واقع الكتابة للأطفال في المشهد الثقافي العربي..

وآفاق تطويره

عبد المجيد إبراهيم قاسم


يثير واقع الكتابة الإبداعية للأطفال؛ في البلدان العربية مجموعةً من الأسئلة المفتوحة: هل يمكن اعتبار كلّ ما يُكتب للأطفال أدباً مناسباً لهم؟ أو إدراجها جميعاً تحت مسمى أدب الأطفال، أم هو الذي يقرؤونه وينجذبون إليه؟ ثم هل تمكَّن كُتّاب الأطفال من الالتزام بخصائص الكتابة الحقيقية؟ وإلى أيِّ حدٍّ انسجمت كتاباتهم مع مُعطيات عالم الطفولة، واتفقت مع اعتبارات أدب الأطفال؟ كاتبة الأطفال العالمية جان مارك، التي استطاعت أن تجمع نماذج من القصص المكتوبة للأطفال على مدى قرنين ونصف، أجابت عن بعض تلك التساؤلات، حين قالت في مقدَّمة الكتاب الذي أصدرته جامعة أكسفورد، وأشرفت على تحريره1: (إن البحث في أرشيف القصص المكتوبة للطفل؛ يمكن أن يثبت أن كتّاب الأطفال كانوا معلميّ الأخلاق, موجِّهين مثيرين للضجر.. إن الاعتقاد بأنَّ الذين يكتبون للأطفال يفعلون ذلك لأنهم فقط لا يملكون الأدوات الكافية للكتابة للكبار، كان ولا يزال سائداً).
 

إذ يُشير هذا الواقع إلى نقص نوعي كبير في الكتابة التي تحترم الطفل وتقدِّر إمكاناته، الكتابة التي تنمّي فكره وخياله ومداركه، وتسمو بذوقه وحسّه الجماليّ، فيقول حسن عبد الله2: (كتّاب هذه القصص -ويعني قصص الأطفال- يستقيمون أمام الطفل القارئ كمعلمين صارمين، وكرواة مضجرين، فكيف نأمل أن تساعدنا مثل هذه النصوص الجافّة التي تملأ المجلات والكتب في تكوين ذوق أدبي لدى الطفل؟ إنّ ولداً يدخل عالم الأدب من هذا الباب سوف يعاني طويلاً في المستقبل من أجل التخلُّص من الآثار السلبية لهذه النصوص).

ويذهب العديد من النقّاد والدارسين في هذا المجال إلى وجود هوّة كبيرة في البلدان العربية بين الأطفال، وبين ما يُوجّه لهم من الأدب، فالكثير من التجارب تنأى عن خصائص أدب الأطفال الحقيقية، وتفتقر إلى مقوّماته واعتباراته التربوية والنفسية، فترى المضمون قلّما يلبّي احتياجات الأطفال، والأهداف كثيراً ما تكون بعيدة عن الواقع، والشخصيات مشبّعة بالعواطف والمشاعر الحماسية، والغاية تدور في فلك التعليم والتهذيب، أما الأساليب -فغالباً- ما تكون جافَّة ومقيِّدة، لا تناسب مستويات الأطفال اللغوية، أو تميِّز بين فئاتهم العمرية، وترزح تحت وطأة الإنشاء والإرشاد، ناهيكم عن تقليدية الاتجاهات الفنية في الأعمال المقدَّمة، وقلة الاهتمام بالشكل الفنيّ، وضعف الاهتمام بإخراج الكتب والقصص، والملاحظ أيضاً قلّة الاهتمام بباقي أجناس أدب الطفل -كالرواية مثلاً- لصالح القصة، التي يتم الاعتماد فيها كثيراً على الحكايات الشعبية، مع غياب واضح لأشكالها الحديثة كقصة الخيال العلمي.

ومن مشكلات الكتابة للأطفال: قلة الاطلاع على التجارب العالمية، والمستويات التي وصلت إليها في هذا المجال، وحتى في إطار الترجمة فإن -تجاربنا- لا تزال محدودة، تعتمد في كثير منها على كتابات تحمل أفكاراً مستوردة، لا تحاكي بيئة الطفل العربي ولا تناسب طبيعة مجتمعه. يقول نزار نجار3:
(لقد اختلطت الأوراق فعلاً، فهناك من الكتّاب من يميل إلى التسطيح لا العمق، وهناك من يخلط بين العمق والتعقيد، أو ينظر إلى عالم الأطفال على أنه عالم ساذج، ينبغي أن يُقدَّم له الطعام سائغاً دون جهد، وهناك من يلحُّ على موضوع القيم دون مراعاة لما يثير وجدان الأطفال ويطلق خيالهم، ويخاطب عقولهم).

إنَّ الكثير من القصص لا تزال تتعامل مع الأطفال بسذاجة، والشعر ما زال ركيكاً، مقيِّداً للخيال، والمسرح أقرب ما يكون إلى التهريج منه إلى مسرح تربوي ذي فائدة، فيقول وليد مشوّح في معرض حديثه عن واقع حال أدب الطفل في سورية، وهو واقع عامٌّ بغالبيته4: (الشعر الذي ينشر للطفل؛ شعرٌ -على غالبيته- منظومٌ، مموسق، سطحيٌ، ساذج، فيه رخاوة تدلُّ على عدم معايشة التجربة والوصول إلى كمالها، والقصة ليست أفضل حالاً من الشعر، حيث بقيت في أجواء أرنوب وثعلوب والشجرة الباكية، والطير الجريح، وقد حاول كتّابها أن يوصلوا هذه الشخصيات المكرورة إلى الطفل عبر حوار ساذج مع ظلال شاحبة من خيال جدُّ بسيط، أما المسرحية الطفلية فهي مجرد تهريج لإضحاك الطفل، وغاياتها مباشرة يحملها حوار ساذج مكرور، وتؤديها شخصية مسرحية تنْزل إلى مستوى الطفل لفظاً وتصرُّفاً).

بالإضافة إلى مشكلات أخرى يعانيها أدب الأطفال، كمشكلات النشر والتسويق، وارتفاع أسعار الكتب، وندرة الدراسات في هذا المجال، وقلة الاهتمام بالكتّاب وتشجيعهم، إلى آخر الأسباب التي تقود إلى ركود حركة الكتابة وضعف تطوّرها.

بالنظر إلى المعطيات السابقة، وإزاء هذا الواقع الذي يعانيه المشهد الثقافي العربي، كان لا بد من مجموعة آليات، يمكن -من خلالها- توجيه العمل في مجال الكتابة للأطفال، ورفع مستوى الأداء فيه، والدفع بمسيرته إلى الأمام، وأهمها:
1. الاهتمام الحقيقي بهذا النوع من الأدب، والإرادة القادرة على اعتماده كمنهج أساسي في العمل الثقافي.
2. تشجيع العمل في مضماره تأليفاً وترجمةً وإعداداً، ومضافرة جهود المؤسسات التربوية بما يحقّق الأهداف المنشودة في نشره.
3. اتخاذ خطوات عملية لإدخال أدب الأطفال في التعليم الجامعي ومعاهد التعليم المتوسط.
4. اعتماد استراتيجيات علمية واضحة، بهدف رفع مستوى ما يكتب للأطفال ويوجّه إليهم.
5. تشجيع الأدباء والكتّاب والرسّامين وغيرهم، وتوفير حوافز تحثُّهم على العمل في مجاله والتفرُّغ له.
6. تشجيع الدراسات والأبحاث النقدية الجادّة، التي تشتغل وفقاً للمعايير التربوية والنفسية والفنية الحديثة لأدب الأطفال.
7. دعم الأبحاث التي تتناول سيكولوجيا شخصية الطفل، بهدف إنتاج أدب يلائم خصوصية الطفولة ويساير طبيعتها المتفردة.
8. الاستفادة من التجارب العالمية الرائدة، ذات الطابع الجيد، والسعي لمعرفة الجديد من الأعمال والدراسات، وتشجيع الترجمة في مجال أدب الأطفال.
9. إقامة المسابقات، وتخصيص جوائز على مستويات رفيعة لأفضل النتاجات في مجالاته.
10. استغلال الأدب الشَّعبي كمصدر هام لهذا النوع من الأدب، واستلهام الملائم منه بعد تنقيحه، وبثّ الروح الجديدة فيه.
11. العمل على تحديث وسائط تقديم هذا الأدب بكلِّ أشكالها، كالكتب والصحف والمسارح وغيرها، وإضفاء عوامل الجاذبية عليها.
12. تشجيع الإصدارات الموجّهة للأطفال، والدوريات الثقافية لإصدار أعداد خاصة تتناول أدب الطفولة، أو ملحقات لها تتوجَّه للأطفال، أو تخصِّص صفحات ملوَّنة لهم.
13. تفعيل دور وسائل الإعلام لإيضاح أهمية أدب الأطفال، وتسليط الضوء على الإصدارات الحديثة في هذا المجال من خلال برامجها الثقافية.
14. الاستفادة من تطوّرات التكنولوجيا، واستغلال مخترعاتها كالإنترنت، لتطوير أدوات الطفل الثقافية، والارتقاء بها وفقاً لآخر المستحدثات المعاصرة.
15. عقد اللقاءات بين الكتّاب والأطفال وتحقيق التواصل بينهم، بما يتيح إنتاج أدب يحقِّق الشروط المثلى، ويسهم في التعرُّف على احتياجات الأطفال من جهة أخرى.
16. توجيه البيت والمدرسة لتشجيع القراءة، بوصفها بوّابة العبور إلى هذا الأدب.
17. تخصيص زاوية مناسبة للقراءة في البيت، وإثراء المكتبة المدرسية بكتب الأطفال ومجلاّتهم.

يقول نزار نجار في مقاله: كيف نطوّر أدب الأطفال: (العمل في أدب الأطفال يحتاج إلى تكريس أكثر الطاقات كفاية وموهبة وإخلاصاً ووعياً، نحن بحاجة إلى من يكتب السيناريو، وبحاجة إلى من يكتب نصوصاً للصور المتحرِّكة، ومن يكتب الرواية الطفلية، وإلى من يكتب القصّة الطويلة والمسرحية.. نريد لثقافة الأطفال وأدبهم أن تكرّس كلّ وسائل الاتصال والتواصل مع الأطفال، وأن تتعهّدهم ليكون الكتاب جزءاً أساسياً من الحياة العادية للأسرة.. نريد تنظيم العلاقة بين الطفل والمجلّة، وبين الطفل والبرنامج الإذاعي والتلفازي).

بالحقيقة لم يعد يُنظر اليوم إلى أدب الأطفال على أنَّه وسيلة ترفيهية تهدف إلى إشاعة البهجة والمرح، ولم تعد أهدافه محصورة بتسلية الطفل أو ملء أوقات فراغه فحسب، بل وسيلة تربوية هامة في بناء الشخصية الطفلية، وتنمية قدراتها وإثراء مكوناتها، ليس هذا فحسب، بل أصبح محطَّ اهتمام الأمم الحديثة، ومركز جهودها للنهوض به، كاستراتيجية متكاملة تتعدَّد أهدافها وتخصُّصاتها، ومؤشّراً دقيقاً للاهتمام بالمستقبل، تزداد أهميته بازدياد الوعي بأهميّة مرحلة الطفولة وتغيُّر النظرة إليها، فعملت على تسخير إمكاناتها ومؤهلاتها، وأطلقت دعواتها ومطالباتها، بهدف الارتقاء به على الصُعد كافة، والسعي لإنتاج متميِّز - شكلاً ومضموناً- في مجالاته، حتى أصبح فرعاً رئيساً من فروع الأدب؛ يتنافس فيه خيرة الكتّاب وأكثرهم إبداعاً ومهارة، كما بات مجالاً رحباً للبحث والدراسة، واختصاصاً منهجياً يُدرَّس في الجامعات والمعاهد العليا، ترافقه حركات نقدية حديثة، تتناوله من كلّ اتجاهاته؛ إذ أشارت الإحصائيات قبل أكثر من عقدين من الزمن، أنَّ نتاج كتب الأطفال خارج المناهج التعليمية في دولة متقدّمة -كألمانيا- يساوي ما يقارب إنتاج الكتب المدرسية، وأن عدد كتّاب الأطفال فيها يقارب الثلاثة آلاف كاتب، وأن اليابان تنتج سنوياً ما يقارب خمسة ألاف عنوان للأطفال.
 


الهوامش: 1. مشكلات الكتابة للطفل العربي، كتاب العربي الشهري، 50 تشرين الأول/ أكتوبر 2002 (ثقافة الطفل العربي) مجموعة من الكتّاب، ص: 40.┊2. نظرة إلى مجلات الأطفال في بلاد الشام، السابق، ص: 113.┊3. دراسة في أدب الأطفال، نزار نجّار، منشورات اتحاد الكتّاب العرب بدمشق 1994، ص: 75.┊4. متطلبات أدب الطفل في عصرنا، الموقف الأدبي، مجلة أدبية شهرية يصدرها اتحاد الكتّاب العرب بدمشق، العدد 389، أيلول/ سبتمبر، 2003 ص: 6.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها