رسائلُ الفراشة

رنا محمد

لا أدري تماماً متى بدأ غرامي بتلك الآلة السحرية التي يسمونها "راديو"، فقد لجأتُ إليها هرباً من مشاهد التلفاز، التي تبث لنا في كل حين مشاهد القتل والموت اليومي.

كان الصوت أداتي الأولى للدخول إلى عوالم الأشخاص فيقربني منهم أو ينفرني، وفي غرفتي التي هربت إليها من مسرح الحياة اكتفيت بمذياع صغير، فأسبح في بحر الأصوات وأسمح لمخيلتي بالسباحة كما تريد... ومن هذا المذياع سمعت صوته لأول مرة، وعرفت حينها أن الصوت أداة للحب أيضاً.

كان برنامجه عن الهاربين من الحرب وويلاتها والمخذولين من الحب... كنت أعرف أن بحثه اليومي عن رسالة الفراشة التي صارت جزءاً مهماً من برنامجه، فأسمع رجفان قلبه كما أسمع تماماً رجفان صوته... ترى هل عرف أن كل تلك الرسائل له، وأني بتُّ أحيا لأجل ذلك... وأتساءل: هل ما زال فعلاً متسع للحب في عالم يضج بنشرات الأخبار، ومشاهد القتل والدمار اليومي؟

سنوات وهذا البرنامج متنفسي الوحيد الصادق في عالم تملؤه الأصوات المزعجة، حيث كان صوتي يخذلني، لكن الكتابة لبرنامجه لم تفعل... ولم أدر كيف وقد احتل كل وقتي وتفكيري.

حين طلب على الهواء سماع صوتي ارتبكت، لكن شيئاً ما بداخلي دفعني للاتصال به... لم أكن خجولة كما كنت أعتقد، كانت حنجرتي أقفاص مفتوحة تطير منها الفراشات كما تشاء.

وتطورت علاقتي به من البث المباشر إلى تحت الهواء، كنت أخترع الحجج لأتصل به، ومع الأيام أصبح برنامجه يعنيني مثله تماماً... كنت سعيدة وأنا ألاحظ تعلقه باقتراحاتي أكثر من تعلقه ببرنامجه.

مع الأيام تجاوزت علاقتنا البرنامج، ووصلت إلى البعد الرابع أو الخامس الذي لا يمكننا رؤيته أو لمسه، إلى الفراغ والامتلاء، إلى الفن والموسيقى والأدب... أصبح اتصال الفراشة في الموعد المحدد محرك البرنامج والإذاعة كلها، بل وأصبح محور حياته أيضاً.

مرة تأخرتُ بالاتصال، كنتُ أستمع إليه عبر الهواء مرتبكاً ينتظر صوتي، وأخيراً قالها: "فراشة أين أنت... لِمَ لمْ تتصلي"؟ كنتُ قبالة الإذاعة، وقالب "الكاتو" في يدي، فاليوم عيد ميلاده وأريد أن أرى المفاجأة على وجهه وهو يراني لأول مرة، وفجأة انقطع بث الإذاعة ولم أتمكن من الوصول إليها فجميع الطرقات الآن مغلقة.

توقف البرنامج وتغير كل شيء... اختفى هو أيضاً... رحل بصمت عجيب وتركني في حيرة من أمري.

وعادت الفراشات في داخلي إلى أقفاصها ولم أعد قادرة على الكلام، قال الأطباء من هول الصدمة... أمرُّ اليوم بالقرب من ذلك المكان الذي تغيرت ملامحه كما تغيرت ملامحي أيضاً، فقد أخذ الزمن مني كل شيء، بياض البشرة وانشدادها، بريق العيون وبياض الابتسامة، أهرب من المرآة التي تعكس صورة تلك المرأة لأتذكر الفراشة التي كنتها، وما زال صوته يتردد في أذني وأحاول استحضار ملامح له.

أمسك قالب "الكاتو" جيداً... الراديو في يدي لم يعد يعمل، لا بأس فصوته يطغى على المكان الذي أبتسم له وأنا أبتعد، أرحل بصمت كما رحل هو.

وأفكر: هل سمع أحد غيري صوت الفراشة؟

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها