منارة رأس سبارطيل بطنجة

عندما يجتمع التاريخ بسحر البحر

د. أحمد سوالم



طنجة؛ مدينة البوغاز وعروس الشمال، منها انطلق ابن بطوطة في رحلاته، ومن تفاصيل حياتها خرجت شخوص "الخبز الحافي" لمحمد شكري، وفي عشقها وقع بول بولز. طنجة متميزة في كل شيء، في جمالها وإطلالتها الأطلسية والمتوسطية، وفي مرج البحرين، في بهاء حدائقها وطيبوبة ناسها.. صباحاتها ليست ككل الصباحات، ومساءاتها تختلف عن كل المساءات، ولياليها سفر في المتعة في أبهى حللها.


طنجة المغربية متميزة في كل شيء، في تاريخها وحكايات مآثرها. مدينة إذا سكنتها سكنت قلبك وتربعت فيه، وإذا زرتها وتجولت بين دروبها تحولت من عابر إلى مستقر. كيف لا وأنت في مدينة بميسم دولي، تاريخها متعدد الأبعاد، بقايا وآثار المدينة المتعددة الروافد شاهدة على ذلك، حيث تبرز العمارة المغربية الأصيلة، والطابع الأندلسي الذي حمله المورسكيون الوافدون على المدينة، والطابع الأوروبي في أحايين كثيرة، كيف لا وهي عاصمة الدبلوماسية والقناصل. وأنت في طنجة، سترى السحر والجمال بعينه، حيث الحدائق والمنتزهات الغناء، والطابع الجبلي للمدينة، وزرقة شواطئها وروعتها، يزيدها هدوء المتوسطي جمالا وحسناً.

زرت المدينة العتيقة ودروبها وقصبتها ومدينتها العصرية بشوارعها وإضاءتها الجميلة، والعناية بعشبها وشجرها. زرت حكاية مغربية بأسطورة يونانية في مغارة هرقل، وحديقة برديكاريس، وقصره الذي يحتفي بصاحبه وبغابة الرميلات، وسور المعكازين ذي الحكايات المتنوعة. وزرت السفارة الأمريكية التي أقيمت على أرض أهداها السلطان مولاي سليمان الأول سنة 1821 للولايات المتحدة الأمريكية، والتي تعد أقدم مقر دبلوماسي أمريكي في العالم، والمعلمة التاريخية الأمريكية الوحيدة التي تقع خارج الولايات المتحدة الأمريكية، وهي الآن عبارة عن متحف يحتفي بعلاقات أمريكا بدول المغرب العربي.

إلا أن مقالنا هذا، سيركز على معلمة تاريخية تحتضنها مدينة طنجة، ذات موقع استراتيجي، وإطلالة ساحرة على الغابة والبحر والجبل، معلمة مختلفة في تفاصيلها وتاريخها وحكايتها؛ إنها منارة رأس أو كاب سبارطيل، أقدم منارة بحرية بالمغرب وإفريقيا. فما خصوصية موقعها؟ والسياق التاريخي لبنائها؟ وأهم الأحداث التاريخية لتي عاشتها؟

سبارطيل: سحرُ الموقع وسِياق البِناء

تقع منارة رأس سبارطيل في أقصى الشمال الغربي لمدينة طنجة المغربية، فوق نتوء صخري مرتفع عن سطح البحر بـ95 متراً، وبرج يصل علوه 25 متراً، في أقرب نقطة إفريقية لأوروبا، حيثُ تلتقي أمواج البحر الأبيض المتوسط بمياه المحيط الأطلسي، ما أكسبها أهمية في مجال التشوير البحري والتجارة الدولية.

وتم بناؤها خلال النصف الثاني من القرن 19، المتسم بتطور الملاحة والتجارة العالمية، والتحديات الجيوسياسية للقوى الإمبريالية المتنافسة حول المغرب. ففي سنة 1852، ظهرت فكرة بناء المنارة، إلا أن ذلك لم يتم إلا بعد غرق البارجة التعليمية البرازيلية "دونا إيزابيلا" سنة 1860، والتي اصطدمت بأجراف قرب رأس سبارطيل، وذهب ضحيتها 250 تلميذاً ضابطاً برازيلياً، لتنطلق عملية البناء سنة 1861، بناءً على طلب الهيئة الدبلوماسية بطنجة للسلطان محمد بن عبد الرحمن، وأشرف على تصميمها المهندس الفرنسي فرانسوا ليبولس رينو، وتم بناؤها بتمويلٍ مغربي وبأيادٍ مغربية، ودام بناؤها ثلاث سنوات، حيث أضاء نورها طرق السفن المارة من سواحل طنجة في 15 أكتوبر 1864.

منارة رأس سبارطيل ليست مجرد منارة عادية للتشوير البحري، بل تختصر جزءاً من تاريخ المغرب والمتوسط في علاقته مع القوى الأوروبية، فمكان بنائها كان مسرحاً للعديد من الأحداث المأساوية والمعارك بين الدول ومنها، غرق القرقاطة التعليمية "دونا إيزابيلا" سنة 1861، وغرق سفينة "س س دلهي" في دجنبر 1911، بعد جنوحها بسبب الضباب.

كما عاش الموقع العديد من الحروب، كحرب الخلافة الإسبانية، ففي سنة 1704 تعرض أسطول إنجليزي قبالة رأس سبارطيل بقيادة نائب الأميرال "توماس ديلكس" لسفينتين حربيتين هما "بورتا كولي" و"سانتا تيريزا" بـ60 مدفعاً، وكانت ترافقهما سفينة "سان نيكولا" المزودة بـ24 مدفعاً، ودامت هاته المعركة حوالي سبع ساعات تم خلالها الاستيلاء على السفينتين العسكريتين.

كما احتضنت السواحل القريبة لرأس سبارطيل كذلك، معركة بين السفن البريطانية، والسفن الفرنسية الإسبانية خلال حرب التحرير الأمريكية بتاريخ 20 أكتوبر 1782، والهدف من هاته المعركة بالنسبة لبريطانيا هو الحفاظ على الإمدادات نحو صخرة جبل طارق، وأما إسبانيا فكان هدفها هو استرجاع جبل طارق ومينوركا من أيدي البريطانيين الذين كانوا يستولون عليه منذ 1704.

ومن المعارك التي عرفها الموقع، معركة رأس سبارطيل التي دارت في 29 شتنبر 1936 خلال الحرب الأهلية الإسبانية بين سفينتين قوميتين، وبين سفينتين تنتميان إلى الجانب الجمهوري. فالحوادث والمعارك التي عرفها رأس سبارطيل، تختصر جزءاً من تاريخ المغرب البحري وعلاقته مع دول حوض البحر الأبيض المتوسط، خلال القرن 19 وبداية القرن 20، وصراع القوى الكبرى عليه.
 

معمار فريد

اكتسبت منارة رأس سبارطيل أهمية في تاريخ المغرب، لموقعها القريب من أوروبا ولأهميتها كتراث بحري. وتتميز هندسة المنارة المعمارية، بشكلها المستوحى من العمارة المغربية الأصيلة، يتجسد ذلك في ارتفاعها ووضعيتها المتعامدة بشكل حاد مع أفقية البحر، كما أن المبنى مصمم على شكل مئذنة مربعة ذات قاعدة عريضة نوعاً ما شبيهة بمآذن المساجد والجوامع المغربية، أما علو البرج فيصل 30 متراً مزوداً برواق مزخرف ومصباح.

وتحتوي المنارة على سلم حلزوني مكون من 101 درجة، ومقبض أدراج من خشب الأكاجو الداكن الذي كان يغلب على الأثاث والديكور الأوروبي خلال القرن 19، يوصل إلى مصباح المنارة المكون من نظام بصري.

وتم الاحتفاء بها على الصعيدين الوطني والدولي، فرسم صورتها موجود في العملة الوطنية من فئة 200 درهم، وعبر إصدار طوابع بريدية خاصة بها كالطابع البريدي الذي يخلد للذكرى 150 على بنائها. أما دولياً، فحازت على جائزة المنارة التراثية لسنة 2023 من قبل الجمعية الدولية للتشوير البحري، وهي المنارة العربية والإفريقية الأولى والوحيدة الحائزة على هذا التتويج، لتوفرها على معمار فريد، وصيانة دائمة ومتاحة للزيارة لعموم المواطنين.

نافلة القول؛ تعد منارة رأس سبارطيل من المعالم التاريخية المهمة بمدينة طنجة المغربية، قامت بدورها في التشوير البحري في الماضي وما زالت تقوم به إلى اليوم، أضاء نورها طريق سفن البحر الأبيض المتوسط في الماضي والحاضر وسيواصل ذلك في المستقبل.. وتعد من المزارات السياحية المهمة التي تساهم في الرواج السياحي لمدينة البوغاز، لذلك وجب العناية بها كتراث وطني ودولي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها