محمد الهراوي.. رائد شعر الأطفال العربي

عبده الزرّاع

كتب أمير الشعراء أحمد شوقي قصائده وحكاياته الشعرية للأطفال متأثراً بحكايات لافونتين الفرنسي الخرافية، ما بين عامي (1892-1893)، ودعا أصدقاءه من الشعراء وقتها لكتابة شعر للأطفال والأسرة، وخاصة صديقه خليل مطران صاحب المنن على الأدب، وللأسف؛ دعوة شوقي لم تجد قبولاً لدى الشعراء في ذاك الوقت، ربما لأن ذهن الشعراء كان منصرفاً عن هذه الكتابة، لذا انصرف هو الآخر بعد فترة عن كتابة شعر الأطفال، وظلت هناك محاولات قليلة بعد شوقي، فكتب عبد الله فريج أراجيزه الشعرية عام 1893، صدرت في كتاب (نظم الجمان في أمثال لقمان)، وهو يتضمن خمسين مثلاً وضعها المؤلف في صورة أراجيز تحكي حكاية عن الحيوان، أو الإنسان أو النبات، ثم ينهي الأرجوزة بالمثل الذي انحدر إلينا من أمثال لقمان.


 مولده ونشأته 

ظل الحال على ما هو عليه من تمصير قصائد الغرب، وخاصة خرافات لافونتين الشعرية، إلى أن أتى الرائد الحقيقي لشعر الأطفال العربي محمد الهراوي الذي ولد عام 1885، ونشأ في أسرة عريقة تنتمي إلى العلم والأدب، فقد ورث ملكة الشعر عن جده كبير علماء مصر في عهد محمد علي باشا، ثم تعهد هذه الملكة بالرعاية والتنمية خال الشاعر الشيخ محمد شريف سليم، الذي كان في زمانه كبير مفتشي اللغة العربية بوزارة المعارف، وناظر دار العلوم.

ويتلقى الهراوي تعليمه العام، ويتعلم الفرنسية والإنجليزية إلى جانب علوم العربية، ثم يلتحق بعمل في دار الكتب المصرية في قسم الحسابات والمستخدمين.

ويقول الشاعر أحمد سويلم في مقدمة كتابه عن الهراوي: وكان الشاب قد استقام عوده، ونضجت موهبته، فتقدم إلى خطبة الآنسة زينب كريمة إبراهيم بك بيومي المدير العام بوزارة المعارف، وكان أيضاً ذا ثقافة فرنسية.

وينجب الهراوي خمسة أبناء هم: فاطمة، يحي، وسارة، وإسماعيل، عزة، وقد عني الهراوي بتربيتهم وتثقيفهم جميعاً، وذكر أسماءهم في أشعاره باعتبارهم ممثلين للأطفال المصريين.

وتتفجر الحركة الوطنية على أيدي مفكرين وزعماء وكتاب، أشعلوا وقود التمرد والمواجهة مع هذا العدو الدخيل، وشارك في هذه الحركة كثيرون منهم: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، والبارودي، وسعد زغلول، وحافظ إبراهيم، قاسم أمين.. وغيرهم كثير.

وفي تلك الأثناء كانت دار الكتب المصرية تتبع وزارة المعارف قبل أن تنتقل تبعيتها لوزارة الثقافة، كما كانت ملتقى للكثير من الأدباء والشعراء، مما جعل الشاعر يقترب من قلب الحركة الأدبية، وكان الهراوي كريماً ودوداً في مقابلة أصدقائه من الأدباء، فكثر مريدوه الذين يترددون يومياً على مكتبه بدار الكتب، إذ كانت تتحول هذه الجلسات إلى ما يشبه الندوة، لدرجة أن أطلق –مجازاً- على دار الكتب في ذاك الوقت "دار الهراوي" نسبة إليه.

وكان للهراوي مواقف كثيرة تحسب له، وتؤكد إنسانيته وشاعريته، ومن هذه المواقف أنه حينما وجد الأزهر لا يحرك ساكناً أمام بعض الأحداث الداخلية، كتب قصيدة بكى فيها عز الأزهر وتاريخه وأمجاده استهلها بقوله:
الأزهر المعمور أين مكانه ... سل عنه أين وأنت فوق مكانه

 مواقف إنسانية 

ومن المواقف كذلك أنه كان صديقاً حميماً للشاعر محمد عبد المطلب، فما كاد يموت عبد المطلب حتى دعا الهراوي إلى إقامة حفل تأبين له، ودعا إليه الشعراء والأدباء، وكتب مرثية طويلة بدأها بقوله:
بناتي. أخي. واليتم جمّع بيننا ... كلانا يتيم من أب مات أو وجد

ولم يقر له قرار حتى جمع ديوان محمد عبد المطلب، ولولا الهراوي لما بقي لعبد المطلب شيء يذكر. وفي حي الحلمية القديم -مسقط رأسه- كانت ندوة الأدباء والشعراء في مقهى الحلمية (العالية) أحد المقاهي الشهيرة في ذاك الوقت، وكانت تقام فيه ندوة الأربعاء يتجمع فيها الأدباء والشعراء، وكان الهراوي عضواً بارزاً فيها.

ولما كان القرن العشرين قد بدأ، وتفتحت عينا شاعرنا على وطنه الذي تتصارع فيه أكثر من قوة، فاستجاب قلمه وقلبه إلى نداء الوطنية والإصلاح، وما كان له أن يتخلف عن الركب.

يقول الكاتب عبد التواب يوسف في مقدمة كتابه عن الهراوي: متعة ما بعدها متعة، أن أعايش هذه الأشعار من جديد، لقد واكب ظهورها طفولتي، وكان أبي رحمه الله حريصاً عليها كل الحرص، ويحاول اقتناءها بكل السبل، وربما جازفنا واشترينا "سمير الأطفال"، مع ارتفاع سعرها (عشرون مليما في وقت قل فيه ثمن البيضة عن المليم)، وكانت تصل إلى الأقاليم نسخ قليلة، يتنازعها أساتذة اللغة العربية ومدرسوها، ويقبل عليها المهتمون بالتربية والأدب، وكان أبي منهم، وما إن يحصل عليها، يرجع إلى البيت حتى يبدأ في تلاوتها لي، وشرح ما صعب من كلماتها، وينصحني بأن أحفظ جانباً منها، وما زال صوته –رحمه الله- يرن في أذني ببعض أبيات هذه القصائد العذبة، المتنوعة المقاصد والأهداف، أسمعها موقعة، موسيقية، فأطرب لها وأبتهج...)، ويرى أن أهميته تكمن في أنه واصل مسيرة شعراء الأطفال من قبله وبخاصة أمير الشعراء أحمد شوقي، وتفوق عليهم جميعاً في عدة جوانب، منها: أنه لم يتوقف عند كتابة القصة الشعرية فقط؛ وإنما أضاف أشكالاً أخرى منها الأناشيد والأغاني، كما أنه لم يتوقف في الحكايات الشعرية عند القص على لسان الحيوان، وإنما أضاف إليها حكايات مصنوعة أخرى، وواكب عصره في معالجة قضايا اجتماعية ووطنية، وحرفية، فقدم للأطفال ما يحتاجون إليه في كل مجالات حياتهم، بدءاً بالتعامل مع أشيائهم وملابسهم وألعابهم، وانتهاء بمعاملاتهم مع الآخرين من حولهم.

عاش الهراوي عصر الاستعمار البريطاني الذي يعمل جاهداً على تلوين الثقافة والتعليم بما يخدم أغراضه، ومن ثم بدأ الهراوي في مقاومة هذا الاتجاه عن طريق كتابة أشعار للأطفال مستمدة من دينهم وأدبهم العربي وتاريخهم العريق، وحاضرهم المناضل، مما جعل وزارة المعارف تقرر دواوينه على مدارسها المختلفة، ويحسب للهراوي أنه قصر شعره على الأطفال، فكتب لهم: سمير الأطفال للبنين (3 أجزاء)، وسمير الأطفال للبنات (3 أجزاء)، وأغاني الأطفال، وديوان الطفل الجديد، والسمير الصغير، إضافة إلى ديوان إسلامي بعنوان: "أبناء الرسل".

☷ تنوع أسلوبه 

لقد اعتمد الهراوي في كل ما قدم على الجمع بين الترفيه والتعليم، والإعلاء من شأن القيم والأخلاق في ثوب من الإمتاع والتشويق، ومن جديد ما صاغه شعراً في هذا الوقت، قوله الذي لا ننساه جميعاً:
هل تعلمون تحيتي ... عند الحضور إليكم
أنا إن رأيت جماعة ... قلت: السلام عليكم

وقد تنوع إنتاج الهراوي بين القصص والأغاني وأناشيد الطفولة والأعياد، والسلوكيات والأقاصيص الشعرية، والتي لم يعتمد فيها على إعادة كتابة قصص مأثورة كما كان يفعل الشعراء حتى عصره؛ وإنما ابتكر حكايات جديدة، ومواقف مغايرة بين الحيوانات، ومنها هذه الحكاية "الكلب والحصان"، والتي يقول فيها:
الكلب جاء مرة ... إلى الحصان يمزح
فقام عند بابه ... يطرقه وينبح
فانتبه الحصان من ... نومه وجاء يفتح
فوقف الكلب له ... بذيله يلوح
وقال هو في وجهه ... ومال عنه يمرح
قال له الحصان خذ ... عندي كلام يفرح
فرجع الكلب له ... وقال قل ما يشرح
فقال توت في أذنه ... وعاد وهو يرمح

فهذه الحكايات تتضمن ما يسعد الأطفال ويريحهم؛ لأنها تخاطب فيهم روح المرح نفسها، كما تنمي لديهم قيم المؤاخاة بين البشر، والعطف على الحيوان لإشعارهم بأنه له مشاعر وأحاسيس، وأنه يستمتع بحياته ويفكر في المرح مع أصدقائه الحيوانات.
كما شملت قصائده التعبير عن العلاقات الاجتماعية والسلوكيات والآداب المحمودة والمذمومة، كما أنه كتب عن ألعاب الأطفال المتاحة في عصره:
دار الصف ... لفوا لفوا
لفوا الأيدي ... لف القيد
قيد الصحب ... هو في القلب
قلبي صاف ... راع وافي
وافي الود ... حسن القصد
قصدي الفضل ... أنا والأهل
أهل القطر ... هم في الصدر
صدر الزمن ... لبني وطني
وطني مصر ... ولي الفخر

والشاعر الهراوي يحرص دائماً على عرض أنواع من الحرف التي كانت ممتهنة في عصره، فهو يجلوها ويجمل صورها ليغرس في وجدان الأطفال احترام العمل والعاملين، ونحن ندرك أهمية العمل، وعدم احتقار أي مهنة أو عمل حتى حمل الحجارة على الأكتاف، وجمع القمامة وتنظيف البالوعات، فبغير هذا لا نحصل على مدنية نظيفة بديعة مزدهرة، وهذه قصيدة صانع الأحذية الصغير:
أنا امرأ حذاء ... في صنعتي غناء
أعمل فيها بيدي ... أخدم أهل بلدي
كل حذاء أصنعه ... أتقنه وأبدعه
أخرجه في موعد ... بثمن محدد
ولا أغش في الثمن ... فالغش عار في المهن

نجح الهراوي بتمكن في الكتابة الشعرية للمراحل العمرية المختلفة، بداية من مرحلة ما قبل المدرسة التي تحتاج إلى قدرات استثنائية؛ لأن قاموس الطفل اللغوي في تلك المرحلة ضيق يحتاج من الشاعر أن يبسط له اللغة لتتفق وقدراته، مروراً بمرحلة الطفولة المتوسطة، ثم الطفولة المتأخرة التي تتماس مع مرحلة المراهقة.

وقد ذاع صيته واشتهر بأنه شاعر الطفولة العربية، ورغم أنه تعرض كثيراً للنقد اللاذع من شعراء جيله، خاصة الدكتور زكي مبارك، الذي تهكم على بعض قصائده ووصفها بأنها تافهة، وكذلك الشاعر حسين شفيق المصري، الذي عارض قصيدة له بقصيدة زجلية ساخرة، ولكنه لم يلتفت ومضي في طريقه يبدع للطفل العربي، مؤمناً برسالته ومشروعه الشعري غير المسبوق، حتى نال عن جدارة لقب رائد شعر الأطفال.

وكان دائم الترحال والتنقل بين مصر والشام، وهو صاحب فكرة (سوق عكاظ وموسم الشعر في مصر، وقد كرمه أدباء لبنان عام 1933، باعتباره واحداً من الشعراء الكبار الذين أضافوا الكثير إلى الشعر المعاصر، ودعا في هذا الحفل إلى (إقامة سفارة أدبية في كل قطر من الأقطار العربية، يلجأ إليها الأديب فترشده إلى إخوانه ورفاقه وزملائه)، وكان هذا رداً على ما أبداه شعراء لبنان من أنهم مجهولون في مصر، مع أنهم يعرفون الكثير عن الشعراء المصريين.

☷ آراؤه في أدباء عصره 

كان للهراوي رأي في كبار أدباء عصره، قاله معبراً عنه دونما مواربة.. فقد قال عن الدكتور طه حسين: بأنه رجل عظيم، لكن له أراء ربما لا يتفق هو وإياه فيها، وأسلوبه واضح جلي، ولكنه لا يسعف القارئ المتعجل.

ويرى الهراوي في العقاد مفكراً قديراً معتداً برأيه، وديوانه (من وحي الأربعين) جيد النظم لا يعاب.

أما المازني فهو إذا قعد للشعر يصبح شاعراً مبيناً، ولكنه يريد في الشعر سمواً ربما لم يخلقه الله، وربما كان شعره لا يعجبه.

والأستاذ عبد العزيز البشري يمثل بكتابته وقلمه روح الأدب المصري في ظرفه ولباقته، وتوفر النكتة الخفيفة الظريفة، وكتابه (المرأة) أعجوبة العصر في تحليل الشخصيات.

أما زكي مبارك فهو صاحب الفضل في إدخال أسلوب النقد الحديث في الأدب العربي، وله جولات موفقة في تحليل المؤلفات للأدباء والشعراء ولا يبالي أن يخالف برأيه سواه من المنقودين، ما دام غرضه إصلاح نظرية النقد بصرف النظر عن حرية الرأى.

ويعدد الهراوي آراءه في العديد من أصدقائه الأدباء، أحمد الزين، ومحمد الأسمر، وحسين شفيق المصري، وعلي الجارم، وأحمد محرم، ومصطفى صادق الرافعي، وعلي محمود طه، وأحمد نسيم، وغيرهم.

ظل الهراوي يعطي للحياة الثقافية والأدبية بكل طاقته، ويكتب شعراً للأطفال مؤمناً برسالته التي نذر نفسه لها وتفرغ للدفاع عنها، ولم يستطع أن يكمل رسالته فقد اختطفه الموت وهو في عز عطائه الإبداعي، ليرحل عن دنيانا في الرابع والعشرين من فبراير عام 1939، عن عمر يناهز أربعة وخمسين عاماً، ليترك لنا تراثاً شعرياً لا يبارى.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها