تستقبلني ابتسامتها كل صباح في الطريق الفاصل بين جريدتي ونقابة الصحفيين، أعبث في حقيبتي، بحثاً عن بعض جنيهات أدخرها لهذا الغرض، تمد يدها بكيس مناديل ورقية وتقسم علي أن آخذه، أبتسم، أعطيها ما تيسر، أشكرها على مناديلها وأرجوها ادخارها لغيري؛ لأني لست بحاجة إليها، تبتسم: "ما تكسفيش إيد خالتك محاسن".
على فرشتها الفقيرة المرتكزة على أقفاص فاكهة فارغة، بعض أكياس المناديل، وحلوى من النوع الرخيص، وبعض مطبوعات دينية كأدعية وأحاديث تحث على الكرم والعطاء، أحاديث تحبب النفوس في الصدقات، وتثمن عمل فاعلها وتعظم أجره، بلغة الاقتصاد لا تبيع شيئاً، فقط ترص حاجيات تستدر عطف المارة.
أهرول سريعاً لتخطي الطريق العام، لا أفكر سوى في تفادي السيارات المتسارعة في جنون، تتعلق عيناي بيد عسكري المرور، يشغلني الطريق، تنتصب يده اليمنى معلناً توقف السيارات، أعبر الشارع، يُغيّب الزحام المرأة عن ناظريّ ويغيبني عنها، تنشغل بغيري.
لا أنشغل بالنظر والتدقيق في وجه المرأة السبعينية المبتسمة دائماً، في الصباح أو منتصف اليوم، تلك الراضية رغم الفقر الطالل من ملابسها الرثة ورقعاتها الكثيرة، أستفيق من شرودي أجدني أفكر في مدى الرضا الذي تستشعره يتقافز من عينيها اللتين تحتفظان ببقية بريق.
شعرت بوخز ضمير ومسؤولية ما نحو المرأة السبعينية. فبائعة اللاشيء امرأة ولها في رقبة المجتمع حقوق، كيان من دم ولحم ودمها المسفوح على رصيف الحاجة والعوز في رقبة الجميع وأنا أولهم.
في صباح باكر ادخرت بعض الوقت من أجلها، واقتربت منها لطلب بعض أوراقها الثبوتية؛ لاستخراج معاش دائم يقيها شر الحاجة، وبرد الشوارع ولزاجة المارة.
رفضت بشدة، وتعللت بحجج كثيرة ومتنوعة، وكلها مشكلات بأن ليس لها أوراق رسمية، وكلما حللت لها مشكة جاءت بجديدة، سأستخرج لك كل ما عجزت عن استخراجه، وأثبت ما أرهقك إثباته، توترت وبدى عليها القلق، تتهرب بطريقة ما.
اقتربت منها كي لا تتبعثر كلماتي وتتسرب لأحد، لم أشأ إحراجها، أردت مساعدتها بشتى الطرق.
هي تريد بعض جنيهات فقط، فكيف تقبل بالقليل وأنا أحاول منحها كرامة وتحرراً من سخافات المارة، وانتهازية واستغلال العسكري القريب؟ تعجبت!
طلبت منها شهادة وفاة المرحوم، بفزع قالت: أي مرحوم؟
- زوجك؟
- لم يمت.
- سامحيني، أنت مطلقة إذن؟
- لا.
بتردد قالت: متزوجة، لكنني لا أملك أوراقاً، وبانزعاج أكثر قالت: لا أريد مساعدة ولا معاشاً، تعجبت. لكنني لا أملك سوى الصمت الرافض المتساءل في بلاهة ساذجة: كيف ترفض من هي في مثل ظروفها مساعدة ميسرة؟
ثم كيف لهذه العجوز بزوج، هي بالكاد تتحرك، وأجزم ببلوغها العقد السابع، فهل زوجها في الثمانين من عمره وربما بلغ التسعين؟ هل ما زال على قيد الحياة؟
أسئلة كثيرة قضمت الوقت ونهبت المسافة بين نقابتي والجريدة، لم أضبط نفسي متلبسة بالسلبية يوماً ما، لكنني لن أساعد أحد رغماً عنه.
مساءً بعد يوم عمل مضن، واجتماعات التهمت ساعات طويلة من اليوم كاد الجوع يفتك بي، ويرشق عصافير بطني بالحجارة وهي تصرخ، دعانا رئيس القسم لمطعم فاخر لتناول العشاء، تكفيراً عن يوم عمل قاربت ساعته على 18 ساعة.
إلى جانب طاولتي تجلس امرأة حيرتني ملامحها، وأنا أحاول القبض على ذاكرتي الهاربة لاستجماعها، وإعادة تشكيل ملامحها في ذهني كمن يجمع أجزاء من صورة في لعبة "الجزء الناقص"، ناديت على النادل لعله يساعدني، فيبدو من معاملته لها، وللشاب الذي بصحبتها أنه يعرفهما جيداً عله ابنها!
قال: الست وزوجها من أفضل زبائن المطعم، يدها سخية ولا تبخل على أحد، هما من الزبائن الدائمين تقريباً يأتيان كل يوم، هل تعرفيها يا أستاذة؟
غالباً، فملامحها مألوفة لعيني لكن لا أعرف أين رأيتها.
- الست محاسن من سكان مصر الجديدة؟
- من؟
- خالتي محاسن!