ساهمت التأثيرات الثقافية والاجتماعية التي نقلها الخوارج والمرابطون إلى السودان الغربي، خلال القرنين 8 و11م الموافق 2 و5هـ، في تمتين الدين الإسلامي بالمناطق الجنوبية للغرب الإسلامي. فجاءت هذه المقالة كاشفة عن بعض الجوانب الثقافية والاجتماعية للحضارة الإسلامية والعربية في السودان الغربي، منذ القرون الأولى لدخول الدين الإسلامي للمنطقة الشمالية لإفريقيا، وذلك مع حكمين إسلاميين في المغرب الإسلامي، الإمارات الخارجية والمرابطين.
قسمنا المقال إلى شقين، عالجنا في الشق الأول الآثار الثقافية والاجتماعية التي نقلها الخوارج إلى بلاد السودان الغربي، وقدمنا في الشق الثاني دور المرابطين أيضاً في نقل هذه الآثار الثقافية والاجتماعية، إلى جانب الاستنتاجات والخلاصات في خاتمة المقال.
انطلقنا من إشكالية رئيسة، تتعلق بأولى التأثيرات الثقافية للغرب الإسلامي في منطقة السودان الغربي، فحاولنا البحث عنها جاهدين، لبناء تاريخ مشترك لحضارة إسلامية إفريقية واحدة.
إن انتشار الآثار الثقافية للمسلمين في بلاد السودان تعود أصولها إلى انتشار الإسلام بشمال إفريقيا وامتداده نحو الجنوب، مما ساهم في بناء منظومة ثقافية واجتماعية أصبحت مرتبطة بالشرق الإسلامي.. فبدأ الإسلام مع طلائع الجيوش العربية وفتحها لبلاد البربر، كما نعتت هذه الشعوب في المصادر العربية التي تحدثت عن أحداث الفترة المدروسة.
سنعالج في هذا المقال انتشار المؤثرات الثقافية والاجتماعية للإسلام، مع كل من الخوارج والمرابطين في بلاد السودان.
بداية الحديث، واعتباراً لما نراه وتوطئة؛ فإن الثقافة العربية –حسبنا- جزء لا يتجزأ من الثقافة الإسلامية والعكس صحيح، فالمسلم في جانب منه له ثقافة عربية، وإن لم يكن عربياً والعربي في جانب منه له ثقافة إسلامية وإن لم يكن مسلماً، ومن هذا فإن انتشار الإسلام في بلاد السودان، صاحبته مؤثرات الثقافة العربية، وكذا آثار النظم الاجتماعية للإسلام، الذي كان قد وضع لنفسه مكاناً في شمال إفريقيا، بداية من القرن 7م، وتبقى أولى المؤشرات عن حركة الإسلام إلى الجنوب هو وصول طلائع عقبة بن نافع إلى (كادارا) 46هـ/666م.
وكما يعتقد، فإن الطريق التي سلكها عقبة هذه، كانت تربط بين "طرابلس" و"كانم"، واستمرت فيما بعد، لتكون قناة لتدفق التأثر الإسلامي من "كانم" إلى "برنو"، إلى مناطق أخرى من السودان الأوسط1،غير أن أولى الاتصالات الحقيقية تزامنت وتأسيس ممالك خارجية مستقلة عن الخلافة الأموية في بلاد المغرب، فالخوارج لهم السبق في ربط العلاقات الأولى مع السودان في إطار التجارة، وأنشطة الدعوة مع هذه البلاد، وذلك منذ القرن2ه/8م2.
أولاً: السودان الغربي في ظل إمارات الخوارج بالغرب الإسلامي خلال القرن 10م/4هـ
كان للخوارج دورٌ مؤثرٌ في المنطقة، بل يعدون حقيقة، أول من ربط علاقات مع شعوب جنوب الصحراء، خاصة المذهب الإباضي، فبعد أن فرّ الخوارج إلى بلاد الغرب الإسلامي هرباً من النزاعات والصراعات التي كانت قائمة في المشرق، وجدوا ضالتهم في بلاد المغرب، التي نقلوا من خلالها الآثار الثقافية والاجتماعية للإسلام نحو السودان. وتتمثل بعض آثار وجود الخوارج في بلاد السودان في:
◂ عمل أئمة الخوارج في مجال التجارة، وما نتج عنه من تقوية روابط المودة، ووشائج الصداقة مع السودانيين، ويذكر محمود إسماعيل هذا في كتابه "الخوارج في بلاد المغرب"، حيث يذكر اشتغال مجموعة من الأئمة في التجارة مع هذه البلاد أمثلة: محمد أفلح بن عبد الوهاب، وأبي اليقظان محمد بن أفلح، وأبي يوسف بن محمد3.
يستنتج من هذا، أن الخوارج استطاعوا أن يخلقوا نوعاً من التفاعل الحضاري مع شعوب الصحراء، وذلك في إطار علاقات تجارية متبادلة، ساهمت في اختلاط الرعايا كما يذكر محمود إسماعيل في كتابه "الخوارج في بلاد المغرب" [ص: 282].
◂ استقرار أقليات من الأفارقة والسودانيين في بلاد المغرب، وهناك من اعتنق منهم الإسلام4.
◂ المعمار الديني في السودان، فأشكال المآذن في السودان، مأخوذة أصلاً من جنوبي تونس، وكذا المنابر المستطيلة فهي نسخة عن منابر المزاب، المركز الرئيس للإباضية بداية من القرن 4ه/10م5.
◂ التراث الإباضي، وبالضبط أسطورة "دورا"، المستمدة من تراث الهوسا، التي تروي قصة شخص يدعى آبا يزيد (أو بايجيد)، ويبدو أن هذه الأسطورة لها صلة بالقائد الشهير لثورة الخوارج ضد الفاطميين6. بل أكثر من هذا؛ فإن شعب الهوسا يتناقل أساطير كثيرة تعود بأصول بعض الأسر إلى أصول عربية، وتؤكد هذا بعض المأثورات الشعبية التي ترويها الأجيال، وفي هذا الصدد يقول أحد الباحثين: "حتى ولو ثبت أن تلك الحكايات لا تمت بصلة أبداً إلى حقائق التاريخ السياسي، إلا أنه رغم ذلك، فهي حقائق ثابتة بالنسبة للتاريخ الفكري"7.
◂ القيام بأنشطة الدعوة واستقرار بعض علماء المذهب الخارجي في السودان، كما تميز الإباضيون بالأخلاق ومسارعتهم إلى الخير. من هذا، ساهم الإباضيون في وضع البذور الأولى للثقافة الإسلامية بهذه الربوع8.
هكذا عبّر نشاط الخوارج في السودان، بكونه بداية الانفتاح الإفريقي السوداني على ثقافة الإسلام المتمثلة في ثقافته العربية وأسسه الاجتماعية، فعبر الخوراج عنها في معاملاتهم التجارية، وأسلوبهم المعيشي، فتركوا آثاراً مهمة، تطرقت لها بالتفصيل والتحديد كتب الطبقات الإباضية كالدرجيني وغيره... وعموماً أدى الخوارج دوراً مهماً في نشر الإسلام، ونقل تأثيراته الثقافية إلى بلاد السودان، غير أن سقوط دولتي الخوارج (الرستميون وبنو مدرار) على أيدي الفاطميين سنة 297ه/909م9، شكل منعطفاً لتقلص دور الخوارج في بلاد السودان ليفسحوا المجال لقوة إسلامية صاعدة وهم المرابطون، الذين سيقومون بدور هام في علاقتهم مع بلاد السودان بتمكنهم من التغلغل في تلك البلاد كقوة سياسية فاعلة، تركت بصمتها الاجتماعية والثقافية في المنطقة. فما التأثيرات الثقافية والاجتماعية التي واكبت حضور المرابطين في السودان؟
ثانياً: السودان الغربي إبان حكم المرابطين بالغرب الإسلامي خلال القرن11م/5هـ
نبدأ بخريطة، تمثل منطلق الحركة المرابطية10، وتوسعاتها خلال القرن 11م/5هـ:

شكل دخول المرابطين إلى عاصمة غانة سنة 469ه/1076م11، البداية الحقيقية لتبلور الإسلام في السودان، وبداياته في هذه المناطق، ارتبط بشكل أكثر بالمدن، في حين ظلت الأرياف بعيدة شيئاً ما عن التأثير الإسلامي12، وبالتالي الـتأثيرات الثقافية للإسلام. منه نستنتج أسباب تلك التباينات بين الشريعة الإسلامية، وبعض الممارسات المحلية، فالأمر كان يتعلق بالضبط بطبيعة مدى الاحتكاك بالإسلام، الذي كان قوياً في الحواضر على عكس القرى. ويبقى آثار المرابطين في مملكة غانة، شواهد لمساهمة هذه الإمبراطورية في خلخلت النظم الاجتماعية التقليدية في السودان. فاعتناق هذه الشعوب للإسلام غيّر ملامح المنطقة، لتعيش على وقع دخول الإسلام القادم من الشمال، فكان من الضروري أن يحمل معه ثقافة المرابطين التي تتمظهر تأثيراتها في نواحي عديدة:
◂ على مستوى اللباس يذكر القلقشندي: "يرتدون عمائم بحنك مثل المغرب، وبملبسهم شبيه بلبس المغاربة، جلباب ودراريع..."13. مما يعكس مدى التأثر الذي أوقعه المغاربة في أهل السودان.
◂ على المستوى العلمي والمذهبي انتقلت المدرسة المغربية والكتابة المغربية، بل والكتب المغربية وحتى مناهج التعليم فهي نفسها، كما أن السودانيين تأثروا بتعاليم ابن ياسين المالكية من التشدد في الدين وأداء فروض الشريعة14، من جهة أخرى ساهم امتزاج التقاليد الإسلامية التي حملها المرابطون مع التقاليد الزنجية المحلية في ظهور تقاليد إسلامية ــ زنجية، حيث انعكس هذا بشكل واضح في حياة الملوك والرعية، بل وقد أدى تأثر السودان بالحضارة العربية الإسلامية، أن ادعت بعض الأسر الحاكمة انتسابها إلى الأصول العربية وآل البيت، فملك غانة مثلاً كان ينسب نفسه إلى ذرية صالح بن عبد الله بن الحسن، بن الحسن بن علي ابن أبي طالب15، وهذا إن دل على شيء فيدل على مدى الآثار الكبيرة للحضارة العربية الإسلامية في بلاد السودان، كما ستعرف المراكز التجارية في عهد المرابطين ازدهاراً مهماً، حيث أصبحت مراكز للإشعاع العلمي والثقافي مثل: أودغست التي وصفها البكري في كتابه "المغرب في ذكر بلاد أفريقية والمغرب" [ص: 158] بكونها:
"مدينة زاهرة ويتألف سكانها من العرب والبربر والسودانيين، وكانت تحيط بها البساتين والنخيل، وفيها مساجد كثيرة آهلة، وكان بهذه المساجد المعلمون لتعليم القرآن الكريم، والسنة وتعاليم الإسلام"، وأوكار عاصمة غانة التي تضم اثني عشر مسجداً، وعند استيلاء الأمير أبي بكر بن عمر عليها سنة 1076م/476ه، ألحق بكل مسجد مدرسة لتعليم القرآن، وقواعد الدين واللغة العربية.. ثم مدينتي "جنى"، و"تمبكتو"، حيث أصبحت اللغة العربية لغة العبادة والتجارة16.
هكذا أثر الدخول العسكري للمرابطين إلى مملكة غانة في القرن 11م/5ه، في الثقافة السودانية والأفريقية، ونقلوا مجموعة من القيم والمبادئ الجديدة إلى الجنوب، غدت في الفترات اللاحقة جزءاً لا يتجزأ من المنظومة الثقافية والاجتماعية لشعوب السودان، على الرغم، من أن هذه البلاد ستخرج عن سيطرة المرابطين، وما بعدهم من العصبيات التي حكمت الغرب الإسلامي، لكن بلاد السودان كانت قد غرفت من هوية الحضارة الإسلامية والعربية وباتت ترفع رايتها.
هكذا ساهم كل من الخوارج أولاً، ثم المرابطين ثانياً في بناء أسس جديدة للحضارة في القارة الأفريقية، خاصة في بلاد السودان، فنتج عن اتصالات الخوارج بهذه الشعوب، بأن انفتحت على قيم الحضارة الإسلامية وركائزها التي ما فتئت أن أصبحت من حضارة وثقافة الأفارقة، الذين أخذوا بها واستزادوا ما يميزهم فيها، بينما شكلت دعوة المرابطين وحضورهم السياسي القوي في القارة، إشعاعاً مهماً عكس قوة المسلمين، مما سهل رؤية تعاليم هذا الدين الإسلامي، فدخل المرابطون إلى غانة وهم حاملين لثقافة جديدة ونظم اجتماعية، سرعان ما تغلغلت في ذوات الأفارقة الذين ارتضوا بها كثقافة الحضارة والعلم آنذاك، فكانت ضرورة وليس خنوعاً، أن يأخذ الإفريقي من هذه الثقافة التي احتوته وتقاليده التي ترسخت معه. فتقوت العلاقات الثقافية والمجتمعية بين الغرب الإسلامي، والسودان التي كانت بدايتها مع نشاط الخوارج منذ القرن 2ه/8م، لتزداد قوة مع المرابطين خلال القرن 5ه/11م، وتستمر مع التاريخ لغاية الغزو الأيبيري والاستعمار الحديث الأوربي، الذي قوض أركانها، وأسس لعلاقات ثقافية قائمة على التبعية الاقتصادية.
على سبيل الختم؛ نخلص إلى أن بداية التأثير الثقافي والاجتماعي لبلاد الغرب الإسلامي في السودان الغربي، جاء منذ أن استطاعت البلاد المغربية أن تستقل عن الخلافة في الشرق، فحاولوا أن يؤسسوا لعلاقات ثقافية واجتماعية جديدة مع مجتمعات الجنوب الإفريقي.
كانت المماليك الخارجية أولى الكيانات السياسية التي استطاعت أن تتوغل جنوب الصحراء وإلى بلاد السودان، واستطاع هذا المذهب العقدي، أن يربط علاقات متينة مع شعوب منطقة السودان، حملوا من خلالها آثار الإسلام الخارجي للسودان.
استطاعت الشعوب السودانية أن تماهي الآثار الثقافية والاجتماعية لهذا الوافد الديني الجديد مع الأعراف الإفريقية، فيما استطاعت الحركة المرابطية خلال القرن 11م/5ه أن تؤسس للمالكية في السودان الغربي، وأن تعمق هذا التيار، وتنقل الآثار الثقافية والاجتماعية إلى بلاد السودان في نسختها المغربية المالكية، خاصة بعض دخول غانة سنة 1076م.
الإحالات: 1. عبد السلام ابو سعد، العلاقات الثقافية بين الشعوب الأفريقية وأثر الإسلام واللغة العربية في ترسيخها، ضمن ندوة: التواصل الثقافي والاجتماعي بين الأقطار الأفريقية على جانب الصحراء، مراجعة وتقديم: عبد الحميد عبد الله الرمة، كلية الدعوة الإسلامية، طرابلس، ص: 1. ┊ 2. محمد الفاسي وإبن هربك، مراحل تطور الإسلام وانتشاره في أفريقيا، ضمن كتاب: تاريخ أفريقيا العام، المجلد الثاني، اليونسكو، ص: 90. ┊ 3. محمود اسماعيل عبد الرازق، الخوارج في بلاد المغرب، دار الثقافة، ط:2، 1985 ص: 282. ┊ 4. نفسه. ┊ 5. محمد الفاسي وإبن هربك، مرجع سابق، ص: 91. ┊ 6. نفسه ┊ 7.عبد السلام أبو سعد، مرجع سابق، ص: 18. ┊ 8. المرجع نفسه، ص: 470. ┊ 9. محمود اسماعيل، مرجع سابق، ص: 283. ┊ 10. كولين ما كيفيدي، أطلس التاريخ الأفريقي، ترجمة: مختار السويفي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1987، ص: 84. ┊ 11. أحمد شكري، الإسلام والمجتمع السوداني: إمبراطورية مالي، المجمع الثقافي، ط:1، أبوظبي، 1999، ص: 98. ┊ 12. المرجع نفسه، ص: 115. ┊ 13. القلقشندي، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، بيروت: 1987، ج: 5، ص: 281. ┊ 14. عصمت عبد اللطيف دندش، دور المرابطين في نشر الإسلام في غرب أفريقيا، دار الغرب الإسلامي، ط.1، 1988، ص: 148.┊ 15. المرجع نفسه، ص: 148-150.┊ 16. نفسه، ص: 157-160.