذف عليها كرصاصات قاتل غشوم، لكنها تتقيها بملابسها المُخرّقة. تقترب منه أكثر فأكثر خلسة عن أعين الناظرين، قشعريرة ورجفة سرتا في أوصالها حينما بلغته.
وقفت أمامه بصمتٍ رهيبٍ، صمت يحمل بين أضلعه لهفة، لهفة يوم واحد من البعد، هل يقدر يومًا واحدًا أن يُوّلد كل هذه اللهفة في قلبها؟
وقفت تنظر إلى تفاصيله، يا تُري مثلما تركته البارحة أم غيرته جفوة يومٍ طويل؟ تقترب منه أكثر، تتلمسه بيديها المرتعشتين، تطيل النظر فيه بفضول شديد قبل أن ترسل يديها إلى قلبه، تتلاصق معه، كلاهما يحتضن الآخر بشوق عاشق شفه البعد، تفتش داخله بنهم، تستجديه بكل ما أوتيت من فتنة وإغراء، تتوسل إليه أن يهبها كل ما لديه. يغوص نصفها العلوي في قلبه ليكشف عن مكنوناته.
تفتح كيسها الذي تحمله معها مُخفية إياه بين طيات ملابسها فتفضحه الخِرق تارة ويستر عريها تارة.
تنتقي كل ما يصلح طعامًا لها ولأيتامها، وتزّج به في كيسها، تنفرج أساريرها كلما ظفرت بقطعة لحم هربت إلى سلة المهملات مع بقايا الطعام.
أراقب كل ذلك في صمت من شرفتي، كل شيء كان يجرح قلبي، مشيتها الحائرة، نظراتها الواهنة، صدرها الذي يجابه حبيبات البَرَد المتطايرة كفارس لا يبالي وقع السهام، جسدها الواهن رغم امتلائه، وملابسها المهترئة وكيسها البالي.
نزلت سريعاً وفي يدي كيس ككيسها غير أنه جديد، كذا طعامه نظيف طازج، جمعته من ثلاجتي على عجل. مشيت إليها مسرعًا، وقع أقدامي على الأرض قطع عليهما خلوتهما، نظرتْ إليّ بعينين كليلتين وخجلتين، بادلتها ذات الخجل أو أكثر، خجلتُ من نظرتها التي رسمت على وجهها، لوحة بائسة لفنان فقير في مجتمع جاهل كافر بالفن.
بصمت أعطيتها الكيس، نظَرت إليه مليًا، قلّبته جيدًا بهدوء، دمعتان انحدرتا على وجنتيها، انصرفت أجُرّ خجلي وشيء من دمع غير قليل.