الرمزية.. في الشعر العراقي الحديث

قاسم العابدي


يولد الأنقياء على مائدة الوجع والحرمان، يحملون من همزة الفقد إلى ياء القهر الكثير من الأبجديات، ينثرون على الورق الأسمر حبات قلوبهم، محاولين جعل الحياة أقلّ قهراً مما هي عليه، هكذا هم الشعراء العراقيون.


يعتقد البعض أننا نحتاج إلى الكتابة بطريقة موغلة بالرمزية من أجل مواكبة التطور الخارق للسرعة في هذا الوجود، بينما يعتقد البعض الآخر أننا لا نحتاج إلى كل ذلك التعقيد، نستطيع أن نقول إن القصيدة العراقية الحديثة تحاول جعل الحياة أكثر وضوحاً، من خلال ترميزها، ومن خلال قراءة ما بعد الخيال.

الخيال، ذلك المعنى الذي يمتلك من الجمال العميق واللذيذ ما تمتلكه الألوان بعد إضافتها إلى اللوحة التي ترسم بقلم الرصاص، ولكن قد يأخذ الخيال منا ما لم نتوقعه، ولذا قد نقوم بانقلاب على ذلك الخيال لكي نثبت وجود الحقيقة، فليس بين الحقيقة والخيال سوى تفكيك رمزية القصيدة وملاءمتها للواقع الذي كتبت عنه.

يرى بعض النقاد أننا كلما ابتعدنا عميقاً في عوالم الخيال كلما ابتعدنا عن عوالم الحقيقة، وقد أختلف مع هؤلاء إذ إنني أرى أن التعمق في الخيال يمنحنا إمكانية التغلب على الحجب التي تمنعنا من الوصول إلى مدينة الحقيقة.

حياتنا غرقٌ وغرقٌ وشتان ما بين الغرق الأول والغرق الثاني، فالبعض يغرق حدّ عناوينه بالبياض، والبعض يغرق حد عناوينه بالعتمة، فلغة الطهر المكنونة بالبياض لا تتفق حتماً مع لغة العتمة المكنونة في الهاوية، فهما ضدان مثلما الجمال والقبح.

أيامنا تسابيح بدأت بوجع وكفن ولا ندري إذا كانت تنتهي بغير ذلك؛ لذا نحتاج إلى مزامير تمزق أبجدية الوجع وتلقي عنا مضامين الكفن، نحتاج إلى ثورة ملائكية ضد حشود شيطانية وانتفاضة شموخ في وجه أجندة وجع، عندما ترحل الشمس عن وجوه لم تعرف سر وجود الشمس ولم تعط الضوء حقه أو تدرك حقيقته هل سيكون ذلك سوء حظ للضوء أم لتلك الوجوه؛ فإن كان للوجوه ألا تستحق تلك الوجوه حينها النفي من عوالم الطهر. ولن يكون حقهم إلا جهنم النسيان، وهكذا يبلسم الشموخ آثار الوجع، ويبقى البياض مترجماً لأبجديات الجمال، فملائكة المعنى لا يمكن أن يهزموا.

كُلنا يسير إلى نهاية المطاف؛ فالبعض يحمل خنجراً، والبعض يحمل حزاماً ناسفاً، والبعض لا يحمل شيئاً، وأزعم أنني أسير مع السائرين، ولكنني لا أحمل ولا أمتلك سوى الكلمة، ورغم إيماني بأن الكلمة هي شرف الإنسان، بل هي وطن الشاعر أشعر بالخيبة لأنني لا أمتلك غيرها.

من هنا أقول: إن من الصعب على الشاعر أن يتحدث عن نفسه، ولكن الشعر هو حياة الشاعر؛ ولأنه كذلك فالقارئ يتحمل مسؤولية معرفة الشاعر بكيفياته وتقلباته، بل بكيانه ومكانه من خلال ما يقدم الشاعر من نتاج.

يعبر الشاعر عن رغبته في أن يتحول كل شيء بهذا الوجود إلى جمال، رغم اعتقاد بعض الشعراء بجدية التفكير العميق، والتفاني بمواجهة التحديات والعقبات التي توضع لسبب أو بدون سبب في طرقنا خلال هذا المعترك الحياتي، إضافة إلى ذلك فإن الشاعر يشعر بالموقف، ويتأجج هذا الموقف في طقوسه وكيانه، فتولد القصيدة مبللة بحبات الندى المنبعثة من روحه، فالشعر إحساس دافق يحلق بالروح على مستوى سطح الجسد فيجعلها تعانق الغيم، والشعر العراقي الحديث برمزيته التي عرف عنها، وتميز بها استطاع أن يصل إلى مسافات بعيدة من التألق، يقول الشاعر العراقي أجود مجبل:
ستقضي ضباع الله عطلتها هنا ... وتهرب للمنفى خيولٌ ثمينة

يوضح الشاعر أن الزمن الذي يمر به الوطن، جعل الناس الذين رمز لهم بالضباع يقضون عطلتهم في هذه الأرض، فهم يلتهمون كل شيء، وتتجسد بهم النفس الخبيثة التي شبهها بالضبع، ولهذا فالخيول الثمينة الأصيلة تهرب من هذه الأرض، حيث يوضح الشاعر في رمزية عالية أن الإنسان النبيل لا يمكن أن يعيش مع الضبع، وفي استطلاع للكثير من قصائد الشعراء العراقيين نجد أن حجم المعاناة واضحة في الشعرية العراقية، ولعلّ هذا الشيء ينبع من المآسي الكثيرة التي مر بها البلد، فالشاعر الحقيقي هو الشاعر الذي يكون مرآة بيئته تنعكس من خلال مشاعره الأحداث، وتتجلى من جهات تأملاته المواقف، والرمزية التي يستخدمها الشعراء العراقيون تتنوع أشكالها، فنجد البعض منهم يسير في طريق الرمزية الصوفية، بينما يسلك البعض الآخر منهجاً مختلفاً يمزج بين جزالة اللفظ وقوة المعنى.

ويقول الشاعر الدكتور حسين القاصد:
حبسوا لهاثات التوسل عندما ... جفت دموع النار فوق ثيابه
خنقوا ديوك الصبح ليلة مرتجى ... ليموت فجر في نباح كلابه
مكثت على أفق السؤال غيومه ... وتفتحت أشجانه لسحابه
أي احتدام فالهموم مدينة ... والشمس سالت من إناء ضبابه
سكرى إذاً تلك الهموم وميزة ... السكران تبدو طيبة بخطابه

ونلاحظ الإيغال في الأبيات الذي أفاد في إظهار حالة الحزن والوجع لدى الشخص الذي يتحدث عنه الشاعر وقد يكون هو نفسه، ونرى اعتماد الشاعر على الخبر في النص بكثرة للإقرار بحقيقة الحزن، فالغرض البلاغي للخبر هنا هو إظهار الحزن الذي وصل إليه الشخص، بعد كل الممارسات الظالمة التي شاهدها وعاشها، كما نلاحظ جمالية الرمز في الأبيات السابقة (لهاثات التوسل، ديوك الصبح، أفق السؤال)، ثم يتجلى الجمال في رمزية البيت الأخير (ميزة السكران تبدو طيبة بخطابه).

ويقول الشاعر عادل الفتلاوي:
رمت بي الآه صباً فوق شاطئها ... لكن يقطينتي لم تنمُ في شفتي
السرّ في سبأ والقلبُ هدهدها ... فهل ستقوى على الإبهام أحجيتي

نلاحظ أن الشاعر يستحضر أماكن مهمة، وشخصيات وردت في القرآن الكريم، ويتخذ منها رمزاً لما يشعر به فهو يستشهد بيقطينة يونس، وهدهد سليمان.

ولعل المتابع للتجارب الشعرية العراقية الحديثة يلاحظ كثرة استخدام الرمز لدى شعراء قصيدة العمود، ولم يبتعد شعراء قصيدة النثر عن السير في هذا المضمار فكان لهم مع الرمز باع طويل ومتميز، فقصيدة النثر العراقية عالجت مفاهيم مهمة ومواقف مختلفة من خلال الرمز. يقول الشاعر علي مجبل المليفي:
وحدي سوف أنقش الضوء
وهو يسبق ساقيك.
وحدي سوف أبشّر بالطرقات وأنتِ تمشين عليها
آه كم موحش شاعر المتاجر وانت تودعين سجادة الوقت.

نلاحظ أن الشاعر يجعل من الوحدة تذكاراً، ومن الوقت سجادة، وهذه الرمزية الملونة تشير إلى لحظات الغياب التي تمارسها الحبيبة.

يتذوق الشاعر العراقي الرمز مع وجباته، ويشربه مع الشاي العراقي الذي يتميز بطعمه ونكهته.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها