العلبة.. الزرقاء!

زهير اسليماني

حملتْ هاتف زوجها خِلسة، بعدما تركت طنجرة الضغط تغلي على نار حامية الوطيس، على مقربة من قنينة الغاز، والدارة الكهربائية..

لاستعجالها في البحث والتنقيب، ركبت رقماً بالخطأ دون أن تشعر، تناهت إلى أذنيها، ببحّة صوت أنثوي عذب، بعثرة من الصوت والصمت، بسبب ضعف التغطية، تدعوها لقراءة "أح.. شت.. ك.. سوف.. الرسالة في الصندوق..".

وهي غارقة في البحث والتنقيب عن العلبة والرسالة، على الرفوف.. وتحت الدرج، بين ركام الملابس والأواني.. التي سبق لها أن قلبتها -رأساً على عقب- أكثر من عشر مرات دون جدوى.. "كيف تكون هذه العلبة.. وأين هي.. وماذا في الرسالة"؟!

تسامى شواظ الطبيخ كريها، والحرارة وصلت الدارة الكهربائية، فتعالى صوت منبه الحريق، وقطع الفاصل الدارة، وعمّ الدخان أرجاء المنزل، وكادت ألسنة النيران أن تلتهم البيت.. لولا تنبه الزوج.. وإسراعهما لتدارك الموقف..

تصرفت على عجل، بإقفال أنبوب الغاز، وإشراع النوافذ على الفضاء، وفتح الصنبور على الطنجرة، إلى أن تناثر الماء فبلل الأرضية وملابس الزوج، هي كادت تنزلق وهي تحاول كبس واصل الكهرباء، فبدا المشهد شبيهاً بكارثة طبيعية أخذت المنزل على حين غرة.. أما الزوج فتصلب مندهشاً أمام ما يحدث.. "فقط أن أصل إلى العلبة التي تحوي الرسالة.. قبل أن يصير هشيماً.. وتصير الرسالة رماداً"! استوضحها عما تمتمت به.. "لاشيء.. الحمد لله على السلامة..".

قضت ثلثي الليلة باحثة في الأرجاء، حتى إن زوجها رق لحالها، فشاركها البحث ما استطاع، ولما أعاد السؤال عن ماهية هذه العلبة.. ردت "العلبة مكعبة الشكل زرقاء اللون.. فيها بعض حليي الثمين"! واستمراً في التقصي والتحري والبحث، ومسح البيت.. دون نتيجة..

"أوه وجدتها" هكذا همست مع نفسها وكأنها أرخميدس، فقد خطر على بالها أن تعود إلى هاتف زوجها، الذي أخذته واستعملته خلسة، لكن أنى لها أن تفعل ذلك!؟ ما لم تجد فرصة سانحة لذلك..

فكرت، ونظرت، ورأت أن تعد له شاياً مقوى بالياسمين والبابونج والينسون، فتوقفت عن البحث وغالبت عياءها إلى المطبخ، نضدت المائدة، ووضعت "الصينية"، صبت له الشاي بكل ود ولطافة وابتسامة، ودعته لارتشافه حتى ترتاح أعصابه مما سببته له من توتر وقلق.. وهي على أعصابها! "العلبة والرسالة ثم الطوفان".

انصاع الزوج للقرار، بما بلغ منه الجهد والتعب والنصب، بعد هنيهة، رافقته إلى غرفت النوم، مددته، خلعت عنه القميص بعدما لاحظت عليه بقع الماء والحذاء المنزلي، ثم غطته، مررت كفها على جبينه متمنية له ليلة سعيدة. تعذرت وتذرعت بضرورة غسل بعض الأواني وجلوها قبل الصباح، فالتمس منها أن تكوي معها بدلته للعمل غداً، ردت "بكل فرح، فقط ارتح.." وهي في أشد العياء والمكابرة.

عادت واتكأت جنبه، وهي تتبدى بمظهر الغارق في النوم، يطل عليها شبح الصندوق، من بين بقع الماء وغمام الدخان، وغفوة الإعياء.. العلبة والرسالة، يقضان مضجعها، ويسرعان من خفق نبضها، ويحاصران كل كيانها.. "أينهما؟ ماذا فيهما؟ من تلك التي تحدثت.."؟

الخامسة صباحاً، الزوج غارق في النوم، الهاتف يلوح على مقربة من قنة رأسه.. الماء والدخان والحريق.. التقطته بلهفة، كبست على آخر رقم رُكب من هاتفه، فإذا بهاتفها يرن..

والدهشة تستغرقها والحيرة تغشاها، مسحت سطح الشاشة -بعينيها- فإذا بأيقونة الرسالة تومض أعلى الشاشة، فتحتها، وقرأت علبة الرسائل: "هذا نص الرسالة التي توصلتم -صوتيا- بها.. "أحبك.. اشتقت إليك.. أتصل بك عندما أفرغ.. يا يوسف"!

تذكرت أنها سبق وبرمجت هاتفها، عندما لا تستجيب لمكالمة زوجها، على الرد التلقائي بتلك العبارة الفخمة والنبرة الغاوية تطييباً لخاطره..

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها