الثّأرُ!

محمود مصطفى حلمي

 

"اقتله يا ولدي حتى نعيش"، هكذا قالت لي أمي وعيناها شاخصتان نحوي، لم أتخيل يوماً أن يكون الموت سبيلاً إلى الحياة، طوال حياتي لم أقتنع بكلام أمي، كانت تردد كلامها على مسامعي ليلا ونهاراً، حتى قبل أن أدرك معنى كلمة الثأر.

- أنت الرجل يا حسين، ستكبر وتأخذ بثأر أبيك، لن نرفع رؤوسنا بين الناس إلا بعد أن تثأر لأبيك. رغم ذلك حرصتْ أمي على تعليمي، أدخلتني إلى المدرسة، تدرجتُ في مراحلها وكنت متفوقاً حتى دخلتُ الجامعة والتحقتُ بكلية الطب، كدتُ أنسى أمر مقتل أبي والثأر وظننتُ أن أمي كذلك نسيْت، خصوصاً بعد وفاة قاتل أبي في حادث، جاء يوم تخرجي، دخلتُ البيت مسرعاً لأزفّ إليها خبر نجاحي، لكنها يومها فاجأتني.

- آن الأوان كي يرتاح أبوك في قبره.

أدهشتني بقولها، كنتُ قد نسيتُ أو تناسيتُ الأمر، ظننتُ أن تخرّجي هو بداية حياة جديدة لي، اعتقدتُ أيضاً أنها حين تراني طبيباً سوف تنسى أمر الثأر.

- ما زلتِ تريدينني أن أقتل يا أمي، لقد صرتُ طبيباً؛ كيف أزهق روح إنسان وأنا مكلف بإنقاذ الأرواح؟

شَخَصت نحوي بعينيها الجاحظتين اللتيْن أحاطتهما هالة سوداء، وبصوتها الجاف صرخت قائلة.

- ستأخذ بثأر أبيك، لنرفع رؤوسنا بين الخلق.

- لقد مات قاتل أبي يا أمي، كيف سأثر منه وهو جثة الآن؟

- ستقتل ابنه، ستحرم أمه منه مثلما حرمني أبوه من أبيك.

- ابنه بريء يا أمي، كيف أزهق روح شخص بريء دون ذنب؟

اقتربت مني وأمسكت بياقة قميصي وهي تصرخ.

- قتل أبوه أباك، ذنبه أنه ابنه.

- لا أستطيعُ أن أقتل حيواناً حتى، فكيف أقتل إنساناً بريئاً..!؟

ازداد شخوص بصرها نحوي.. لم أخشَ شيئاً من أمي يوماً مثلما خشيتُ تلك النظرة الجامدة، تمسكتْ أكثر بتلابيبي وجذبتني نحوها بشدة، وبصوت حاد صاحت.

- إن لم تأخذ بثأر أبيك فلن تكون ابني ولن يرضى عنك قلبي أبداً.

دمعت عيناي وتنهدتُ بحرارة، لم أنطق بكلمة أخرى وابتعدتُ عنها والحزن يملأ قلبي، انفردتُ بنفسي، وقفتُ أمام المرآة وتأملتُ وجهي وملامحي، تخيلتُ نفسي وأنا أحمل سلاحاً وأصوبه نحو صدر شخص آخر، كيف أفعل؟ هل كنتُ أتعلم طوال تلك السنوات حتى أُصبح قاتلاً في النهاية؟

تراكمتْ الهموم فوق رأسي، آلَاف الأفكار هاجمتني عنوة، لكني في النهاية لن أقتل؛ أمي امرأة عنيدة، لمْ تخلع السواد يوماً منذ أن مات أبي، تربيني منذ سنين لهذا اليوم ولن تتزحزح عما تريد، ربما لن يثنيها عن قرارها سوى ألا تجدني في هذه الدنيا، وكيف ذلك وأنا ابنها وعائلها الوحيد، حتى لو كان التشرد سيصيب حياتها لو فقدتني، حتى لو ماتت جوعاً، لو سكنت الشوارع أو التحفت بالسماء، لن يريحها سوى رؤية دماء قاتل أبي تتفجر منه.

بعد تفكير طويل توصلتُ إلى قراري، لن أقتل، لن ألوّث يديّ بدماء إنسان آخر، سوف أهرب من هنا، سألوذ بالفرار من أمي، من الثأر والدماء، لن أقتل وأقضي بقية حياتي هارباً، إن قتلته سوف يثأرون مني، وسوف يثأر أبنائي منهم، لن تتوقف هذه الدوامة أبداً، لا بُدّ أن أوقفها أنا، سوف أهرب، أختفي للأبد، حتى لو غضبتْ أمي لكني لن أقتل مهما حدث.

جهزتُ حقيبتي، وفي سواد الليل عزمتُ على الرحيل، خرجتُ متلصصاً، أردتُ أن أودّعها، قلبي يتفطر حزناً عليها، أمي امرأة مخلصة لأبي، كانت له وفية فيما عاشاه معاً، وحين قُتل ظلّت عمرها الباقي تربيني لأثأر له.

دخلتُ عليها وهي نائمة، رغم نومها كانت قسمات وجهها جامدة، غمرتُها بنظرة حانية، انحدرتْ دموعي على وجنتيّ، لم أحب في دنيتي أكثر منها، والآن أنا أهرب منها، كم يتقطع قلبي حزناً على فراقها، أرجو أن تفهم أني أردتُ أن أحميها وليس خداعها، تمنيتُ أن أرمقها كثيراً، لكني أدرتُ ظهري وخرجت مسرعاً، سرتُ أجرّ قدميّ في الشارع حاملاً حقيبتي، تنسمتُ الهواء البارد وتذكرتُ أحداث طفولتي في هذا المكان، وفجأة سمعت صوت أمي يناديني من الخلف.

توقفتُ وتسارع نبض قلبي، أدرتُ ظهري ناحيتها والتقتْ نظرات أعيننا، كانت تحمل بندقية وتصوبها نحوي، كالعادة كانت نظرتُها جامدة وعيناها شاخصتان نحوي، ابتلعتُ ريقي خوفاً مما تراه عيني، لم أكن أهاب الموت ولكني لم أتمن أبداً أن يكون موتي على يد أمي، اقتربتْ نحوي وقالت بلهجة صارمة.

- ستهرب وتتركنا للعار يلاحقنا؟

لم يجد لساني كلمات يردّ بها التهمة عني فسكتُ وانسكبتْ دموعي على وجنتي بطيئة صامتة أيضاً، أعادت حديثها وهي تقترب بالبندقية نحو صدري.

- لقد أفسدك التعليم، أنت عار على أبيك في قبره.

قلتُ بصوت محشرج:
- سأرحل لأني أحب أبي وأريد له الراحة في قبره يا أمي.

ازداد اقترابها مني وهي تصرخ بنبرة مبحوحة:
- لا تنطقها، فلست أمك.

فجأة سمعتُ صوت إطلاق البندقية، استقرت رصاصتها في صدري وتفجرت الدماء من جسدي، انتشر اللون الأحمر على ملابسي بسرعة، سقطتْ حقيبتي ونزلتُ أرضاً على ركبتيّ، نظرتُ إلى أمي وابتسمتُ، فتحتُ ذراعيّ لها، اقتربتْ مني بملامح مصدومة، للمرة الأولى منذ رحيل أبي رأيتُ دموعها تنهمر فوق وجنتيها، تغيرتْ أيضاً نظرتها التي لم أر بعينيها سواها، رمقتني بحنان، ارتمتْ بجواري ثم حملتني فوق صدرها، ضمتني إليها بقوة فسمعتُ تسارع نبضات قلبها، ارتفع نشيجها وهي تردد اسمي، أمسكتُ بيدها وشددتُ عليها بقوة وابتسمت لها قائلاً:
- أحبك يا أمي...!

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها