الإسباني خوسي لويس سيرت (1902-1983)

من أبرز المهندسين المعماريين في القرن العشرين

محمد ياسر منصور


أمضى (خوسي لويس سيرت Josep Lluís Sert) ما يزيد على خمسين عاماً يبتكر ويُعلِّم فنّ هندسة معمارية ذات ألوان أخَّاذة تغمر الشمس وتبعث البهجة في النفوس. وعُرِفَ كأحد المهندسين المعماريين البارزين في القرن العشرين، وحازَ تكريماً عالياً في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا ووطنه إسبانيا.
 

الحيوية التي أضفاها (سيرت) على هندسته ترجع إلى أيام طفولته في إسبانيا. وهو قال مرَّة: "في جميع أعمالي هناك عنصر أساسي مهم تُوحيه أجواء البحر الأبيض المتوسط، يُبرِز الحنين إلى مناخ معيَّن ونور معيَّن وإلى جميع المؤثِّرات البصرية التي عَرَفتُها في وطني أيام حَداثتي".

ذلك كان مناخ (كاتالونيا) ونُورها.. تلك المقاطعة الواقعة شمال شرق إسبانيا والتي تنحدر شواطئها الصخرية إلى البحر الأبيض المتوسط. هناك في (برشلونة) وُلِدَ (خوسي لويس سيرت) في أوَّل يوليو (1902) لعائلة أرستقراطية تعشق الفن.

فَكَّرَ سيرت أولاً في امتهان الرسم. لكن والده أراده أن يتعلَّم مِهنة أخرى مُشدِّداً على أنَّ (لا أَحَد يكسب رِزقه من الرسم). فاقترح عليه (خوسيه ماريا) أن يدرس الهندسة المعمارية.. وعَمّه رسَّام جِداري شهير يزدان مَدخَل بناية قاعة (راديو سيتي) في نيويورك بِرسومه.

كان على طالب الهندسة المعمارية في العشرينيات أن يلتحق بالمدرسة العليا للهندسة المعمارية في برشلونة. تلك كانت مدرسة من الطراز القديم تتَّبِع طريقة الفنون الجميلة في التعليم، ويشعر فيها الطلاب بأنهم يُضيِّعون شبابَهم في دراسات كلاسيكية لا صِلَة لها بالواقع، كَبِناء نماذج لهيكل (بارثنون) في (أثينا). ولم تكن المدرسة لِتَعترِف بالألماني (والتر غروبيوس)، والأمريكي (فرانك لويد رايت)، والفرنسي (لوكوربوزييه)، الذين كانوا في صَدد إحداث نَمط جديد من الهندسة المعمارية غير مُقيَّد بالتفاصيل التاريخية التي عَفا عليها الزمن، واعتمدوا فيه تخطيطاً جيداً يُوفِّر خِفَّة في البناء وتهوِئة وافية.

كان (سيرت) في طليعة الطلاب الذين صمَّموا على استكشاف تلك الهندسة المعمارية العصرية. التقى في دارة عَمَّته بباريس عدداً من الشخصيات التي كانت تعمل لإحداث ثورة في الفن: (رافيل) المؤلِّف الموسيقي، و(دياغيليف) مُنظِّم عروض الرقص، و(فيار) الرسَّام. وفي (1926) اكتشف سيرت عالَم (لوكوربوزييه). وفي ذلك قال: "لم أكُن سَمِعتُ به، لكنني وجدتُّ في محلّ صغير بساحة (الفاندوم) في باريس الكُتُب التغييرية المتطرِّفة التي وَضَعها فَفُتِنتُ بها وجَلَبتُها إلى برشلونة وبدأتُ وأصحابي التباحث فيها".

كَتَبَ (لوكوربوزييه) أنَّ الأبنية يجب أن تُشاد بكل أمانة، بالمواد الحديثة كالفولاذ والزجاج والإسمنت. ويجب أن تصمَّم عِلمياً كي تخدم سكانها جيداً، وألاَّ تعتمد الزينة التقليدية في تجميلها.

كفاح شعب:

عندما عَلِمَ الطلاب أنَّ (لوكوربوزييه) قادِم لِيُحاضِر في مدريد كَتَبوا إليه يسألونه أن يُلقي لهم مُحاضَرة أيضاً. وتذكَّرَ (سيرت) لاحِقاً: "أثارَت اهتمامه الهندسة المعمارية المحلية ومَكَثَ معنا بضعة أيام.. اصطحبناه إلى الملاهي في منطقة الميناء حيث وَضعَ رسوماً من وَحي المكان، ثم استدارَ نحوي سائلاً: لماذا لا تأتي إلى باريس عندما تُنهي دراستك وتعمل معي؟ وهكذا توثَّقت بيننا أواصر صداقة لمدى الحياة".

ذَهبَ (سيرت) إلى باريس عام (1929) وانضمَّ إلى مجموعة من المهندسين المعماريين الدوليين في مُحترَف (لوكوربوزييه). وفي السنة ذاتها فَتَح مكتبه الخاص في برشلونة. كانت تلك فترة ثورة اجتماعية. وفي عام (1931) أصبحت إسبانيا جمهورية. ومنذ البداية رَبَط سيرت عمله بمبادئ الجمهورية الناشئة. كانت جميع مواضيع زمرته من مهندسي العمارة الجديدة تتعلَّق بتحسين البيئة. وهو قال: "كُنَّا شباباً لَنا آمال وخطط كبيرة، وكانت لَدينا جُرأة الشَّباب التي يجب أن يحتفظوا بها على الدَّوام".

أَعطَت الجمهورية (سيرت) أوَّل مهمة له ذات شَأن خارج بلاده: إنشاء جناح خاص بالدولة الإسبانية في معرض باريس الدولي عام (1937)، بالتعاون مع نحَّاتين ورسَّامين. فَرَسمَ (بابلو بيكاسو)، الذي تأثَّر كسائِر الفنانين بالحرب الأهلية الإسبانية التي بدأت عام (1936)، لوحة جِدارية لِلجَناح هي (جيرونيكا) التي باتَت أشهر لوحة رُسِمَت في القرن العشرين. وحازَ افتتاح الجَناح ثَناءً وتقديراً كبيرين، وكان هدفه تركيز انتباه العالَم على كفاح الشعب الإسباني.

لكنَّ الجمهورية الإسبانية سَقطَت عام (1939) ولم يَعُد (سيرت) مَرغوباً فيه في وطنه، فاعتزم وزوجته العمل بنصيحة (والتر غروبيوس) وزيارة أمريكا. واندلعت الحرب العالمية الثانية فيما كانا هناك، فَبَقيا في الولايات المتحدة وأصبحا بعدئذٍ مواطنين أمريكيين. وخلال الحرب وبَعدها كَتَبَ (سيرت) وألقى محاضرات في مدينة (نيويورك) ورَسَم خطَطاً معظمها لم يُنفَّذ أبداً، لِمُدن جديدة في الأمريكتين الوسطى والجنوبية، ونَمَت شُهرته لكنَّ عمله كمهندس معماري بَقيَ مُجمَّداً.

سِرّ عبقريته:

في العام (1953) تغيَّرت الحال، إذ عُيِّن (سيرت) عميداً لمدرسة التصميم في جامعة (هارفرد) المرموقة، وخَلَفَ (غروبيوس) كرئيس لدائرة الهندسة المعمارية. وبِحلول العام (1955) كان (سيرت) نَضَجَ كمهندس معماري ومُصمِّم، له شُهرة عالمية. ويشهَد على ذلك المُحترَف الذي بَناه لِصديق العُمر الرسَّام (خوان ميرو) في جزيرة (مايوركا). وتَبِعَ ذلك بِناء السَّفارة الأمريكية في بغداد عام (1960)، ثم طَوف من الأعمال استمرَّ ثلاثاً وعشرين سنة: مَنازل ومدارس ومتاحف وجامعات وأبنية سَكَن ومكاتب.
 كان رجلاً مَرِحاً متواضعاً خالياً من الادِّعاء، يلبس بَدلة إسبانية رمادية قاتمة ويضع على عينيه نظَّارتين كبيرتين لهما إطار من عَظم. لم يكن (سيرت) يرسم إلاَّ لابتكار مَساكِن تبدو كأنها تتوسَّل إلى الناس كي يشغلوها.. فَمجرَّد نافذة، بتغيير بسيط في الشكل، تُصبِح إطار صورة جميلاً، والشُّرفة تنقلِب تعريشة تُظلِّلها أغصان متشابكة.

صِفَة إنسانية:

بَعد مُضي سنوات سُئِلَ (سيرت)، ما هوَ في رأيه أهم أمر يتعلَّمه الطلاب؟ فأجاب: "لو كنتُ أُدرِّس هذه الأيام لَحاوَلتُ أن أجعل الناس أَقرَب إلى تفهُّم الهندسة المعمارية الصحيحة كما أراها أنا؛ إنها تُصوِّر مَساكِن تبعث البهجة والراحة في النُّفوس".

التمتُّع الإنساني، ذلك كان سِرّ (سيرت). لقد تمتَّع بالحياة والطعام والشراب والأصحاب والنّكات والسيارات ونور الشمس والماء والنحت والرسم. كَرِهَ الادِّعاءات الفارغة وتلك الأبنية التي تعلو وتبدو مُهدِّدة أرواح الناس. إنَّ هندسة البناء يجب أن تصطبغ بِصِفة إنسانية.

نَمَت شُهرت (سيرت) واجتذبت مهندسين معماريين من أنحاء العالم.. كانت طريقته في العمل فريدة. كان يدخل غرفة الرسم مع أحد شركائه ويبدأ فَوراً الكلام عن المشروع، فَيُزيد خطوطاً على الرسوم هنا ويقترح تغييراً في مقياس الخرائط هناك، فيما يتراكَض مُساعدوه لإجراء التغييرات التي طَلَبها، ويزدحم حوله الرسَّامون لِيُصغوا إليه، ونادِراً ما تَذمَّر منهم لأنه طُبِعَ على حُبّ التدرُّب والاستطلاع.

أَحبَّ (سيرت) التعاون مع الفنانين.. في أَوجِ عمله ابتكرَ مؤسسة (مايت)، وهي متحف ينطوي على انحناءات بيضاء متعالية فوق جُدران حجرية جميلة وحدائق وساحات في تلال (الريفيرا) الفرنسية المخضَّبة بِكُروم العِنَب.

كان كثير من الفنانين الذين عملوا معه رُفقاء له منذ أيام الدراسة في مقاهي باريس، وبعضهم، مثل النحَّات (ألكسندر كالدير)، والرسَّام (خوان ميرو)، عملوا معه في الجناح الإسباني بمعرض باريس. وآخرون، بينهم النحَّات (ألبيرتو جياكوميتي)، والرسَّام (فرنان ليجيه)، انضمُّوا إليه في حينه، وجميعهم حازوا شُهرة عالمية.
 

عرفان أخير:

إنَّ طابَع البهجة الذي تميَّز به متحف (مايت)، ككثير من أعمال (سيرت)، مأخوذ عن الهندسة الشعبية في حوض البحر الأبيض المتوسط، خصوصاً في جزر (البليار) قُبالة شاطئ (كاتالونيا) الإسباني. هناك بيوت المزارعين المبنيَّة من الجصّ الأبيض' والمُغري تبدو على وَشك السقوط كالمكعبات الخشبية التي يلعب بها الأولاد، نزولاً على جوانب تلال عارية إلى مياه الموانئ الزرقاء. أَحبَّ (سيرت) هذه المساكن البسيطة وسقوفها الظليلة وألوانها الزاهية، وأَخذَ عنها مجموعة تصاميم لبيوت في جزيرة (إيبيزا). اثنان منها، أحدهما في القرية والآخر في التلال، كانا مُلك (سيرت)، حيث أمضى وزوجته (مونتشا) إجازات طويلة في أواخر سِنيّ حياتهما. وفي أوائل السبعينيات أَبدى (سيرت) عرفاناً آخر لـ(كاتالونيا).. حيث أَبدَل اسمه من (هوسيه لويس) إلى (هوسيب لويس)، بِحَسب ما يُكتَب في (كاتالونيا).

بَعدَ بلوغه الثمانين تَركَ (سيرت) وزوجته كامبردج بهدوء ورَجعا إلى كاتالونيا، أولاً إلى (إيبيزا) ثم إلى (برشلونة)، حيث تُوفي (سيرت) بِداء السرطان في مارس (1983). كان قريباً من البيت الذي وُلِدَ فيه، كذلك من أعظم أعماله الأخيرة: مركز ميرو لدراسة الفن المعاصر، الجاثِم على تلَّة تُشرِف على المدينة. هذا المركز، بهندسته الجريئة وبَساطته، يُجسِّد الكثير مِمَّا رآه (سيرت) جديراً بالاهتمام: نور الشمس، والفن، والناس، والبَساطة.. وكاتالونيا.

أذكُر من أقواله جيداً كلماته عام (1981) لَدى قبوله الميدالية الذهبية للمعهد الأمريكي للمهندسين المعماريين: "عِشتُ متفائلاً، مؤمناً بالجوانب الإيجابية للحياة والطبيعة والجَمال.. عِشتُ بَنَّاءً. إذا أردنا ممارسة مِهنتنا -بِناء الأشياء- فَعَلينا حتماً أن نُؤمِن بِمستقبل أفضل للبشرية".

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها