عروسةُ المَولد في قَويسنا

احتفاء شعبيّ بالمَولد النبويّ

أسامة الفرماوي

الإنسان كائن اجتماعي حي، يعيش في جماعاتٍ صغيرة، أو كبيرة تُشَكِلُ أنساقاً فرعيةً لمجتمعٍ كبير يفرض عاداته، وتقاليده، ومعتقداته على أفراده كإطارٍ حاكمٍ، صارمٍ لممارساتهم. ويمتثل أفراد المجتمع لأوامره، ونواهيه: عاداته، تقاليده، معتقداته... وأساليبه المتعددة في تشكيل مادة الطبيعة؛ ليتحقق بذلك انتظام الأنساق الفرعية، ومن ثم انتظام النسق العام؛ فيحدث التوازن الذي يحمي المجتمع من الانهيار؛ إذ إن الخروج عن تلك الأُطُرِ الحاكمة يعني تغيراً في الأنساق الفرعية، الأمر الذي يهدد سلامة هذا المجتمع واستقراره. ويعيد الشعبي تصدير إبداعه، الذي اكتسبه بالضرورةِ من جماعته الصغيرة إلى مجتمعه، مرة أُخرى، في حركة دائرية للتراث لا تهدأ.

ويُثَمِنُ العقل الجمعي Collective mind للجماعة الشعبية العروسة بشكل بالغ؛ لذا نجده قد أضافها، أو أضاف إليها الأشياء الأثيرة لديه، أو حتى التي يخشاها، أو يحذرها في ممارساته اليومية، ونذكر منها:
• عروسة البحر.
• عروسة كعك الأعياد.
• عروسة الحسد "يتم قصها من الورق باليد، أو بالمقص".
• عروسة النيل.
• عرائس الدُمَى البلاستيكية.                 
• عروسة سَعَفْ النخيل، كانت تصنع في البيوت على المستوى الشعبي في الأعياد المسيحية، وقد قَلَّ هذا الآن.

والعروسة هي: الأنثى بمواصفاتها الجسدية، وأشكالها المتعارف عليها؛ جميلة الملامح بزيها اللافت للأنظار دائماً، ولها أهميتها في الأسرة والمجتمع بصفة عامة، ولها أهميتها التي ترتبط بالقيم الأخلاقية، وعادات وتقاليد، ومعتقدات المجتمع. وتبلغ ذُرْوَة جمالها ليلة زفافها. والعروسة فكرة في المقام الأول تُلَخصُ كاسم وهيئة معنى الحياة، كرمز للجمال والخصوبة اللذين تعشقهما النفس، وهو ما يعني استمرار الحياة.

أما عروسة المولد؛ فهي: العروسة الحلاوة التي يتم تصنيعها في قوالب خشبية داخل مصانع الحلوى، وهي الأشهر لدى الجماعة الشعبية مسلمين/مسيحيين في قويسنا، بل في مدن وقرى، ونجوع القطر المصري كله؛ وذلك لارتباطها بمناسبة دينية/اجتماعية لها تقدير لدى الجماعة الشعبية، وهي الاحتفال والاحتفاء بصاحب المناسبة محمد صلى الله عليه وسلم.
 

ويقتصر الاحتفاء الشعبي بالمولد النبوي الشريف بتصنيع عرائس المولد على مصر فقط، دون غيرها من الدول العربية "حيث إننا لم نعثر على مرجع، أو نص يشير إشارة واضحة إلى ظهور هذا الشكل الفني، أثناء إقامة المراسم والاحتفالات بالمولد النبوي الشريف، في أي بقعة من البقاع الإسلامية في المشرق، أو المغرب"1.

ومما لا شك فيه أن الفاطميين هم أول من احتفل بالمولد النبوي الشريف بالشكل المُتَعَارَف عليه حالياً، ويرجع هذا إلى رغبتهم في نشر مذهبهم الشيعي. وقد بدأت احتفالاتهم دينياً، ولكنها سرعان ما ارتبطت بالجانب الشعبي الذي يستند إلى أساس ديني.

وفي تفسير آخر لبداية هذه الاحتفالات أنه في عهد المستعصم بدأت دول الشمال الإفريقي، التي كانت تحت السيادة المصرية تثور مُطَالَبَةً بالاستقلال؛ فأمر الخليفة بزحف عربي إلى هذه الدول، وكانت الوسيلة الأساسية للنقل هي: الحصان، وكان البطل الذي يبذل جهداً كبيراً يقدمون له عروساً تُزَفُ إليه. وبهذا التقط الفكر الشعبي هذا الحدث، وعمل رموزاً له من خلال عمل عروسة من السكر في ملابس الزفاف المزركشة. والحصان يمتطيه الفارس الشجاع، تنوعت بعد ذلك الأشكال التي يُعَبِرُ كل منها عن صفة، أو فكرة ما يؤمن بها المبدع الشعبي.

ومن أشهر العائلات التي يعمل أفرادها في حِرْفَة النحاتة قديماً في الأثرية في طنطا بمحافظة الغربية: عائلة أبو النصر، وعائلة الشرقاوي، وعائلة الحاج عبد القادر حسنين، الحاج يحيي، وعائلة زكريا.

ومن أشهر العائلات التي تعمل في تصنيع "عرائس المولد بقويسنا": عائلة النمر "كامل النمر، وفاروق النمر" رحمهما الله، وعائلة جودة. وحتى ثمانينيات القرن العشرين المنصرم كان في قويسنا (3 مصانع) تشارك في الاحتفالية الشعبية بتصنع، وبيع عرائس المولد، ولم يبق منها سوى مصنع كامل النمر، الذي يديره الآن ولده عبد اللطيف الشهير بعبوده النمر.
 

مراحل تصنيع عروسة المولد "المصنعة من السكر":

نحت القوالب الخشبية، ربط القوالب بإطارات مطاطية، الصَبَّاب: وهي المرحلة التي يتم فيها صَب السكر المُذاب وتقليبه على النار، ثم يتم صَب هذا السكر المغلي داخل القوالب الخشبية بأشكالها المتنوعة، رد الزائد من السكر المذاب في قوالب أخرى فارغة، كشط الزائد من السكر بعد جفافه، فَك الإطارات المطاطية: ويقوم العامل بهذه الخطوة لاستخراج "عروسة المولد" برفق دون كسرها.

وقد استخلص الباحث من دراسته الميدانية الآتي:
- أن الأطفال لا يعملون داخل مصنع الحلوى خوفاً من النار، والسكر المغلي.
- أن العمل داخل مصنع الحلوى لا يناسب، أو لا يتناسب وطبيعة المرأة.
- أن طبيعة المرأة الجسدية لها دخل في عدم تفضيل عملها في هذا المكان؛ فالعمل في مصنع الحلوى في وجود النار، والسُكر المغلي يجعل من وجودها في هذا المكان أمراً غير مرغوب فيه؛ وذلك لأن وجودها بين الرجال سيقلل من تركيزهم، وهذا مرفوض تماماً في ظل وجود نار يتعامل معها الجميع؛ فالجنس، لا شك، عامل ومؤثر جداً في عدم تفضيل عمل المرأة وسط الرجال في مصنع الحلوى، وبالتالي لا يفضل المجتمع وجود رجل غريب وسط النساء أثناء تزويق العرائس؛ ويرجع ذلك، بالطبع، إلى حاجة من يعمل في هذه الأجواء إلى التركيز.

وما زال الاحتفاء الشعبي بهذه المناسبة مصحوباً بمظاهر الاحتفاء المصاحبة له، مثل انتشار شوادر بيع عرائس المولد في الشارع الرئيس بمدينة قويسنا، والمسمى بشارع الجيش، ويطلق عليه أهل المدينة الشارع العمومي، أو الشارع الرئيس، الذي تتركز به معظم الأنشطة التجارية الرائجة في المدينة.

ويسعى المبدع الشعب إلى إبراز التفاصيل الجسدية لعروسة المولد والتي تمثل، أو تعبر عن الإغراء الذي تتميز به الأنثى، ويتمثل ذلك في الاهتمام ببروز الصدر بشكل لافت للنظر يبدو واضحاً قبل تزويقها، ويتم إبرازه بلون مختلف عند تزيينها؛ فهو رمز جمالها. ويهتم المبدع الشعبي بإظهار مصادر الإغراء والجمال في العروسة؛ إذ إنها تحرك المشاعر والأحاسيس. ويلجأ المبدع لهذه الحِيّلْ الجمالية كعامل جذب لزبائنه من الصغار والكبار حتى تزداد مبيعاته، ويستطيع مواجهة أعباء الحياة.

ويرى البعض أن هذه المهنة في طريقها للانقراض، بينما يرى آخرون غير هذا. والغالب أنها ستستمر؛ "طول ما فيه عيال بتيجي، وبتتخَلِفْ ففيه مهنة؛ لأنها أصبحت طبيعة، أو عادة"2.

ولعل التعبير عن التقدير بالحلوى من أساليب الحياة المعتادة، المقبولة في مجتمعنا؛ إذ إن تقديم الحلوى للضيوف في مجتمعنا يُعَدُ تقديراً، واحتفاءً بهم. وربما يرجع تعبير الشعبي عن حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتشكيله للسكر وتصنيعه عروسة المولد، وهي النموذج المحبب لدى الجميع، مع أشكال أخرى، يُعَدُ هذا احتفاءً، وتقديراً شعبياً لصاحب هذه المناسبة الدينية/ الاجتماعية الهامة الراسخة في العقل الجمعي للمجتمع المحلي، ويبدو "أن العقل الجمعي Collective mind يلجأ إلى صُنع أنساق فكرية خاصة، يستطيع من خلال ممارساته نحوها أن يتواءم مع البيئة المحيطة به"3.


الهوامش1. د. عبد الغني الشال، عروسة المولد، مطبوعات الهيئة العامة لقصور الثقافة، الأمل للطباعة والنشر، 1999 م، ص: 25. | 2. جمال كامل النمر، قويسنا، 55 سنة، متزوج ويعول. | 3. أسامة الفرماوي، المظاهر الاحتفالية لمولد الشيخ رمضان دراسة فولكلورية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2018م، ص: 23.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها