ما إن وضعت الزوجة مولودها الأول وكان بنتاً حتى اقتربت أم الزوج من ولدها وصاحت بوجهه غاضبة
• لا أريد أن أراكم في بيتي بعد الآن!
أذعن الرجل لطلب أمه وأخذ يبحث له عن بيت صغير يلم به شمل عائلته الصغيرة ذات الثلاثة أفراد، بعد أن أخرج زوجته من صالة الولادة وأوصلها إلى بيت أهلها، احتاج إلى عشرة أيام من البحث ليأتي ويخبرها بأنه قد استأجر لهم بيتاً مناسباً قريباً من عمله، ثم وصف لها البيت بجملة مقتضبة قائلاً : البيت عبارة عن مشتمل صغير يجاور مشتمل آخر مثيل له بالمساحة والبناء.
ابتهجتْ جمعت قواها، حملتْ طفلتها ودعتْ أهلها وغادرتْ، أنزلهما سائق السيارة عند بابين صغيرين مصنوعين من نحاس صدأ أو هكذا يظنهما الناظر إليهما.
- أنها خربة! قالتْ مندهشة وهي تنزل من السيارة.
- اخترتُ البيت الذي على اليمين لأن به حديقة أمامية ردَّ عليها زوجها، وهو يفتح قفل الباب بمفتاح لم يكن جديداً أيضاً، لم تكن راضية كلّ الرضا عن هذا البيت، لكنّها وجدتْ فيه ملجأ آمناً يبقيها بعيداً عن دوامة المشاكل التي كانت تفتعلها أم زوجها كي تلهيها عن مواصلة دراستها الجامعية.
معاً نظفا البيت ورتبا الغرفة الوحيدة، وقبل حلول المساء كان المطبخ قد أصبح جاهزاً واستطاعتْ بالرغم من تعبها أن تعد طبقاً من الرز ومرق الفاصوليا، أكلا وناما.
ولأنها لما تزل تتمتع بإجازة الولادة فإنها لم تتكبد عناء الاستيقاظ الباكر، خصوصاً وأن طفلتها كانت تغط بنوم عميق، استيقظت في العاشرة صباحاً لبست نعلها البلاستيكي، الذي كان مركوناً عند عتبة باب الغرفة وسارت نحو المرحاض الذي كان مبنياً في وسط الحديقة بالقرب من باب البيت، فتحت باب المرحاض استعداداً للدخول ففزعت لوجود كائن ًسود له أرجل وبرية يزيد حجمه عن حجم كفّ يدها بكثير يطفو على ماء المرحاض.
شعرت بقشعريرة تسري في جسدها لرؤيته طافياً، أغلقتْ الباب بهدوء ثم سحبت نفسها وركضت نحو إناء بلاستيكي كبير كانوا قد استعملوه في جمع أغراضهم الصغيرة ونقلها إلى هذا بيت، أسرعتْ إليه حملته من على الأرض ملأته بالماء من حنفية الحديقة، ورفعته بصعوبة كبيرة ومشت به ببطء ثم وضعته على الأرض قرب باب المرحاض، الذي فتحته بهدوء حتى لا يشعر هذا الشيء الوبري بوجودها فيهاجمها، أو يتسلل خارجاً إلى البيت وحينها لن تستطيع السيطرة عليه كما اعتقدتْ.
جزت على أسنانها من القرف حين رأت منظر الوبر الأسود الطافي فوق الماء الآسن، شعرت بشيء أشبه بفوران القيء في جوفها لكنها تمالكت نفسها، أغمضتْ عينيها ورفعت الإناء وسكبت بقوة كل الماء دفعة واحدة عليه، سمعت ارتطام صوت الماء بالجسد الأسود ففتحت عينيها وحين لم تجده في مكانه أخذت تفتش في أركان المرحاض لتتأكد من عدم وجود كائن آخر مشابه له هنا، بعد ذلك أغلقت باب المرحاض وأعادت الإناء البلاستيكي الفارغ إلى مكانه، وأخذتْ تتقيأ.
حين تجاوزت الساعة الثالثة ظهراً بخمس دقائق عاد الزوج من عمله تغديا وشربا الشاي معاً، قصتْ له ما حدث في الصباح وكيف أنها لم تستطع أن تدخل المرحاض إلا بعد الساعة الواحدة ظهراً خوفاً من ظهور كائن آخر مماثل لما رأتْ، قاطعها وهو يحاول الصعود إلى سريره لأخذ قيلولة الظهيرة قائلاً: ظهور هذه الحشرات متوقع في الصيف.
تفاجأتْ حين لم يسألها عن تفاصيل ما حدث، ولم يكلف نفسه حتى عناء معرفة الطريقة التي تخلصتْ بها من هذا الكائن المتطفل، أو السؤال عن جنس ذلك المخلوق وهل كان عنكبوتاً ساماً أم عقرباً سوداء كبيرة.
في وقت المغرب حاولتْ أن تتناسى ما حدث فجلستْ تبحر في هدوء المكان، ذلك الهدوء الذي بدا لها أمراً جديداً وجميلاً أيضاً، بل أنّه يكاد يكون مماثلاً لفكرة الحرية التي فقدتها عند زواجها، أعجبتها جداً فكرة أن تكون هي من تتحكم في يومها، تجلس حيثما تشاء، تنام وتستيقظ متى ما تشاء، تأكل وتشرب ما تريد دونما مراقبة من أحد، لم يربك جمال هذه الفكرة سوى إحساسها بوجود كائن آخر بشع مثل الذي دمر صفو نهار كامل بحضوره غير المرحب به، نهار قضت جلَّ دقائقه الصيفية الحارة بحثاً عن شقوق وثقوب في أرجاء البيت كله تصلح لمعيشة حشرات أو حيوانات صغيرة ضارة، ولما لم تجد أثراً لمثل هذه الشقوق أو الثقوب، صار المرحاض عندها وحده مصدراً للخطر.
أخرجتْ من المطبخ كرسياً بلاستيكياً أبيض، وجلستْ في باب الغرفة وأبقتْ الباب مفتوحاً قليلاً لتستمع لصوت ابنتها التي تنام في مثل هذه الساعة من النهار وتصحو مثل الأطفال الرضع في الليل، ورويداً رويداً حلّ الغروب لم تستطع أن ترى الشمس كاملة وهي تغرق في الأفق لكنّها استطاعتْ أن ترى خيوطها الذهبية وهي تذوب بانسجام عجيب في عباءة الليل الحالكة، هالها جمال المنظر فقامت عن كرسيها كالسائرة في نومها وتوجهت حيث يوجد الزر الكهربائي، قربت سبابتها منه ورفعته إلى الأعلى فتوهج المصباح المعلق في أعلى الجدار وغطى نوره البيت بالكامل، استدارتْ لتعود إلى مكانها لكن دبيباً تسرب إلى آذنيها فاستدارت فزعة بجسدها كلّه إلى مصدر ذلك الصوت تسمرت قدميها، وفتحت فمها وبدا نبضها يتسارع ثم ما لبث أن سرتْ رعشة خوف واحتلتْ جسدها كله حين وقع نظرها على سرب من العقارب الصفراء الكبيرة، وهو يخرج من فتحة في الأرض كانت مغطاة بكومة من الرمل، وبقايا من قطع الطابوق التي استعملت في ترميم جدار البيت، حاولتْ الهروب والركض بعيداً عن سلسلة العقارب، التي بدتْ وكأن كلّ عقرب فيها مشدودة بخيط غير مرئي للعقرب التي تليها.
لكنها لم تستطع الركض بل إنها شعرتْ وكأنّها تسمرتْ إلى الأرض فجأة، لكن تذكرها لمنظر باب الغرفة المفتوح جعلها تستشعر الخطر الكبير، الذي قد يداهم صغيرتها النائمة بمجرد أن تغير تلك العقارب وجهة سيرها وتدب إلى هناك.
تمالكتْ نفسها واستجمعت قواها وركضتْ إلى الغرفة لتخرج منها بعد دقائق، وقد لفتْ رأسها بشال طويل من الصوف وارتدتْ ثوباً طويلاً يصل حتى أخمص قدميها اللتين حشرتهما حشراً في جوارب صوفية وحذاء بلاستيكي بلا كعب، أغلقت باب الغرفة بعدها بهدوء وتأكدتْ من إحكامها، ثم أسرعتْ وركضتْ إلى الجهة الأخرى من البيت لتحضر مجرفة ثقيلة بذراع خشبي كانت في إحدى زواياه، يبدو أن مالكي البيت استعملوها في زراعة حديقته التي لم تثمر بعد، حملت المجرفة بالرغم من ثقلها بصعوبة وركضت بها نحو سرب العقارب، الذي انفلت وتسرب ليغطي أجزاء كبيرة من الجدار، وبقوة شديدة ضربتْ أول عقرب فأسقطتها على الأرض، ودون أن تتأكد من موتها أردفتْ على الأخرى بضربة أشد قسوة من السابقة، وكلّما استطاعت إسقاط عقرب من الجدار كلّما ازدادت جرأة في مواجهة العقارب، التي بدتْ تتحرك باتجاهات مختلفة، حتى أن بعضها اتخذت وضع المواجهة حين رفعتْ ذيلها إلى الأعلى، فبدتْ الغدة التي تبرز في نهايته مملوءة بالسم.
لكنها نسيتْ خوفها وتعبها وهي ترى أجساد العقارب تسقط صرعى تحت وقع ضربات مجرفتها، التي كادت تسقط الجدار من شدتها، بعد مرور نصف ساعة كاملة على هذه المواجه، امتلأتْ أرض الحديقة بأجساد العقارب الميتة التي صارت تتوهج قليلاً تحت ضوء المصباح الذهبي، وقفت المرأة تتوكأ على المجرفة باحثة عن دبيب قد يصدر من تلك الأجساد النافقة، لكنّها تنفست الصعداء بعد أن تأكدتْ أن هذه البقع الذهبية السامة فقدت قدرتها تماماً على الحركة، تركت المجرفة تتهادى من يدها إلى الأرض، واتجهت نحو الحنفية فتحتها وملأتْ كفها بالماء وغسلتْ وجهها، ثم اتجهتْ نحو المطبخ، أحضرت إناء نحاسياً ممتلأً بالنفط السائل، وعلبة كبريت ووضعتهما إلى جانب الحنفية، ثم أسرعت وباستعمال مكنسة القش جمعت جثث العقارب النافقة على شكل كومة، ثم سكبتْ النفط السائل على تلك الكومة، وأشعلت عود الثقاب وقربته من الكومة، ثم عادتْ لتجلس على كرسيها وأخذتْ تراقب الجثث الذهبية وهي تزداد توهجاً باحتراقها.
وما إن تلاشى اللون الذهبي لألسنة اللهب، وتحول بالتدريج إلى رماد، حتى بدأت تنزع عنها ملابسها قطعة قطعة، ثم فتحتْ باب الغرفة بهدوء ودخلتْ، كم تمنتْ ساعتها لو أن بأمكانها أن تأخذ حماماً بارداً، لكن تململ طفلتها منعها من ذلك فأسرعتْ إليها وتفحصتْ ملابسها فوجدتها مبتلة؟
عند العاشرة مساء عاد الزوج الى البيت، وبعد أن فرغ من تناول طعام عشاءه، أخذ يشاهد لعبة كرة القدم على شاشة التلفاز، لم ينتبه لرائحة الدخان التي غطتْ البيت بالكامل، فتعجبتْ لأمر هذا الرجل الذي يبدو أنه ورث اللامبالاة من أمه، تجاهلتْ عدم اكتراثه وأجمعت كلماتها لتقول:
- هل تدري ... في هذا البيت عقارب!
- ها... هذا يعني أننا استأجرنا البيت الذي لا تسكنه الأفعى السوداء الكبيرة... جيد!.