عادات ومعتقدات.. على جلود البشر والحيوان

"الوشم".. فنٌّ من الفنون الشعبية

أسامة الفرماوي

 

بَرَعَ الإنسان منذ بدء الخليقة في ابتكار وإبداع فنونه الشعبية: الحركية، القولية، الموسيقية التي اعتمدت في المقام الأول على إيقاع الطبيعة، ثم تشكيلاً لموادها ليعبر في كل هذا عن عاداته ومعتقداته، وعن خبراته ومعارفه، وعن تصوراته للطبيعة والخالق، وعن كل ما يحيط به من خلال ممارساته اليومية، ومن خلال التجربة والخطأ، معبراً عن ضمير الجماعة التي ينتمي إليها.

والفنون الشعبية: نشاط إنساني يهدف إلى إعادة تشكيل الواقع من خلال ممارسات الإنسان اليومية داخل جماعته، وطبقاً لمعايير تلك الجماعة متمثلة في تلك العادات والتقاليد، والمعتقدات، والخبرات والمعارف العامة التي انتقلت إليه من الآباء والأجداد جيلاً بعد جيل.

ويتنوع هذا النشاط بين الفن الحركي، والقولي، والموسيقي، وتشكيل مواد الطبيعة "البيئة المحلية" تشكيلاً نفعياً لا يخلو من قيمة جمالية يترك المبدع فيها وعليها بصماته التي قد لا تتكرر، وهذا هو سر بقاء وعظمة الموروث الشعبي الذي يحمل بصمة مبدعة، ويعبر في نفس الوقت عن الضمير الجمعي الذي أفرزه.

وتتعدد مجالات الفنون الشعبية في مصر لتشمل: الصناعات القائمة على جريد النخيل، والكليم في "ساقية أبو شعرة"1، والفخار في أشمون جريس2، والنسيج اليدوي "التلي" في أسيوط، وأشغال الجلد والزجاج والطرق على المعادن "خان الخليلي"، وصناعة الطواقي. وتُعبِّر تلك المجالات عن حياة الناس بعاداتهم، ومعتقداتهم العفوية من خلال استخدامهم لخامات البيئة الطبيعية المحيطة بهم لتعبر في صدق عن روح الجماعة.

ويُعدُّ الوشم أحد مجالات الفنون الشعبية التي يمارسها البعض ممن انطبعت بداخلهم روح الجماعة التي أفرزتهم في عملية تأثير مُتَبادَل بين الفرد والجماعة، وقد ذهب بعض علماء النفس3 "إلى أن الوشم يعبر عن شخصية مضطربة تجد صعوبة في التواصل باستعمال اللغة الطبيعية، فتتخذ الوشم وسيلة تعوض التخاطب اللفظي". ومما لا شك فيه أن رموز الوشم تحمل رسالة ما تساعد على التواصل بين الأفراد طبقاً للعادات والتقاليد والعرف السائد، وكذا المعتقدات المتعارف عليها بين أفراد الجماعة.

والوشم: "نوع من الرسوم والأشكال والزينة على سطح جلد الإنسان بغرض جمالي أو علاجي، أو لإبطال السحر أو الحسد، ويظهر على الوجه واليدين "ظاهر الكف والظهر"4. وواقع الأمر أن الإنسان الأول قد سعى لاستخدام خامات البيئة المحيطة به لسد جوعه في المقام الأول، ثم اكتشف بالتجربة من خلال ممارساته اليومية فوائد أخرى لهذه المواد؛ فاستخدم هذه المواد وما ارتبط بها من طقوس وفنون ابتكرهما لدرء أو الوقاية من الحسد.

ويرتبط الوشم بالمشاهير على مستوى العالم في جميع المجالات: "التمثيل، لاعبي المصارعة، وكرة القدم... إلخ"، فنراهم يرسمون -على أجزاء جسمهم- رسوماً لها دلالة اعتقادية تساعد -حسب معتقداتهم- على الوقاية من العين الضارة "انظر الصور المرفقة". ولا يقتصر الوشم على الإنسان فقط، فقد يلجأ البعض إلى وشم قطعانهم من الجمال، والخيل... حماية لهم من تلك العين الضارة؛ إذ يلفت (يأخذ) هذا الوشم تلك العين بعيداً عن القطيع. ومع التطور الذي صاحب الإنسان خلال سني حياته استخدم الوشم لغرض مزدوج "نفعي، وعلاجي"، ويتجسد هذا في بيئتنا المحلية عندما يحدث لإنسان ما حادث ينتج عنه كسر في قدمه، أو يده يردد البعض: "ندق له"، وهم بهذا التعبير إنما يعبرون عن خلاصة تجارب آبائهم وأجدادهم.

ويعد المستكشف البريطاني جيمس كوك أول من أدخل الوشم إلى أوروبا عام 1771م. ويرجع رينيه هويج عادة دق الوشم إلى العصر الحجري القديم، بينما يرى برتولون "صلة الوشم في الحضارة اليونانية القديمة بالمناطق التي غزتها أو انتقلت إليها -بطريق التجارة وغيرها- ويرجع برتولون ارتباط الحضارة اليونانية القديمة بشمال أفريقيا لاسيما تونس وليبيا"5. وفي هذا المجال لا بُدّ وأن نميز بين الوشم والوسم الذي هو: "الأثر والعلامات التي تُميز بها القبائل مواشيها وغنائمها خاصة الجمال والخيل لتحديد أصحاب هذه القطعان"6. والإنسان في كل هذا يستلهم روح الجماعة التي أمدته بمخزونها الثقافي عبر الأجيال ليكون في النهاية لوحات فنية تجد قبولاً لدى الجماعة. ويطل علينا الوشم بأنواعة المتعددة فهناك الوشم البدائي الذي يتخذ رموزاً محلية "عاطفية في الغالب" مثل: قلب يخترقه سهم قد يكون به أسماء المحبين أو أحرف من أسمائهم، أو دقات بنقاط أسفل ذقن النساء وحول الأنف وعلى ظهر اليدين. وهناك الوشم التجميلي: الذي تقوم به النساء كمكياج "تحديد الحواجب والشفاة"، وتجميل العينين بالكحل وهذا ما يطلق عيه الوشم التجاري في صالونات التجميل.

وهناك الوشم العلاجي: الذي يقوم على اعتقاد منع الحسد وطرد الأرواح الشريرة. ويعتبره الممارسون -من المرضى- وسيلة مثلى لعلاج آلام العظام والمفاصل؛ إذ يعتقدون أن الأرواح الشريرة تسكن بها، ويلجأ إلى هذا النوع المرضى الذين عجز الطب الرسمي عن علاجهم، أو تخفيف آلامهم مثل "مرضى البهاق والصدفية"، وربما يكون هذا هو السبب الرئيس في بقاء ورواج هذا النوع من العلاج.

وهناك نوع من الوشم قائم على تقريح البشرة، وهو ما زال موجوداً لدى بعض القبائل الأفريقية في السودان "ويعتمد هذا النوع على إحداث ثغرات في البشرة عن طريق سكين مدبب، ثم يفركون مواضع تلك التقرحات بأصباغ محروقة تكسب هذه الأصباغ البشرة الآدمية ألواناً مغايرة للونها الأساسي، كما تساعد على الالتئام مع بروز مواضع هذا الوشم على البشرة"7. ويعد الوشم بمثابة جواز سفر للأفراد يمكن عن طريقه التعرف على شخصياتهم، ويظهر هذا بوضوح بين القبائل في الأحراش الأفريقية، فرموز الوشم تحمل في طياتها رسالة تساعد على التواصل بين الأفراد طبقاً للمفاهيم، والقيم، والتصورات، والعادات والمعتقدات المتعارف عليها بين أفراد الجماعة.

وفي وطننا العربي يفضل الرجال رموزاً للوشم تنم عن القوة والشجاعة مثل: شخصية أبو زيد الهلالي، وعنترة بن شداد، أو رسماً لأسد، أو خطاف...إلخ. وعادة ما يتم هذا على الصدر والذراعين، وقد يكون على الظهر. أما النساء فلهن رموزهن الخاصة: الهلال، القمر، الوردة، السمكة رمزاً للخير، والحجاب درءاً للحسد والصداع، والنخلة رمزاً للخصوبة. ويفضلن تلك الرموز على جانبي الذراعين، وعلى أثدائهن، وأسفل البطن في إشارات ذات إيحاءات جنسية.

ويعد الرسم بالحناء أحد الطقوس الهامة جداً قبل ليلة الزفاف، وتعرف في الأوساط الشعبية بـ"ليلة الحنة"، وما زال هذا الطقس بما يصاحبه من رقص وأغانٍ شعبية تعبر عن هذه الليلة وما يليها "ليلة الزفاف"، ما زال هذا الطقس أحد أركان الزواج الهامة التي يحرص العامة على إتمامها.

وبعد؛ أستطيع أن أقول إن الوشم يعتبر لغة تخاطب -لها رموزها الخاصة- ولها دور كبير في المجتمعات التي لا تعرف القراءة والكتابة؛ إذ ينقل من خلالها حَمَلة التراث عاداتهم وتقاليدهم، ومعتقداتهم إلى الآخرين جيلاً بعد جيل. ويؤيد هذا الزعم ما جاء في موسوعة الديانة والأخلاق "يعتبر الوشم ضرورة ملحة بالنسبة إلى الشعوب التي تفتقر إلى وسيلة للكتابة، حيث تصبح العلامات التي تتركها آثار الوشم على الأجسام ذات أهمية، حيث يتسنى عن طريق وحدات الوشم وتعرُّف الأهالي عليها نقل عادات وتقاليد، بل والكثير من المعلومات المتوارثة إلى الأجيال الجديدة كلغة شكلية، وتصبح وحدات الوشم حينذاك رصيداً للمعلومات"8.

وسوف يظل الوشم موجوداً ما دام يؤدي وظيفة لمبدعيه ويشبع لهم حاجة.
 


الهوامش: 1. إحدى قرى مركز أشمون بمحافظة المنوفية. | 2. إحدى قرى مركز أشمون، وتعد من أشهر مناطق صناعة الفخار في القطر المصري. | 3. نرجس باديس، الأسس التخاطبية في الوشم.. مقاربة لسانية، مجلة الثقافة الشعبية، البحرين، عدد 23، 2013م. | 4. يحيى سويلم، الوشم ورموزه.. نقوش على جلود البشر، جريدة الفنون الشعبية، الكويت، عدد مايو 2013م، ص: 10. | 5. حسين محمد علي، رموز الوشم الشعبي دراسة مقارنة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2013م، ص: 34. | 6. يحيى سويلم، الوشم ورموزه.. نقوش على جلود البشر، مرجع سبق ذكره، ص: 10. | 7. حسين علي محمد، رموز الوشم العبي دراسة مقارنة، مرجع سبق ذكره، ص: 50. | 8. حسين علي محمد، رموز الوشم الشعبي، مصدر سابق، ص: 65.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها