"إسماعيل زويريق" شاعر، وباحث في التراث الشفوي، وفنان تشكيلي. ولد بمدينة مراكش عام 1944. يكتب الشعر لأنه يكتبه، ولا يجد نفسه إلا في أبياته، كأنه من واد "عبقر"، مسّه جنون الشعر، فتخبط بين ربوع القصيدة، وسار عاشقاً للحرف، والكناية والاستعارة والمجاز، وتجمّل بالتكثيف وبالجمال الصوفي، وبمدح الرسول عليه الصلاة والسلام. أصدر أكثر من ستين كتباً، منها 48 مجموعة شعرية، و13 كتاباً نثرياً، وتم تكريمه في ربوع المغرب، وأيضاً بمكة المكرمة، والمدينة المنورة، وبالشارقة. من دواوينه الشعرية، نخلة الغرباء، بوابة الريح، الواحة المهجورة، أسفار الطين، ذات العماد، على النهج، لا زيت في المصباح، ما فوق هذه الأرض. التقت به المجلة، وفتح لنا قلبه، وكان هذا الحوار:

◉ لك ديوان بعنوان (لامية الوطن) هل من نسب بينها وبين لامية العرب؟
من اللاميات التي تجاوزت حدود منبتها شرقاً، وغرباً على امتداد قرون: (1) لامية العرب للشاعر الجاهلي "عمرو بن مالك الأزدي" المعروف بالشنفرى، وتتكون من 68 بيتاً، (2) لامية العجم "للطغرائي"، (3) لامية ابن الوردي "عمر بن مظفر"، (4) لامية الهند "لعبد المقتدر الدهلوي".. المعروف بحسان الهند، وهي في المديح النبوي، (5) لامية ابن تيمية. هذه اللاميات لشهرتها خامرتني فكرة بناء قصيدة أجعل رويها اللام، وأسميها "لامية الوطن"، وقد كانت هذه القصيدة اللامية التي سميت بها ديواناً، وتسنى لي أن أقرأها في محفل خاص. وما كان من أحد الحضور إلا أن أشاد بها واقترح أن يقوم بدراستها أحد النقاد دراسة مقارنة بلامية العرب ولامية المعجم، حتى تتوضح للقارئ مكانتها التي ينبغي أن تحظى بها بين اللاميات المعروفة، وقد انبرى لهذه المهمة ناقدان مهمان من نقاد مراكش الدكتور "عبد العزيز ساهر"، والدكتور "عبد الإله كليل" جزاهم الله خيراً.
◉ هل ترى أن البعد القومي والإحساس الوطني ما زالا يحركان وجدان الشاعر؟
الشاعر ما هو إلا بعض من هذا الوطن، يشجي لشجوه ويفرح لفرحه. وهذا الوطن لا تحده حدود جغرافية، ولا يجتاز إلى سواه بجواز سفر.. إنه الوطن الأكبر، من الماء إلى الماء. ما يصيب الأمة في أقصى أقاصيها سيصيب الشاعر في سويداء قلبه، فيعبر عنه بما يمكن أن تسمح به القريحة. ليس هناك من الشعراء العرب من لم يحركه ما يجري الآن في فلسطين وفي اليمن، وفي سورية وفي سواها. أنا سوري عندما تصاب سورية، وأنا عراقي عندما تصاب العراق، جذوري تمتد امتداداً في أعماق التربة العربية، جذوري تمتح من الأبعد أحياناً مقومات حياتها. يكفي أن يكون هذا عربياً، يكفي أن يكون إسماعيلياً، أبا العرب.
لا شيء يمكن أن يخمد الثورة في النفس إن كان هناك ما يثيرها، عشنا كل النكسات التي أصابت الأمة العربية بوجداننا، وما زلنا نعيشها كلما هبت على بعضها ريح الشتات.
◉ كيف يجد الشعر مكانه وسط الفنون الأدبية، وخاصة القصيدة العمودية؟
الشعر لا يمكن أن يفقد مكانته، ولا أن يخسر منزلته، فما زال الشعر موئل الراجي وكنف الآمل، فعندما يبلغ منك القنوط مبلغه لن تجد إلا الشعر ملاذاً للبوح الفضفاض، الذي يمكن أن يزيل عنك ذلك الكابوس الذي يستحوذ على عقلك وتحركات. في الشعر تجد ما لا تجده في سواه من الفنون.. في الشعر تتوحد كل الفنون لتصبح قصيدة، مشبعة بكل ما يختلج في نفسك وما يسبح بين جوانحك من أفراح وآلام. القصيدة لوحة معبرة، القصيدة قطعة موسيقية. القصيدة قصة قصيرة. القصيدة مسرحية مثلها فوق خشبة الحياة أعظم شخص تمثيلاً. لا يمكن في نظري أن تفقد القصيدة قيمتها إذن، وما أراه الآن يرشح هذا المعطى تعددت أشكال القصيدة. لكن القصيدة العمودية بقيت محافظة على قوتها. محافظة على كيانها. لا شيء من كل الأشكال التي عرفتها تحركات القصيدة العربية أثر فيها. الجمهور لا يتجاوب إلا مع القصيدة العمودية تجاوباً صريحاً. وأنا لمست هذا في الأماسي التي حضرتها وما أكثرها. ويكفي أن أقول بعد التقاعد حضرت في 500 أمسية وكلها مسجلة عندي في دفتر هذه الأمسيات تؤكد أن القصيدة العمودية لم تمت ولن تموت.
◉ لماذا اتكأت في ديوان "على النهج" كما فعل الأوائل في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة عليهم رضوان الله؟
الحديث عن سيرة الرسول الأعظم الذي استطاع أن يخرج الجزيرة العربية في ظرف وجيز من الظلام إلى النور، استطاع أن يغير ما كان عليه العرب من الضلالة وعماء البصيرة في عقدين من الزمن وهذا ليس بكثير في عمر شعب. وما تشهده الآن أحوال العالم الإسلامي من تغيرات وما نراه من العالم المغاير له من القفز على الثوابت، ومن الهجوم السافر على كل مقومات الوجود الإسلامي يخلق أزمات يدفعنا إلى التذكير بما كانت عليه الأمة الإسلامية في بداية عهدها، وبما كان عليه الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، وبما كان عليه الخلفاء الراشدون من بعده. وهذا يدفعنا إلى لمّ الشتات من سيرهم، والإفصاح عنها بما يفيد لأنهم القدوة.
◉ ممّن تأثرت في بداياتك الشعرية من الشعراء المغاربة والعرب، ولماذا تكتب الشعر؟
أكتب الشعر لأنه يكتبني، ولا أجد نفسي إلا فيه، ولا أقرأ سواه، لا يعجبني أن أقرأ مائة صفحة كي أصل إلى فكرة بسيطة، في القصيدة ذلك التكثيف الذي يحملك على تقصي الفكرة بأقل جهد. الزمان لا يرحم، ولا أرى في الرواية التي تعالج أمراً من أمور الواقع في خمسمائة صفحة أو تزيد، جربت كتابة القصة، وعرضت بعضها على عميد القصة المغربية، واستحسن ما قرأ منها، ولم يحثني ذلك الاستحسان على المضيّ فيها، وكتبت الشعر، وكنت أعرضه أيام الطلب على شاعرنا الكبير "أبي بكر الجرموني" فاستحسن ما كان يقرأ، وكانت منه تلك الإجازة سنة 1960م، إذ قال بعد أن قرأت قصيدة "وحدي" عليه: "احتفظ بهذه، ومزق ما قبلها، فقد أصبحت شاعراً". في البدايات قرأت لكل الشعراء العرب، وحفظت الكثير من القصائد لشعراء حفروا أسماءهم على صفحات التاريخ الأدبي. كل واحد منهم ترك في نفسي انطباعاً حميداً.. بدءاً من "امرئ القيس" إلى "الشابي" أولئك هم أساتذتي. ساعدوني على أن أدخل واحة الشعر من بابها الواسع، وأغلقت دونه كل الأبواب، دخلت إليها هروباً من واقع مؤلم لأجد فيها آلاماً أنستني ذلك الألم.
◉ لماذا يتجه أغلب الشعراء الآن إلى قصيدة النثر التي صارت تحظى بالأهمية في الصحافة الأدبية؟ هل هو هروب وعجز من الأوزان، والعروض، والقافية؟
في البداية، لا أرى فيمن كتب القصيدة العمودية هروباً لعجزه عن امتلاك ناصية القصيدة العمودية لأنهم جميعاً بدون استثناء كتبوا فيها، أدونيس، نازك الملائكة، الطبال، حسن الأمراني، علي الرباوي... كل هؤلاء وسواهم لم يجدوا صعوبة في كتابة القصيدة العمودية، وجرياً مع التيار الجارف الذي نال من القصيدة الأصيلة. سار أولئك ومن جاء بعدهم الذين تبنوا قصيدة النثر عن اقتناع لا عن جهل، وأنا شخصياً من أولئك الذين مالوا كل الميل إلى كتابة قصيدة النثر خلال العقد الثامن والتاسع من الألفية الثانية ونشرت الكثير في الجرائد والمجلات. لكنني لم أبتعد عن القصيدة العمودية مسافة تجعلني أكره الرجوع إليها إذ كنت أزاوج بين هذه وتلك، وكان أن أخرجت مجموعة من الدواوين: نخلة الغرباء، بوابة الريح، طائر الأرق، أسفار الطين، ذات العماد، وسواها كثير، وقد وجدت في المديح النبوي فضاء أكثر رحابة في إنجاز ما لم ينجزه شاعر. إذ أصدرت ستة أجزاء تحتوي على 18 ألف بيت، ناوشت فيها كل البحور الشعرية الخليلية.
أنا لا أجد صعوبة في كتابة القصيدة الأصيلة ولا في كتابة قصيدة النثر. الموضوع يفرض علي اختيار هذا الشكل على سواه، أو اختيار سواه عليه. وهنا يمكن أن أقول بأن الشاعر الحق هو الذي لا يجد صعوبة في أي اختيار شريطة أن يلتزم بمقومات القصيدة التي تجعل الشعرية في المقدمة. إن شعرية القصيدة تخضع لشروط تجاوز الشكل. والشكل ليس إلا وعاء، وعلينا ألا نحمل في هذا الوعاء إلا ما استحسنه الذوق، وما أراه أن ما يكتب في هذا الصدد ليس إلا نثراً خالصاً لا أثر فيه للشعر إلا عند البعض، أولئك الذين خاضوا التجربة عن وعي.
◉ لماذا لم يهتم النقد في العالم العربي بالتجارب المغاربية، ومن بينها تجربتك الشعرية؟
عدم الاهتمام نابع عن عدم وجود التجربة بين يدي الناقد. كل الشعراء الذين أعرف أصدروا دواوينهم وقد نالت الحظوة لدى النقاد المغاربة لسبب واحد هو وجود المتن بين أيديهم ولا أدل على ذلك من ديوان "على النهج" هذا الديوان صدر في 12 جزءاً، ستة أجزاء خاصة بالمتن الذي هو 18000 بيت، وستة أجزاء خاصة بالدراسات التي كتبت عنه، وهذه الدراسات هي حصيلة ما كتب عنه في ظرف وجيز عددها هو ثمانون دراسة وهي حصيلة ما استطعت جمعه. وعندي أن هناك دراسات أخرى لم أتوصل بها، فلو توصلت بكل ما شارك به الأساتذة النقاد في اللقاءات التي تم تنظيمها من طرف جهات ثقافية لكان عندي أكثر من هذا العدد بكثير. ثمانون دراسة في ستة أجزاء ليس هذا بالقليل، مع الأسف الشديد أعمالنا لا تصل إلى القراء العرب لبعد الشقة. مع الأسف ولعدم توفر دور النشر التي يمكن لها أن تعرض أعمال شعرائنا خارج المغرب. الديوان الشعري هو آخر ما يمكن أن يفكر في حمله ناشر. وهم يعللون ذلك بأن الشعر أصبح لا يقرأ.. أي لا ربح وراءه. والناشر لا يبحث إلا عن الربح، لا عن سواه، وفي هذا إجحاف في حق الشاعر، وفي حق القارئ. بالإضافة إلى أن هناك أسباباً أخرى لا داعي لذكرها، لأنها تمس جانباً أساسياً من حياة الشاعر وأوكدها الجانب المادي.
الديوان الذي وصل القراء هناك كتب عنه من طرف نقاد عرب كديوان "ما فوق هذه الأرض"، وديوان "الواحة المهجورة" اللذين طبعا من لدن دائرة الثقافة بالشارقة. من تلك هذه الدراسة التي كانت من توقيع الدكتور "محمد صلاح زيد" حول ديوان "الواحة المهجورة" مجلة القوافي العدد 37. ومجلة القوافي التي تخصصت كما يوحي اسمها في الشعر، ولا أخفيكم أنني من خلالها عرفت الكثير من الشعراء. في الوطن العربي وحتى في المغرب، أسماء ما كان لها أن تظهر في سماء الشعر نجوماً مضيئة لولا هذه المجلة الرائعة.

◉ الشارقة تحتفي بالقصيدة العربية في المهرجان الذي تنظمه سنوياً، وأنت من الذين حصلوا على جائزتها. إلى أي مدى يُساهم هذا المهرجان في الرفع من مستوى القصيدة العربية عالمياً؟
مهرجان الشارقة للشعر العربي من المهرجانات الشعرية إن لم أقل، المهرجان العربي الوحيد الذي ساهم بشكل واضح في الرفع من قيمة الشعر فن العرب، وذلك بما خصصه لهذا الفن من إمكانيات هائلة على امتداد الخريطة العربية، وذلك بإنشاء بيوت ودور الشعر في كل قطر عربي. رصدت لها من الأموال ما لا يمكن أن ترصده دولة أخرى. فهذا المهرجان الذي ينظم برعاية صاحب سمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة، له دور كبير عند كل شاعر؛ لأنه استطاع أن يحرك وجدان الشعراء العرب في كل مكان من العالم العربي، الشارقة التي رفرفت فوق ترابها راية الشعر خفاقة. وإذا كان في كل دورة ما لا يقل عن 100 مشارك؛ فإنني لا يمكن أن أجزم إلا بما لا يدع شكاً لمهتم بأن هذه الإمارة استطاعت أن تعيد للشعر العربي وهجه وألقه، وأصبح شعراء العربية من أوكد اهتماماتهم كتابة قافية مشرقة تنبس بفيض من الألق يجتاز كل الأسوار. وما ذلك إلا بما يحمله حاكم الشارقة لهذا الفن من عشق غايته أن تُنيرَ أشذاء القوافي في كل مكان.. غايته أن تضيء شموع القصيدة في كل زمان.