يظل الموت لغزاً محيراً ومصيراً محتوماً يحير البشرية في أعمق لحظات تأملها وبحثها عن معنى الحياة، وفهم أسرار الوجود؛ لهذا لا تكادُ تخلو ثقافة من الحديث عنه وعن آثاره مهما كانت موغلة في القدم، أو بعيدة عن التجريد؛ فقد ذكره المبدعون والشعراء وتغنوا متألمين من نهاية الوجود التي يخلفها "هادم اللذات ومفرق الجماعات"، أو متحدِّين لسطوته في شجاعة نادرة تنشد الخلود وتهزأ بتفاهة ما يسلبه منّا الموت، وعظمة ما يتركه للبعض من ذكر وخلود على مرّ العصور. ولا شك في أن الكتابة والحكاية والشعر والأساطير وغيرها من الإبداعات الإنسانية المتراكمة عبر التاريخ هي في حد ذاتها خط دفاع إنسانيّ عبقري في مواجهة هذا العارض الحتمي، ومواجهة ما قد يفرضه من خفوت الحيوات واندثارها جسدياً بعد قضائها فترة محدودة في العالم المادي المحسوس.
WIT ▲ المشهد الافتتاحي (مع إيما تومسون وكريستوفر لويد)
ولعل المشاهد لفيلم "Wit" (ظرافة) المقتبس من مسرحية حصلت على جائزة "البوليتزر" سنة 1999، ومن إخراج "مايك نيكولس"، وبطولة الممثلة البريطانية الشهيرة "إيما طومسون" سنة 2001، يكتشف المرارة المصاغة في قالب هزليّ ساخر حول الموت باستحضار مواقف قديمة ومعاصرة تمَّ صهرها في قالب واحد مبني على المواجهة؛ فهو يعدّ من أبرز الأفلام الرائدة في مجال المزج بين النّفس الكوميدي والنهايات التراجيدية؛ إذْ يدور حول أستاذة جامعية متخصصة في الأدب القديم، وبالضبط في أدب الشاعر الإنجليزي من القرن السابع عشر "جون دوون" (1572- 1631) عبر مسارٍ من الأحداث المكثَّفة، والأمكنة المحدودة تتراوح بين قاعة التدريس والمستشفى، حيث يهيمن الحوار وتفاعل الشخصيات أكثر من الحركة. ورغم ذلك لا يشعر المشاهد لهذا الفيلم المحدود من حيث الشخصيات والأحداث بالحاجة إلى تنويع الفضاءات والوقائع خاصة مع الأداء المتميز للبطلة، وقدرتها الفائقة على تجسيد شخصية دكتورة في الأدب مريضة بالسرطان في تفاعلها من بعض الشخصيات الأخرى المعدودة التي تحضر في الفيلم مؤثِّثة لهذا المشهد أو ذاك؛ إذْ إنّ الفيلم يركز بالضرورة على وضعية البطلة في تلك الظروف الخاصة التي تمثلها حالة المرض العضال في مراحله المتقدمة، ومجابهة الناقدة والأستاذة الجامعية للموت بسخرية لاذعة بالعودة إلى ثقافتها القائمة على خبرتها بالأدب الإنجليزي القديم، خاصة منه السوناتات المقدسة لـ"جون دوون"، وبالضبط قصيدة بعنوان: "أيها الموت لا تتبختر"؛ الأمر الذي يفضي إلى تساؤل ضمني ساخر أيضاً حول جدوى دراسة الأدب القديم، وفيما يفيد أن يكون المرء ناقداً وخبيراً بالنصوص القديمة، تقدم أحداث الفيلم إجابة سريالية عنه، وهي أن يجابه الموت بتفاؤل.

النظرة الساخرة وتحدي المرض:
احتلت المشاهد التي تُقارن بين النص الشعري الأساسي لـ"جون دوون"، ووضع البطلة في مواجهة مرض السرطان معظم الحيز الزمني للفيلم؛ ففي كل لقطة وكل تفاعل يتم استحضار هذه القصيدة ببنياتها العميقة حول مجابهة الموت بشجاعة، أو من خلال طرائق تدريسها لطلبة الأدب، مُسهمةً في بلورة تصور قائم على أن الحياه بتعقيداتها وإكراهاتها هي نوع من الانتصار على الموت، وخطوة نحو الخلود المعنوي، وبعد جديد في التغلب على رهبة الموت، خاصة في لحظات حرجة مثل التي تؤثثها المعاناة بسبب أمراض خطيرة تنهك الجسد، وتجعل الموت أحياناً حلًا وحيداً لا يمكن الاستغناء عنه للخروج من دوامة الألم.
على عتبات النهاية.. محطات للفرح والمتعة:
وقد أبدعت "إيما طومسون" في تجسيد هذه الشخصية بحرفية منقطعة النظير، واستطاعت أن تنقلنا من أجواء الحزن والأسى والألم إلى أجواء الكوميديا السوداء لتقدم نظرةً جديدة للموت بعيدة عن الألم وعن المعاناة المستمرة، مستخدمة أقصى درجات التحدي والثبات في مجابهة المصائب والكوارث المُلِمة بالإنسان في وضعية معينة. وهذا ما يقدم على المستوى الفني إبداعاً مضاعفاً، يحضر المستوى الأول منه في بنية النص الأصلي المسرحي، وحواراته الدقيقة، في حين تتوالى المستويات الأخرى في تقاطعات المشاهد السينمائية والإبداع الشعريّ والتاريخ الأدبي في تمازج ذي نكهة خاصة، تجعل مشاهدة الفيلم توازن بين بُعديه الإنساني البسيط والدلالي العميق.
وفي خضمّ تحدي الإنسان للموت، ينتهي الفيلم بموت اختياري عندما ترفض المريضة استكمال العلاج، وهو ما يمثل رؤية قائمة على التحدّي الذي يجسّده نص الشاعر الأنجليزي "جون دون"؛ فالموت لحظة خوف واضطراب ورعب؛ لكنه في النهاية لا يعدو أن يكون نقلة يتلاشى بعدها الموت ويموت، ليحيا الإنسان بعد هذه اللحظة الفارقة، كما تقرر الأسطر الختامية في القصيدة:
بعد نوم قصير، نستيقظ إلى الأبد
ثم لا يكون بعد ذلك موت
أيها الموت، ستموت.

القراءة والخيال الطفولي:
بهذه الختمة المتفائلة، ينتهي الفيلم بلغة ساخرة ونبرة متحدية تؤمن بمرحلية الفناء المؤقت الذي يسمى موتاً؛ فهناك ما يتفوق على الموت لا الميت الذي يعاين التجربة مباشرة، بل أيضاً بالنسبة للآخرين الذين يجدون في آثار الميت وتركته الفكرية والثقافية سبيلاً لاستحضاره وتذكره. فـ"جون دون" الذي مات منذ قرون استطاع أن يخلد في ذاكرة البشرية بنص عن الموت، وكذلك استلهمت بطلة الفيلم التحدّي الذي تعبر عنه نبرة القصيدة لتصارع المرض، وتتحدى بدورها الموت في سخرية سوداء تقلل من رهبته المزعومة؛ فهو ليس أكثر من غفوة سريعة يختفي بعدها من حياة الشخص وقاموسه إلى الأبد.
تحقيق هدف فني مزدوج حيث: التراجيديا والكوميديا في عمل واحد، يعطي السبق للمرح على الحزن. ولعل الذي ساهم في نجاح فيلم بهذا التعقيد الدرامي، حيث الصراع بين الحياة والموت في أقصى تجلياته ثالوث: النص الجيد، والمخرج المتمكن، والممثل المتشرب لأبعاد الشخصية. كما أسهم استدعاء قصيدة لشاعر وازن في منح الفيلم عمقاً خاصّاً عبر تعدد الأصوات المشاركة في الصراع بدْءًا بصوت "جون دون" نفسه مباشرة في سوناتته، ووصولا إلى صوت الناقدة عالمة الأدب، وهي تحلل هذه السوناتة بحرص يصل إلى التدقيق في أهمية النقطة والفاصلة، وخدمتهما لجوهر النص وامتدادته القرائية، ثم صوت الشخصية وقد قررت خوض التحدي والصراع مع الموت بعد علمها بإصابتها المتقدمة بالسرطان، وتضاؤل فرص نجاتها. ليكون بذلك بمثابة محطة تقييم لحياة أكاديمية ناجحة، وحياة اجتماعية متذبذة قبل الرحيل الكبير.
لكن المخرج، لم ينس وهو يحرك عجلة الانتقاد أن يمررها على كثير من الظواهر الاجتماعية المصاحبة، خاصة في فضاءات الصّحة العمومية ووضعية التطبيب المزرية، واستهتار المنظومة الغربية، وقلة اكتراثها بالشخص المريض مرضاً عضالا، وكأنها -بعد أن تكون قد استنزفت جهده وحياته- يصبح -في نظرها- موضوعاً متلاشياً، تنتظر التخلص منه للالتفات إلى الأحياء الكائنات التي تحمل طاقات قابلة للاستغلال حتى الاستنزاف مرة أخرى.
وعموماً؛ فإن فيلم "wit" ليس الأول ولن يكون الأخير الذي يتطرق لتيمة الموت، غير أنه استطاع أن يحقق سبقاً فنياً جميلاً وهو يفلسف الخوف من الموت، ويفرغه من تراجيديته الحالكة، ليقدّمه بوصفه تجربة كباقي التجارب الإنسانية لها قوّتها اللحْظية التي تختفي بزوالها، والانتقال عبره إلى عالم آخر منظوراً إليه من زوايا الشعر والمسرح والسينما نظرة تنزع عنه مخالبه الرهيبة، وتحيله فرصة متاحة للتفوّق على الذات وتحقيق الانتصار على الخوف والألم.