تَيمةُ الأنا والتّحول

في رواية "رواء مكة" للكاتب المغربي حسن أوريد

محمد أمقران حمداوي


حسن أوريد كاتب مغربي، توفّرت له من أسباب الشهرة والسلطة والجاه والنفوذ ما يندر أن يتوفر لغيره من الأدباء المغاربة والعرب الحاليين. اسمه منقوش في ذاكرة المغاربة من خلال دراسته في المدرسة المولوية، ومن خلال تقلده سابقاً لمناصب حساسة في هرم الدولة منها: الناطق الرسمي باسم القصر الملكي، والي جهة مكناس تافيلالت، مؤرخ المملكة المغربية... ومن خلال حضوره أيضاً في الساحة الأدبية والفكرية والسياسية. وهذه الحمولة هي التي تجعل القارئ يقبل بِنَهَم على قراءة وتحليل مؤلَّفاته.

 



على سبيل التقديم

صدرت للكاتب المغربي حسن أوريد عن المركز الثقافي العربي الدار البيضاء/ المغرب رواية أو سيرة روائية تحت عنوان: "رَواء مكة" وذلك في 223 صفحة من الحجم المتوسط، وسبعة فصول هي: ومضات، ذبذبات، همزات، إشراقات، البشائر، تداعيات، الحنين إلى مكة. وهو نص من بين نصوص أو روايات أخرى للكاتب وهي: الحديث والشجن، صبوة في خريف العمر، الأجمة، رباط المتنبي، ربيع قرطبة، سيرة حمار، الإسلام والغرب والعولمة... وقد شكل صدور هذه الرواية سنة 2017م (أي بعد عقد على رحلة الحج) حدثاً استثنائياً أثار حفيظة القراء والنقاد المغاربة والعرب على اختلاف مستوياتهم على اعتبار أن الكاتب ليس رجلا عادياً، إنما هو رجل توفرت له من أسباب الشهرة والسلطة والجاه والنفوذ ما يندر أن يتوفر لغيره من الأدباء الحاليين. اسمه ليس عادياً وليس عاريًا من الدلالة بل إنه زاخر وخصب لأنه درس في المدرسة المولوية أولا، وتقلد مناصب حساسة في هرم الدولة ثانياً، وكاتب وروائي حداثي متعدد القراءات والاهتمامات ثالثاً. وهذه الفسيفساء تشجع القارئ على قراءة وتحليل مؤلَّفه: "رواء مكة". ولنا في التاريخ القديم قائمة لكتاب كبار آثروا العزلة على الشهرة والسلطة والجاه كالإمام الغزالي الذي غادر بغداد وهو في ذروة المجد والشهرة، تاركاً المنصب والجاه والسلطة حتى تداول الناس فيما بينهم: إنْ هذه إلا عينٌ أصابت الإسلام والمسلمين. كما أن موضوع الرواية بدوره شكل الاستثناء على اعتبار أنه يتخذ موقفاً من السلطة والنفوذ والجاه في وقت يتهافت فيه الجميع على كل ما ييسر طريق الشهوات والملذات.


على سبيل التأطير:

عتبة الإهداء: من يقرأ السيرة الروائية "رواء مكة" سيعرف بكل بساطة أن صاحبها ليس شخصاً من عامة الناس عاد إلى رشده بعد غيٍّ وضَلال، فقصدَ إلى حج بيت الله معلناً توبته النصوح، بل شخصاً غير عادي تلقى تربية دينية تقليدية في كنف أسرة محافظة بالجنوب المغربي بقصر السوق (الراشدية حالياً)، تربية تركت أثراً بليغاً في نشأته بصفة خاصة وفي مسيرة حياته بصفة عامة. جاء في كلمة الإهداء: "إليهم (يعني الوالد والوالدة والجدة) الفضل على بدء النشأة تحت ظلال القرآن وهذا العود لنبع الإسلام" (ص: 7). وشاءت الظروف أن يتابع دراسته في المعهد المولوي بالرباط بفضل اجتهاده ونبوغه المبكر، ويتقلدَ بعد تخرجه مناصبَ عُليا في السُّلْطة، ثم ينشأُ في نفسه صراعٌ نفسي مرير، فطفقَ يبحثُ عن ملاذ لروحه الحائرة بين الجاه والسلطة والحياة المترفة، وبين التفرغ للكتابة والتدين.


عتبة الغلاف والصورة:

إن الولوج لأعماق النص يبدأ من دراسة العتبات الخارجية ومساءلتها. ومن هذه العتبات لوحة الغلاف. لقد وضع الكاتب جنس المؤلف أسفل صورة الكعبة المشرفة. الشيء الذي ييسر على القارئ عملية التلقي وينبهه منذ البداية إلى أنه بصدد قراءة سيرة ذاتية لشخصية معينة (فكرية، سياسية...) هي شخصية الكاتب نفسه، وليس بصدد قراءة رواية بالمعنى الكلاسيكي للرواية. أما اللون الأسود فله دلالات مختلفة، منها ما هو إيجابي، ومنها ما هو سلبي. فهو يدُل على الغموض، والتمرد، والجاذبية، والأناقة، والتحدي، والإرادة القوية، والقوة، والسلطة. وفي الوقت ذاته يرمز إلى الاكتئاب والموت والشر. وله دلالات أخرى منها ما يلي:


دلالة اللون الأسود في طلاء الأظافر:

انتشرت في الآونة الأخيرة ظاهرة طلاء الأظافر باللون الأسود، وتباينت الآراء حوله وحول دلالاته، حيث إنّ البعض يشير إلى أنّه يرمز إلى التمرد والثورة على كلّ ما هو مألوف، ويربطه البعض الآخر بوجود نظرة سوداويّة للحياة.


دلالة اللون الأسود في اللباس:

يدل اللون الأسود في اللباس على القوة والعمليّة والاحترافيّة؛ حيث يلجأ إليه أغلب رجال وسيّدات الأعمال ويجعلونه جزءاً من لباسهم اليومي؛ لأنّه يرتبط بشكل مباشر بالسلطة والأناقة. دلالة اللون الأسود عند العرب:

في البلاد العربية يرتبط اللون الأسود بالحِداد؛ حيثُ يرتديه أهل الميت خلال أيام العزاء. كما تغزّل شعراء العرب خلال التاريخ بالنساء صاحبات الشعر الأسود والعيون السوداء، حيث كانت هذه الصفات تعتبر من الصفات الجمالية التي تُميّز المرأة. من خلال هذه الدلالات الخاصة باللون الأسود يمكن أن نفهم بأن السارد ربما له صفات إيجابية منها: الجاذبية، والأناقة، والتحدي، والإرادة القوية، والقوة، والسلطة. وربما له صفات سلبية منها: الغموض، والاكتئاب والتمرد والثورة على كلّ ما هو مألوف، أو ربما يجمع بين النقيضين. ذلك ما قد تُطْلِعُنا عليه سيرتُه الروائية "رواء مكة".


عتبة العنوان:

يتركب العنوان من حيث الإعراب من مركب إضافي (مضاف: رواء / مضاف إليه: مكة)، والإضافة تعني نسبة شيء إلى شيء لوجود علاقة بينهما. إذن؛ هناك علاقة بين الرواء ومكة. أما من حيث الدلالة فيفصح العنوان عن الارتواء العذب والحسن من مكان مقدس لدى المسلمين، فيه تتم شعيرة الحج وهو مكة. مكان للقيام بمجموعة من الطقوس بهدف الانتقال من حالة الذنوب والمعاصي إلى حالة الثوبة والتكفير عن الذنوب ومحوها. وفي عبارة أخرى: مكان مقدس من أجل الارتواء والتحول من حمل الذنوب والمعاصي إلى حالة جديدة عارية من كل خطيئة.


عتبة البداية والنهاية:

أ - عتبة البداية: بدأ الكاتب سيرته الروائية بآيات من سورة الزمر، آيات تحمل الأمل والتفاؤل، وتفيد أنه مهما أخطأ الإنسان فإن رحمة الله واسعة، وأردفها بالإشارة إلى ومضة أو محطة هامة في حياته، وهي أن أداءه لشعيرة الحج لم يكن بوازع روحي أو إيماني؛ وإنما كان استجابة لنذر كان قد قطعه مع الله في حالة ضعف. والدليل على ذلك أنه حاول التنصل من أداء هذه الشعيرة بسبب مواقفه المتحررة (ص: 14)، لكن عامل الأزمة النفسية التي يعيشها ساهم في دفعه إلى الاستجابة للعرض. الشيء الذي أوقعه في حيرة وتردد؛ لأن أداء هذه الشعيرة قد يصرفه عن الاستمتاع بما درج عليه من ملذات وشهوات وامتيازات (ص: 17 - 18).

ب - عتبة النهاية: يختم الكاتب قصته بأن الحج كان لقاء مع ذاته ومع الجماعة، كما كان هجرة؛ حيث هجر حياة السلطة والجاه والنفوذ والشهرة والمنصب للبحث عن طمأنينة النفس، والتخلص من الفراغ الروحي. وما كان ليهجر السلطة والمنصب لو لم يرتَوِ من مكة بدليل قوله: (وهل كنت أستطيع أن أُتابع هذا التحول لو كنت موثَقاً بمنصب؟ وهل كنت أستطيع أن أنفض الأغلال لو لم أكن نهلتُ من رَواء مكة... ص: 210).


جنس المؤلَّف:

إن الكاتب أثبت في لوحة الغلاف جنس مؤلَّفه وهو "سيرة روائية"، لكن القارئ عندما يقرؤه يقع في حيرة من أمره. هل هو سيرة ذاتية فقط؟ أم أنه كتاب فقه صاحبه متمكن من الاستشهاد بالآيات القرآنية؟ أم هو كتاب خاص بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته؟ أم هو كتاب شعر؟ ولِمَ لا يكون من جنس أدب الرحلة ما دام وصفاً لرحلة حج من رجل مسلم؟ أم هو كتاب تاريخ يؤرخ فيه الكاتب لما وقع في الأندلس والمغرب وباريس وأمريكا؟ أم كتاب سياسة يتحدث عن أحداث مهمة وقعت في المغرب وكذا في الدول العربية؟ وبتعبير آخر: هل هو جنس أدبي جديد يجمع بين السيرة والرواية؟ قد يقول قائل إن الكاتب حاول في هذا النص أن ينفلت من أسر التقليد الروائي وأن يخلق قوالب سردية جديدة خاصة به. إذا صح هذا الرأي فهل يمكن القول إن الكاتب كتب هذا النص متأثراً بالاتجاه الحديث للروائيين الفرنسيين في منتصف القرن العشرين، ومنهم على سبيل المثال جيرار غرييه (Gerard Garier)، وناتالي ساروت (Nathalie Sarraute)، وكلود سيمون (Claude Simon)، وميشيل بوتو (Michel Poutou)، والذي يهدف إلى إحداث تحول في شكل الرواية فنياً ومضمونياً؟ المؤلِّف صنَّفَ عملَه السردي ضمن السيرة الروائية، وهو ما نجده في الجانب الأيمن من الغلاف أسفل صورة الكعبة. فالميثاق الذي عقده المؤلف إذن مع القارئ ليس أوتوبيوغرافياً، بل هو ميثاق سيري روائي، وهذا يعني أن عنصر التخييل سيكون حاضراً في المتن النصي صرح بذلك الكاتب أم لم يصرح، شاء القارئ أم لم يشأ، أي أن ثمة تصريحاً بالتخييل حسب تعبير لوجون.


الأجناس الأدبية في الرواية:

انفتحت الرواية على أجناس تعبيرية مختلفة منها ما يلي:
 أ. الشعر:
استحضر الكاتب في سيرته الروائية أبياتاً منفردة ومجموعة أبيات وقصائد شعرية تؤرخ لكل عصور الشعر العربي، بدءاً بالعصر الجاهلي إلى الإسلامي والأموي مروراً بالعصر العباسي، وانتهاءً بالعصر الحديث في المشرق والمغرب. ويلاحظ أنه أكثر من الاستشهاد بالشعر العربي القديم. وهكذا نعثر في المتن النصي على أبيات للنابغة الذبياني، وطرفة بن العبد، والخنساء، وحسان بن ثابت، والحطيئة، وجرير، وعمر بن أبي ربيعة، وبشار بن برد، والشريف الرضي، والمتنبي، وأحمد شوقي، وعلي محمود طه، وأبي القاسم الشابي، ومفدي زكريا، وأحمد فؤاد نجم، ومحمود درويش... إن هذا الزخم من الأشعار يعبر عن ثقافة شعرية واسعة تشرب ينابيعها الأولى على يد أساتذة شداد غلاظ في المدرسة المولوية مثل محمد باحنيني ومحمد شفيق وعبد الرؤوف البرنوسي وأحمد بن سودة... وهو لا يستشهد بها رغبة في إبراز ثقافته الشعرية، بل يوظفها في أماكنها المناسبة كما في أبيات أحمد شوقي التي يتذكرها حين دخل جامع قرطبة الذي تحول جزء منه إلى كنيسة:

مررت بالمسجد المحزون أسأله ... هل في المصلى أو المحراب مروان (ص: 76). وكما في قصيدة محمود درويش "آخر المشهد الأندلسي" في ديوانه "أحد عشر كوكباً" والتي يتحسر فيها على مجد الأندلس في عهد الحضارة العربية (ص: 78): (ذات يوم سأجلس فوق الرصيف.. رصيف الغريبة لم أكن نرجسا...). ويبدو أن الكاتب كان يستحضرها من ذهنه ومحفوظاته بدليل عدم إحالتها إلى مصادرها، لذلك نراه يخلط في بيت واحد بين شطر لحسان بن ثابت وشطر آخر لبشار بن برد:

لنا الجَفَناتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ في الضُّحَى ... وَأَسْيافُنا لَيْلٌ تَهَاوَى كَوَاكِبُهْ (ص: 57). وما يؤكد أن الكاتب يعتمد على مخزونه ومحفوظاته أثناء الكتابة والاستشهاد هو ذكر ديوان لمدير الثانوية التي درس بها، الشاعر المغربي محمد بن دَفعة، على أنه بعنوان "زهور بلا أشواك" في حين أن الصواب هو "أشواك بلا ورد" (ص: 87). إضافة إلى الشعر العربي الفصيح وظف الكاتب أشعاراً بالأمازيغية، لغتِه الأم، وترجمها إلى اللغة العربية ليسهل على القارئ فهم وتذوق معانيها. وهو لا يُلقي هذه الأشعار على عواهنه، إنما يريد أن يُسِرَّ للقارئ بأنه من أصول أمازيغية. ولعل حسن أوريد من المفكرين القلائل الذين يذكرون انتماءهم الهوياتي.

ب. النصوص القرآنية:
إذا كان الكاتب لم يوثق في الغالب الأعم الأبيات والنصوص الشعرية؛ فإنه حرص كل الحرص على توثيق النصوص القرآنية بذكر السورة ورقم الآية أو الآيات. والملاحظ أن الآيات التي استشهد بها في سيرته الروائية كلها تحث على الإيمان والاستقامة والتقوى والعمل الصالح والبر والإحسان، وعلى الرؤية الوسطية، ومنها الآية الكريمة {وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡآخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ وَأَحۡسِن كَمَآ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ} (القصص، آية: 77).

ج. النصوص التراثية العربية:
تتضمن السيرة الروائية بعض النصوص التي كان لها أثر في تحوله الفكري والعقائدي، ومنها على سبيل المثال نص من كتاب "المنقذ من الظلال" للإمام الغزالي (ص: 49)، ومنها كذلك بعض الأبيات الشعرية التي ذهبت مذهب الأمثال والحكم، والتي لها دلالة الخيبة أو السخرية من واقعنا العربي الراهن أو الحث على اليقظة من أجل النهوض من الكبوة، ومنها:

إذا هبتْ رياحكَ فاغْتَنِمْها ... فعقبى كُلِّ خَافقَةٍ سُكُونُ
وإن دَرَّتْ نِيَاقُكَ فاحْتَلِبْها ... فما تَدْري الفَصيلَ لمن يَكُونُ
(ص: 60).

ومنها كذلك:
إن قومي تجمَّعوا وبقتلي تحدَّثوا ... لا أبالي بِجَمْعِهِمْ، كلُّ جمعٍ مؤنثُ (ص: 59).

ويوظف الكاتب أيضاً قصص العرب وخاصة الشعراء الصعاليك أمثال عروة بن الورد، وأكثم بن صيفي، والسُّليك بن سلكة، وتأبط شراً وغيرهم من الذين يمثلون قيم المروءة والشهامة والكرم. (ص: 52)، كما يُعيد القارئَ لأحداث هامة عاشها المسلمون في ساحات المعارك من أُحُد إلى الخندق وغيرها. وهو هنا لا يقصد أن يُعَرِّفَ القارئ بساحات هذه المعارك، بل يقصد ضرورة العودة لتاريخنا وثقافتنا اللذين يُعَدّان هويتنا.

د. اليوميات:
وظف الكاتب هذه اليوميات على امتداد الفصل الثاني "ذبذبات" (من ص: 97... إلى ص: 131). بدأ كتابتها بجدة يوم الأربعاء 12 ديسمبر 2007م، وتوقف عن كتابتها بمِنًى يوم الأحد 30 ديسمبر 2007م. وهذه اليوميات تُؤرِّخ لأحداث عاشها الكاتب ولمشاهد رآها بأم عينيه في الأماكن المختلفة التي تُؤَدّى فيها شعيرة الحج (مكة، المدينة، منى، مزدلفة...). ولم تكن هذه اليوميات تخلو من مظاهر سلبية انتقدها بحدة لأنها تتنافى مع فحوى مناسك الحج، كما لم تكن تخلو كذلك من مظاهر إيجابية لاحظها في سلوك الحجاج.

ه. الرسائل: استشهد الكاتب في مؤلفه برسائل إيزابيل في الفصل الرابع "إشراقات".

الشخصيات:
يمكن أن نقسم الشخصيات في "رواء مكة" إلى ثلاثة أنماط:
أ. الشخصيات المشاركة في الحدث الروائي: وهي: السارد، المؤلف، الأب، الأم، الجدة، أخ السارد عبدالله المريض، زوج السارد، ابنه إسماعيل، ابنته سامية، ابنته الكبرى سلمى، الرجل الإسباني محافظ صومعة الخيرالدا بإشبيلية. ويمكن اعتبار الأب والأم والجدة والأخ شخصيات رئيسة باعتبارها مؤثرة في مرحلة طفولة المؤلف وصباه، فقد كان يعود إلى الحديث عنها في ارتدادات زمنية عديدة ليسرد عن مدى أثر هذه الشخصيات، وخاصة الجدة في بناء شخصيته وزرع بذور الإيمان القوي في نفسه الفتية. وعتبة الإهداء معبرة بما لا مزيد عليه عن فضل النشأة الدينية في عودته إلى حديقة الإيمان.

ب. الشخصيات الأعلام: يمكن أن نقسم الشخصيات الأعلام التي ذكرها المؤلف في ثنايا نصه إلى قسمين: القسم الأول: مجموعة من خيرة أساتذة المعهد المولوي بالرباط تلقى على أيديهم اللغة العربية وآدابها، وأمهات كتب التراث العربي شعراً ونثراً، كما حفظ ما تيسر من القرآن الكريم، فضلا عن العلوم والمعارف الأخرى من تاريخ وفلسفة وعلم اجتماع وغيرها مما كان يلقن في هذا المعهد. وهؤلاء الأساتذة هم: الأديب الحاج أحمد بَّاحْنيني، المستشرق شارل بيلا المختص في أدب الجاحظ، اللغوي محمد شفيق، الفقيه عبدالرؤوف البرنوسي (مدرس النحو)، المدني بن الحسني (فقيه لغوي من رجالات الرباط)، الفقيه المقرئ عبدالرحمن بن موسى "الذي كان مدرسة في التجويد" (ص: 60)، أحمد بن سودة، عبدالكريم حليم (مدرس "فيض الخاطر" لأحمد أمين وموسوعته المعروفة).

إن المؤلف يذكر باعتزاز وتقدير أساتذته الأفذاذ، ويكبر فيهم غيرتهم على اللغة العربية وحرصهم على الحفاظ على قواعدها وجماليتها. إنه بذكره لهذه الشخصيات الأعلام يود أن يذكر أفضالهم على تكوينه اللغوي والثقافي العام، ويرسخ ذكرهم في ذاكرة الأجيال الآتية باعتبارها أمثلة ونماذج للأساتذة المربين الأكفاء المخلصين. القسم الثاني: شخصيات علمية وأدبية وفنية، ويذكر منها على الخصوص الأسماء التالية: الإنجليزي "ويلفريد ثيسيجر" الذي أحب قيم العرب الأصيلة، وكتب كتاباً بعنوان "الصحراء العربية" سنة 1946م، وعاين أثناء رحلته ما يتميز به عرب الصحراء من كرم وإيثار وغيرة (ص: 66 / 67 ). - الروائي إبراهيم الكوني الأديب الليبي (النِّحْرير). عثمان بالي: شاعر ومغنٍّ من الطوارق من صحراء "جانيت" بالجزائر (ص: 68). علاَّ المغني: من أبناء بشار، كان يعزف العود على شاكلة أهل تافيلالت، وكان أخواله من قصور الريصاني بمنطقة تافيلالت (ص: 67 -68). والملاحظ أن المؤلف يورد هذه الشخصيات التي تنتمي إلى بيئة صحراوية قريبة من بيئة نشأته لميله إلى هذه القيم النبيلة والتأسف على غيابها في واقعنا العربي الراهن. يقول بأسى وألم: "لن أشتط في القول، فأقولُ مثلما قال عربيٌّ قح عبدالله القصيمي عن بني جلدته من أن العرب ظاهرة صوتية... هم بقايا لشعب عريق، وأمة صحيحة كما كان يقول عنها طه حسين (ص: 67 ).

ج. الشخصيات التاريخية: هذه الشخصيات تنتمي إلى بداية التاريخ الإسلامي، ويتعلق الأمر بالصحابة التالية أسماؤهم: عمَّار بن ياسر الذي مات شهيداً، وسلمان الفارسي صاحب الخندق، وبلال الحبشي مؤذن الرسول، وصهيب الرومي. وقد استدعى السارد هذه الشخصيات ودخل معها في حوار. وحين يدخل هنا في حوار مع شخصيات تاريخية يتحول إلى شخصية روائية، إلى صوت سردي بين باقي الأصوات. وهنا يبرز عنصر التخييل في هذا العمل السير روائي، فيلتقي السارد، بين غفوة وصحوة، بعمار في مكة، وَيُذكِّره أنهما التقيا بمِنًى قبلَ أربع سنوات عند صلاة الفجر. ويصير السائق الذي كان يشتغل عند السارد هو الصحابي سلمان الفارسي كما يقدمه له عمّار بن ياسر، ثم يصادف بعد ذلك بلِالاً مؤذنَ الرسول ويتعرف عليه، ويضع رأسه على ركبته، فتملأ نفسَه الراحةُ والسكينة وذلك قبل أن يصعد بالحبال التي وجده يفتلها إلى أعلى الكعبة ليصدح بالأذان. أما صهيب الرومي فيراه يطوف بالكعبة ويرفع صوته باللغة الإنجليزية منادياً بالنصر للفلسطينيين وغيرهم من المسلمين، ثم يمسك يد السارد ويجس نبضه ليتجه إلى صاحبيه بلال وياسر بالقول: "اضطراب عادي، نتيجة تحولات عميقة، ومخلفات سابقة. سوف يعود إلى سيرته الأولى..." (ص: 220). يقرأ بلال ما يتيسر من القرآن الكريم، فيستفيق السارد وقد ذهب عنه الإحساس بالضيق والقلق والاضطراب: "فاستفقتُ واستويتُ، كأنما أضحيتُ شخصاً آخر، وقد تبدد كلُّ غمّ وغاضَ كلُّ هم" (ص: 220).

في هذه الفقرات السردية يمتزج التاريخ بالحاضر، الواقع بالخيال. ويشيرُ المؤلف من خلال الشخصيات التاريخية (الصحابة) المتنوعة الأعراق والأنساب إلى أن الدين الإسلامي دين المساواة والوئام، وليس دين تفرقة وانقسام.

الأنا والتحول في "رواء مكة":

بدأ الكاتب روايته بذكر بعض الومضات من حياته أو قل المحطات التي أغنت تكوينه وشخصيته، مثل تعلمه على يد أساتذة كبار داخل المدرسة المولوية منهم: الأديب الحاج امحمد باحنيني، واللغوي محمد شفيق، والفقيه عبد الرؤوف البرنوسي (مدرس النحو)، وأحمد بن سودة، والفقيه المقرئ عبد الرحمان بنموسى، وعبد الكريم حليم (مدرس "فيض الخاطر" لأحمد أمين وموسوعته المعروفة)، والمستشرق شارل بيلا المختص في أدب الجاحظ.

كما سرد في هذا الفصل الأحداث التي تدور في مخيلته وهو متجه إلى مطار الدار البيضاء لأداء شعيرة الحج التي لم يكن أداؤها بدافع روحي؛ وإنما استجابة لنذر كان قد قطعه مع الله في حالة ضعف وألم. ثم بعد ذلك يسافر بنا إلى طفولته البريئة وقصة أخيه المؤلمة مسترجعاً أحداث الوطن العربي ورحلته إلى أمريكا في مهمة ديبلوماسية أفاد منها قيماً إنسانية نبيلة قبل أن يتم إعفاؤه من هذا المنصب ويتم إبعاده عن السلطة باعتباره "أوفقير" المستقبل. بعدها ينقلنا للحديث عن أحداث 1973م، ثم يتذكر تجربته مع الإسلاميين وهو آنذاك والٍ على جهة مكناس تافيلالت. وتوقف عند مليكة أوفقير صاحبة كتاب "السجينة"؛ حيث قدم لها اعتذاراً بسبب مقال له كان قاسياً في حقها. ويطير بنا إلى العراق وبلاد الأندلس التي وصف أماكنها، وأحسن الحوار مع القائمين عليها. ويعود بنا لمكناس ليحدثنا عن موقف له مع الساكنة لن ينساه أبداً. ويتذكر بعدها جدته وطفولته وما كان لها من فضل عليه. بعد ذلك كله ينتقل بنا إلى الفصل الثاني "ذبذبات "، وهو فصل أفرده لوصف شعيرة الحج وأماكنها. ولتكسير هذا الوصف سرد مجموعة من الطرائف والأحداث منها على سبيل المثال لا الحصر: رده لبعض عروض شعيرة الحج سابقاً لأنه لم يكن مؤمناً ولا مقتنعاً بها آنذاك (ص: 98)، الهجمة التي تعرض لها العراق أجّجت وعيه بالانتماء (ص: 101 )، إقبال الحجاج على الطعام في الفنادق بنهم دون ترفع أو زهد (ص: 102)، قراءة الحجاج للقرآن دون تدبر معانيه (ص: 102)، إقصاء غالبية الحجاج من غير العرب من الدروس المقدمة حول مناسك الحج (ص: 104)؛ لأنها تلقى باللغة العربية فقط، استعمال الهاتف أثناء السعي والطواف، أكل السندويش على الطريقة الأمريكية بين الصفا والمروة (ص: 107)، رمي الجمرات بطريقة غير لائقة (ص: 115 و118)، محاولة تحرش رجل لبناني بسيدة مغربية مسنة (ص: 123) افترقت عن جماعتها، المكان الذي وقعت فيه معركة أحد مهمل... وهو يريد بذلك كله أن يبين للقارئ بأن هناك طقوساً تحجب روح الحج والغاية منه ولذلك يتساءل: هل يمكن اختزال الإسلام في طقوس؟ (ص: 118).

وفي فصل "إشراقات" يضع الكاتب مقارنة بين ما تعلمه من أساتذته بالمدرسة المولوية، وبين ما تعلمه من جدته، وينتصر في الأخير لجدته ولفطرتها السليمة، ثم يستحضر قصة إيزابيل إيبرهارت، هذه السيدة التي أتت من أرض غير إسلامية وتزوجت من مسلم لكنها حملت شعلة الإيمان أكثر منه، وينطبق عليها ما استشهد به في فصله الثاني من أن العجم المسلمين، بقدر بعدهم عن اللغة العربية، بقدر قربهم من روح الإسلام، والعرب بقدر قربهم من اللغة العربية بقدر بعدهم عن روح الإسلام (ص: 129). وبعد سرده لمجموعة من رسائل إيزابيل، ينتقل لفصل آخر هو "البشائر"، وفيه يدون مجموعة من القصص لأشخاص عادوا إلى نداء قلوبهم الصافي، واعتنقوا الإسلام كدين سماوي يدعو للرحمة والمحبة.

وبعد ذلك ينتقل الكاتب إلى فصل آخر سماه "همزات"، وفيه يحدثنا عن أشخاص التقى بهم في رحلة الحج، وكانوا يريدون ثنْيَهُ عن طريقه الذي اختاره، والمتمثل في العودة إلى الإيمان وهم: الشاب الأمازيغي الذي يكره العرب والإسلام، والطفل المغربي الذي يدعوه للعودة إلى حياة البذخ والرفاه، والرجل الضخم الذي بارزه… ويختم قصته بأن الحج كان لقاء مع ذاته ومع الجماعة، ثم كانت الهجرة؛ حيث هجر السلطة ومنصبه للبحث عن طمأنينة النفس، للبحث عن السلام والإيمان، للتصالح مع الذات، للحنين إلى الماضي. ويؤكد أيضاً أن هجرته إلى الحج كانت هجرة لمواقع لم يستدفئ فيها الطمأنينة والسكينة، ولم يستشعر فيها راحة البال. ومن هذه المواقع موقع الناطق الرسمي باسم القصر الملكي، وموقع والي على جهة مكناس تافيلالت، وموقع دبلوماسي بالولايات المتحدة الأمريكية، وموقع مؤرخ المملكة. وفي عبارة أخرى: مواقع السلطة والمنصب والجاه والشهرة. الكاتب في الواقع لا يدعو إلى هجرة مناصب السلطة؛ فإذا هجر كل منا موقع مسؤوليةٍ أُنيطت به فمن سيتحمل مسؤولية هذا الوطن؟ الكاتب يريد أن يقول بأن أصحاب المناصب العليا في المجتمعات العربية بحاجة إلى هجرة الأنانية.. هجرة المصالح الشخصية...لأن مثل هذه الهجرة تعبر عن حب الوطن والتفاني في خدمته. ويستطرد قائلاً: بأن زيارة مكة غيرت حياته، والشاهد على ذلك قوله: (ذلك الرواء غير حياتي رأساً على عقب/ لقد تحولت... وتحولت.. أصبح لحياتي معنى... (ص: 92 / 93)، وهو بذلك يتقمص القولة التي قرأها في دير الراهبة حريصا في أرباض بيروت: "لا ترحل عن هذا المكان إلى أن تتحول" (ص: 92).

لقد شكل عدم الاستقرار في الوظائف المخزنية التي أُسنِدتْ إليه (ناطق باسم القصر، دبلوماسي، مؤرخ المملكة، والٍ)، والمؤامرات التي يقول إنها حيكت ضده في الخفاء من أجل إقصائه من المخزن نوعاً من الوقود الممتاز الذي دفعه دفعاً باتجاه العودة إلى ذات المفكر الملتزم، والمثقف العضوي بتعبير أنطونيو ﮔراماشي، وبالتالي تغيير عقيدته إن صح التعبير. إن فترة التحول أو الانتقال هي دائماً فترة قلاقل واهتزازات واضطرابات ومقاومة. ولتعزيز هذه الفكرة صور الكاتب في النص بعض الأشخاص الذين قاوموه وأدخلوه في حيرة من أمره وحاولوا ثَنْيَهُ عن الطريق الجديدة التي ارتضاها، ومنهم الشاب الأمازيغي الذي يُكِن الحقد والكراهية للعرب والإسلام؛ حيث قال له: (عُدْ من حيث أتيت، وإن لم تفعل، فاجعل سفرك تجربة أكاديمية وكشفاً أنتروبولوجيا... ص: 136). ومنهم أيضاً الطفل العربي الذي يدعوه إلى العودة إلى متعه (ص: 138)، وكذا الرجل الضخم الذي بارزه (ص: 139).
 

خاتمة:
على ضوء ما سبق نستنتج أن السيرة الروائية "رواء مكة" تتضمن أجزاء من حياة صاحبها في الطفولة، وفي المدرسة المولوية، وتجربته مع السلطة، وأخيراً رحلة حجه التي كانت عودة للذات المؤمنة. وهي عبارة عن رحلة يطمح إليها كل مسلم ابتعد عن الإيمان لأسباب مختلفة. فكلنا بحاجة إلى تلك العودة، إلى التصالح مع الذات، إلى نقاء أرواحنا، وصفاء سريرتنا، إلى تجربة صوفية ليست بالضرورة بانتماء معين وطقوس محددة، وإنما بالإقبال على الله بصدق والوصول إلى مرتبة الإحسان… نحن بحاجة إلى الهجرة، الهجرة إلى الله من كل الأخطاء. في نهاية هذه الأسطر أودّ أن أقول إن السيد حسن أوريد، سواء كان ناطقاً رسمياً باسم القصر، أو كان مؤرخاً، أو كان والياً، أو كان أستاذاً للعلوم السياسية، أو كان مفكراً وأديباً، فإن الجرأة التي كتب بها سواء من حيث اعترافه بأخطائه، أو شجاعته على هجرة بعض المناصب الحساسة، أو هجرته لبعض التصرفات كشرب الخمر، هي جرأة نادرة … وستبقى روايته "رواء مكة" الخارجة من جبة الدبلوماسي والمؤرخ والوالي والناطق الرسمي باسم القصر الملكي سابقا، روايةً تسبر أغوار قضايا فكرية وسياسية واجتماعية ودينية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها