معنى الحياة في العالم المعاصر!

 نحو رؤية إيتيقية

خالد المجناوي


سؤال معنى الحياة، هو سؤال قديم حديث، طُرح منذ آلاف السنين، وما زال يُطرح بحدة كبيرة في عالمنا المعاصر. بل يمكننا القول، ودون أن يكون في هذا الأمر مبالغة، إن أول قضية نظرية اهتم بها الفكر البشري هي معنى الحياة. ويكفي أن نعود إلى أقدم عمل أدبي في تاريخ الحضارة الإنسانية، أي ملحمة جلجامش، والتي يعود تاريخها إلى سنة 2100 قبل الميلاد، لنتبين بأن السؤال الجوهري الذي تناولته هذه الملحمة لم يكن إلا سؤال معنى الحياة؛ إذْ يروي هذا العمل الأدبي، باختصار، قصة حاكم يُدعى جلجامش، وقد كان طاغية، وبسبب طغيانه وبطشه، ستقرر الآلهة خلق نِدٍّ له هو أنكيدو كي يُخلِّص الناس منه. غير أن ما سيحصل هو أن أنكيدو سيصير صديقاً لجلجامش، وسيقرر الصديقان خوض مجموعة من المغامرات معاً؛ لكن الآلهة ستقرر معاقبة جلجامش وأنكيدو بعد أن ارتكبا خطيئة، بحيث سيموت أنكيدو وسيبقى جلجامش وحيداً. سيقرر جلجامش، بفعل تأثره بموت صديقه، البحث عن سر الخلود؛ غير أن بحثه هذا سيبوء بالفشل، وسيقرر، في نهاية المطاف، التصالح مع الحياة وتقبل فكرة الموت. ومنذ ملحمة جلجامش إلى يومنا هذا، لم يتوقف الإنسان عن طرح سؤال معنى الحياة، حتى إنه باستطاعتنا القول إن كل ما أنتجته الحضارة البشرية من فلسفات وفنون وأديان لم يكن إلا جواباً ممكناً عن هذا السؤال الملحّ.

لكن ما الذي يفسر إصرارنا الدائم على طرح سؤال معنى الحياة؟ هل لأن الأجوبة التي قدمتها البشرية في سعيها لمقاربة هذا السؤال لم تكن شافية؟ أم لأن هذا السؤال يفترض عدة إجابات تختلف من عصر إلى آخر؟

لا يخفى على أحد بأن الإنسان المعاصر يعيش أزمة معنى، وهي أزمة بدأت تتشكل منذ الحرب العالمية الأولى، وتزكت خلال الحرب العالمية الثانية؛ فقد اكتشف الإنسان المعاصر بأن السرديات التي كان يحتمي بها هشَّةٌ وجوفاء، وأن حقيقة العالم هي الدمار والموت والشر والعدم المطلق. لم يعد الإنسان المعاصر، أمام الفظاعات التي وجد نفسه أمامها، يؤمن بأي شيء؛ فقد فقدت فكرة السعادة عنده قيمتها، ولم يعد يعترف بأي شكل من أشكال حضور المقدس داخل العالم، وصار التاريخ عنده جماعاً من الأحداث المتنافرة، بدل أن يكون مساراً خطياً له غاية ومعنى كما ادّعى فلاسفة الأنوار. ولذلك فإننا نجد داخل الحقبة المعاصرة تياراً فلسفياً كاملاً حاول أن يعبر عن هذه الأزمة التي يعيشها الإنسان المعاصر، وهو التيار الذي عُرف بفلسفة العبث La philosophie de l’absurde، وقد كان الفيلسوف الفرنسي ألبير كامي من أبرز رواده. لقد دافع هذا التيار الفلسفي عن فكرة واضحة، لكنها كفيلة بأن تقض المضاجع؛ ذلك أن فلسفة العبث تقر بأن الحياة ليس لها معنى، وأن ما يحصل داخل العالم من أحداث ليس إلا وليد الصدفة؛ وأن ما ينتظر الإنسان بعد ولادته هو الشقاء والبؤس واليأس. قد يبدو هذا الكلام عدمياً، لكنه كان يصف حقيقةً وضع الإنسان المعاصر، إنسان اكتشف زيف الخطابات التي كان يرددها أسلافه؛ ولعل هذا هو ما يفسر انتشار النزعات الإلحادية بشكل كبير في أوروبا خلال القرن العشرين.

هل تغير الوضع خلال القرن الواحد والعشرين؟

قطعاً لا، فالشر ما زال قائماً، وطبول الحرب دُقت من جديد في العالم كله، في أوروبا وإفريقيا والشرق الأوسط، والرغبة في الإبادة والقتل والتدمير ازدادت واتخذت أبعاداً جديدة، وصارت الشرعية تستمد من الإمعان في ممارسة العنف والقوة. بل يمكن القول إن الوضع قد ازداد سوءاً، فمع التقدم التكنولوجي الذي بات يعرفه عصرنا، وانحسار دور الثقافة، وتلاشي القيم والمبادئ، صار الإنسان سجين عالم خاص، عالم يخلو من الروابط الإنسانية، ويعزز الشعور بالغربة والوحدة والانعزال، ولعل هذا هو ما انعكس على تصور الإنسان المعاصر عن معنى الحياة، بحيث غدت الحياة في نظره عبثية ولا معنى لها. وهذا أمر تؤكده الإحصائيات، ففي سنة 2017 مثلا، خلصت دراسة أنجزت في فرنسا -وهذه الدراسة يوردها الفيلسوف الفرنسي برتراند فرجلي Bertrand Vergely في كتابه "هل للحياة معنى"؟ Notre vie a un sens ?- إلى أن شخصاً واحداً على الأقل من بين خمسة أشخاص يعاني من الاكتئاب، وأن هناك 49000 حالة وفاة نتيجة شرب الكحول، كما أن هناك 220000 شخص حاولوا الانتحار، و10524 شخصاً انتحروا بالفعل (Bertrand Vergely, Notre vie a un sens !, p.13). في ظل هذا الوضع، يصير سؤال معنى الحياة، في نظر الإنسان المعاصر، سؤالا بلا معنى؛ لأن الوقائع تؤكد بأن المعنى لم يعد موجوداً، أو أنه لم يوجد من قبل قط؛ وأنه لا فائدة من تحويل هذا السؤال إلى قضية نظرية، لأنه في النهاية لا يمكن أن نضيف شيئاً، فالمعنى لا وجود له، وهذا الجواب في حد ذاته كافٍ.

هل ينبغي أن نتوقف عند هذه الحقيقة المفزعة؟ حقيقة أن عالمنا المعاصر يعيش أزمة معنى، وأن الحياة لم تعد لها أي قيمة، وأن ما يوجد على الحقيقة هو الشر والموت والعدم؟ في الحقيقة إن ما قلناه إلى حدود اللحظة لا يضيف شيئاً جديداً، فالجميع يعرف بأن هناك أزمة معنى، لكن لا أحد يعرف علة هذه الأزمة. أين يكمن الخلل إذن؟ هل في الحياة ذاتها، أم في الإنسان؟ بعبارة أخرى، من أين تأتي أزمة المعنى التي يعيشها الإنسان المعاصر؟

إنها تأتي، في تصوري، من أن الإنسان يعتقد بأن المعنى موجود في العالم سلفاً، وأن هذا المعنى هو الذي باستطاعته أن يبرر فعل الحياة، وأن يضفي قيمة على سلوكات الناس وتطلعاتهم. بيد أن الواقع هو على خلاف هذا الأمر تماماً، ذلك أن المعنى ليس موجوداً بشكل قبلي في العالم، فهو ليس كنزاً مخفياً ينتظر من يعثر عليه كي يخلص البشرية من أزمة المعنى، بل هو شيء نخلقه وننتجه باستمرار. على هذا الأساس، فإن عبارة "البحث عن المعنى" La quête du sens ليست سليمة، أو لنقل إنها لا تضع أصبعها على جوهر المشكل؛ ذلك أن المشكل الحقيقي لا يكمن في البحث عن المعنى، بل في كيفية إنتاجه وخلقه. فبدل أن يستفرغ الإنسان المعاصر جهده في البحث عن معنى مفقود -وهو جهد سيكون محكوماً بالضرورة بالفشل- يتعين عليه أن يجتهد في خلق معنى ما، معنى بمقدوره أن يدفع الإنسان إلى التشبث بالحياة رغم كل آلامها ومآسيها.

هناك مقولة جميلة للشاعر الألماني هولدرين، يستعين بها كثيراً الفيلسوف الألماني هايدغر في تشخيصه للأزمة التي يعيشها العالم المعاصر، وهي أزمة يختصرها في هيمنة التقنية على كل مناحي الحياة. هذه المقولة هي كالتالي: "لكن حيثما يكون الخطر، ينمو المنقذ". ما علاقة هذا الكلام بموضوعنا؟

إننا لا نستطيع أن ننفي حقيقة كوننا نعيش أزمة معنى، لكن هل ينبغي أن نسلم بهذا المعطى، وننتهي إلى السقوط في نزعة عدمية تذم الحياة والعالم والواقع، وتمنع بالمطلق إمكانية الحياة؟ الحقيقة أن قولة هولدرلين هذه تمثل ترياقاً لنا، فهولدرلين يقول لنا، بكيفية غير مباشرة، إنه في اللحظة التي ستتبدى لنا فيها الحياة باعتبارها تراجيدياً وشراً مطلقاً، سيتبدى لنا في الآن نفسه ما بمقدوره أن يمنح المعنى لحياتنا ووجودنا: وهذا المعنى لن يكون، في تصوري، سوى العمل على تزكية الحياة ذاتها Vivons le simple fait de vivre؛ ففي عالم اليوم، المليء بالحروب والنزاعات والشرور، والذي يتهدده باستمرار خطر الأسلحة النووية، صار مطلب الحفاظ على الحياة معنى في حد ذاته، وحافزاً يدفع الأفراد إلى العيش من أجل ضمان استمرارية الحياة. على أن المقصود بالحياة هنا ليس حياة الأفراد فحسب، بل الحياة كلها على سطح كوكب الأرض، الحياة من حيث هي قوة كامنة في الوجود. هكذا يصير الحفاظ على الحياة مشروعاً ينخرط فيه كل فرد داخل العالم، وتصير الحياة، بالنسبة للأفراد، تجربة تستحق فعلا أن تعاش، لأنها تخدم مشروعاً أعم وأهم هو الحفاظ على الحياة. إن الخطر الذي يتهددنا إذن هو غياب المعنى، لكن هذا الخطر عينه سيكون حافزاً لنا لخلق معنى ننقذ به أنفسنا والعالم من حولنا؛ فكلما زاد اقترابنا من الخطر، يقول هايدغر، كلما بدأت الطرق إلى المنقذ تلمع بجلاء أكبر [مارتن هايدغر، كتابات أساسية، الجزء الثاني، ص: 197].

يفضي هذا الكلام الذي قلناه إلى نتيجة في غاية من الأهمية، وهي أن سؤال معنى الحياة لا يصير مسألة خلاص فردي، بل يصير مسؤولية وواجباً أخلاقياً؛ أي أن الفرد لم يعد مطالباً بإنتاج معنى يخصه هو، معنى يستطيع أن يدرأ عنه شعور الخوف والقلق والحزن الذي يستبد به، بل صار مطالباً بأن ينخرط في مشروع يمنح المعنى للبشرية برمتها؛ وهكذا ستندحر تلك السلوكات السلبية التي تنتشر بقوة في عالمنا المعاصر، مثل الأنانية والانطواء والرغبة في الإيذاء، وستتعزز في المقابل قيم الإيثار والتعاون والمحبة والعيش المشترك.

في النهاية، كيف يمكننا أن نزكي فعل الحياة؟

تزكية فعل الحياة تتحقق من خلال الانتصار للحياة، والإحجام عن كل السلوكات التي تعرقل فعل الحياة، مثل القتل والحرب والإبادة والانتحار. فالطبيب يزكي الحياة حينما يبذل كل ما في وسعه لإنقاذ مريض، ورجل الإطفاء يزكي الحياة حين يستخدم خراطيم المياه لإخماد حريق، والمهندس يزكي الحياة حين يبتكر تصاميم هندسية لا تشكل خطراً على أرواح البشر، والمحامي يزكي الحياة حين ينتفض في وجه الظلم والجور والاعتداء، والسياسي يزكي الحياة حين ينهض بمهمة خدمة المواطنين وتحقيق مصلحة الناس، وكل فرد، في بيته أو في عمله، يزكي الحياة حين يقول "نعم" في وجه الحياة رغم صعوبتها وقساوتها.

يقول الفيلسوف الألماني نيتشه في الشذرة 56 من كتابه "ما وراء الخير والشر": "إن النموذج الأمثل للإنسان الأكثر مرحاً، والمفعم بالحياة، هو ذاك الذي يقول بفخر نعم للحياة، ذاك الذي لا يستسلم بسهولة لما يحدث ولما يوجد، ولا يكتفي فقط بتعلم كيفية تحمل هذا الذي يقع؛ بل يرغب، وعلى النقيض من ذلك، في عودته من جديد وإلى الأبد، على النحو الذي حدث به في الماضي ويحدث به الآن، صارخاً بقوة وشوق: لنعد هذه الحياة من جديد" (Friedrich Nietzsche, Par-delà le bien et le mal, p. 59). بيد أن تزكية الحياة ليست مسألة تقع على عاتق الأفراد وحدهم، بل هي رهان كل الدول والحكومات؛ فلا يمكن للحياة أن تزدهر وتستمر في ظل سياسات لا يَنتُج عنها سوى الحرب، ولا يمكن أن نضمن للأجيال القادمة حقها في الحياة وبعض الدول ما زالت تُلوِّح بإمكانية العودة مرة أخرى لاستخدام القنبلة الذَّرية. ولذلك فإن تزكية الحياة، باعتبارها ما يمنح المعنى لوجودنا في عصرنا الراهن، هي مشروع شامل ينخرط فيه الجميع، انتصاراً للحياة، وانتصاراً للأمل، وللسعادة، وللمستقبل المشرق.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها