
المسافة والانبهار:
إنّه أحد الشخصيات البارزة في الفكر الأدبي والفلسفي في القرن العشرين؛ إذ يستكشف موريس بلانشو (1907-2003)، في كتاباته مفاهيم فريدةً للأدب في وقته وعصرنا، وحتى للصورة والفن مفككاً النماذج الجمالية التقليدية. عمله النقدي الفكري الذي يتسم بالتأمل الوجودي والفينومينولوجي يفتح مساحة على تشابكات أدبية وفكرية وفنية، وفي مؤلفه المتاهي "الفضاء الأدبي"1، ينفتح بلانشو على ثيمات العمل الفني والفن والصورة -وهي الموضوعات التي تهمنا ههنا. لا تصير الصورة، بالنسبة لصاحب "الكتاب الآتي" انعكاسًا أمينًا للواقع، بل قوة إخفاء، وحضورًا ينسحب إلى الغرابة والآخرية. ومن خلال مجموعة من مؤلفاته ونصوصه، يطور مؤلف "محاورة لا تنهي" فكرًا لا تنتمي فيه الصورة إلى نظام التمثيل، بل تعمل بوصفها قطيعة، وهوة بين المرئي والكائن، بين الفن والعالم. ويستمر هذا الإمعان في التأملات التي يضعها بلانشو حول الفن والغرض الفني والصورة، والتي تتسم بمسافة لا نهائية بين الشيء ومظهره، والموضوع وهويته الخاصة. وبهذا المعنى، فإنها (أي الصورة) تحقق قطيعة مع الواقع من خلال خلق مسافة لا نهائية بين نفسها وبين مرجعها. و"هي تتحدث إلينا، ويبدو أنها تتحدث إلينا بشكل حميمي عن أنفسنا"2.
يربط بلانشو هذا المفهوم للصورة بنوع من الانبهار، وهي حالة يتم فيها امتصاص النظرة من خلال ثبات الصورة وحيادها. ويرى أن الانبهار يحول المشاهد إلى شاهد سلبي، غير قادر على فهم الصورة أو الهروب من قبضتها. تكشف هذه العملية أن الصورة ليست مجرد غرض إدراكي، بل هي تجربة فينومينولوجية معقدة تستحضر اللامحدد واللانهائي. يقول: "لماذا هذا الانبهار؟ إن الرؤية تفترض المسافة، وقرار الانفصال، والقدرة على عدم الاتصال وتجنب الارتباك في الاتصال. إن الرؤية تعني أن هذا الانفصال أصبح مع ذلك لقاءً"3. هكذا يتحقق -بلغة أهل الرياضيات- "الاتصال بالانفصال".
لهذا تتميز الصورة عند بلانشو بشكل جذري عن التمثيل المقلد؛ لأنها لا تسعى إلى إعادة إنتاج الشيء أو الكشف عن معناه. فهي تمارس الانفصال عن الواقع من خلال تأكيد استقلاليتها فيما يتعلق بالمعنى.
وما يميز الصورة حسب بلانشو هو انسحابها: فهي تدفع الشيء بعيدًا بدلاً من جعله في متناول اليد. الصورة في هذا الإطار لا علاقة لها بالمعرفة أو الوضوح العقلاني؛ إنها تنتمي إلى نظام غامض ومتحرك، حيث يتوقف الشيء عن كونه نفسه ليصبح "آخر". وبهذا يحدد بلانشو جمالية المسافة، حيث تنفصل الصورة عن مرجعها، مما يخلق انقسامًا غير قابل للاختزال. إن هذا التباعد الجذري يجعل من الصورة مساحة للتجوال والافتتان. يصبح مكانًا للتوقف حيث يصبح الإدراك مضطربًا، حيث لا يمكن للنظرة أن تمتص إلا حضورًا يفلت منا. تشكل هذه المفارقة جوهر تفكير بلانشو: الصورة هي الحضور والغياب في الوقت نفسه، فهي تجذب وترفض، وتؤكد وتخفي.
لا يمكن فهم تجربة بلانشو للصورة دون النظر إلى علاقتها بالزمن والخيال. وهو ما يتجسد من خلال تلك التبادلية بين الموضوع والشيء في هذه الدينامية الخيالية. فبالنسبة لبلانشو، الصورة ليست أبداً انعكاساً بسيطاً ومخلصاً. بل إنها، على العكس من ذلك، تغيير وتشويه للشيء والموضوع معاً. نجد هذه الدينامية في أعمال بلانشو الخيالية، حيث تتفتت هويات الشخصيات وتنقسم لتتحول إلى صور غير مستقرة وغامضة. في كتابه السردي "من لم يرافقني"، على سبيل التمثيل، تصبح "أنا" الراوي ممثلاً ومتفرجاً في الوقت نفسه، وينقسم إلى "شخص" مجهول يعكس صورة غريبة وغامضة. إن هذا التحلل للهوية، حيث تصير "الأنا" صورة عن نفسه، يكشف عن مسافة لا يمكن التوفيق بينها بين الموضوع ووجوده. وتؤكد هذه العملية على الطبيعة الخيالية الأساسية للصورة في بلانشو: فهي لا تشير إلى واقع خارجي، بل إلى داخل غير مستقر، حيث تضيع الهوية في فضاء من عدم اليقين.
ومن هذا المنظور؛ فإن الخيال عند بلانشو ليس إسقاطًا حرًا للعقل، بل هو مكان تفقد فيه الأشياء جوهرها وتصبح مظاهر عائمة. الصورة، بعيداً عن كونها نافذة على العالم، هي مرآة مشوهة تعكس واقعاً مختلفاً دائماً. يكتب في موضع آخر: "يشتمل الخيال على غياب مطلق، فهو يشكّل عالماً موازياً يمتلك في اكتماله وجوداً مستقلاً عن الواقع الملموس، إذا صح التعبير. ولا يمكن للرمز أن يوجد إلا باستيفاء هذا الشرط. ويقف هذا الشرط نفسه، الذي يحرك جميع المسارات السردية، حاجزاً أمام انحصار الرمز في معنى محدد، أو تحوله إلى مجرد معنى ثابت، من خلال عملية نفي مستمرة"4.
ومن ثمة؛ فإن هذا المفهوم للصورة بعده اختلاف جذري يجد صدى في تفكير بلانشو حول الفن. إن العمل الفني، على حد قوله، يتسم بالتوتر بين المحدود واللانهائي، بين الإنجاز وعدم الاكتمال. إنه لا يتحقق بشكل كامل أبدًا، لكنه يظل دائمًا في عملية التطور، في حالة من الانفتاح الدائم. وما يحدد العمل الفني -بوصفه صورة- ليس قدرته على التمثيل أو الدلالة، بل قدرته على الوجود كحدث. يكتب بلانشو أن العمل "هو" دون أن يكون مكتملًا أو غير مكتمل. يقع في منطقة من عدم التحديد حيث يفلت من أي تصنيف. ترتبط هذه الشخصية المراوغة في العمل ارتباطًا وثيقًا بأسطورة أورفيوس، التي يعيد بلانشو زيارتها في "الفضاء الأدبي". أورفيوس، في محاولته لالتقاط صورة يوريديس، يفقدها مرة أخرى. الفن، على المنوال نفسه، هو بحث عما لا يمكن الوصول إليه، ومحاولة للإمساك بما يتراجع دائمًا في اللحظة التي يبدو أنه تم الوصول إليه. وهكذا تصبح الصورة الفنية مكان لقاء مع غير المرئي، مع ما يهرب من النظرة واللغة. ويصير الفن تحقيقاً لنظرة أورفيوس، إذ "إن نظرة أورفيوس هي الهدية النهائية التي قدمها أورفيوس للعمل، وهي الهدية التي يرفضها، حيث يضحي بها من خلال حمل نفسه، من خلال الحركة المفرطة للرغبة، نحو الأصل وحيث يحمل نفسه، إلى ما لا يتوقعه، نحو العمل. مرة أخرى، نحو أصل العمل"5.
التوتر بين المحدود واللانهائي: الفن وغرضه
إن تفكير بلانشو في الفن ينطلق بشكل عميق من التقاليد الجمالية الكلاسيكية التي تعطي الأولوية للتمثيل والانسجام والجمال الشكلي. وهو أقرب إلى فلسفات الوجود واللغة، ولاسيما فلسفات هايدغر ونيتشه. مثل هايدغر، يرى بلانشو في الفن وسيلة لكشف الوجود، لكنه يصر على حقيقة أن هذا الكشف ليس كاملاً أبداً. إن العمل الفني لا يكشف عن الوجود في مجمله؛ بل إنه يظهر غيابه وانسحابه. من جانبه، ألهم نيتشه بلانشو باستكشافه للعودة الأبدية والزمن الدوري، وهو ما انعكس في فكرة بلانشو عن التداخل.
ويتميز العمل الفني بالنسبة لبلانشو، بالتوتر بين المحدود واللانهائي. ويكتب أن العمل -فنياً كان أو أدبياً- "ليس مكتملًا ولا غير مكتمل: إنه موجود"6. تعكس هذه المفارقة فكرته التي تقول إن الفن لا يهدف إلى إنتاج حقيقة نهائية أو جمال متجمد، بل إلى فتح مساحة حيث يمكن للوجود أن يتجلى في غيابه.
ويبدو هذا المفهوم واضحاً بشكل خاص في تحليله لأسطورة أورفيوس. الفن، مثل نظرة أورفيوس، يسعى إلى استيعاب ما هو أبعد من المرئي، ما يفلت منا باستمرار. وتصبح الصورة الفنية حينها بمثابة نقطة لقاء بين المرئي وغير المرئي، وبين الممكن قوله وما لا يمكن قوله. ويحوّل العمل الفني كل شيء إلى واقع، حيث إن "الفن واقعي من خلال العمل الفني، والعمل الفني واقعي لأنه يتجسد في العالم ويساهم في تحقيقه"7.
يبتعد بلانشو عن التقاليد الجمالية الكلاسيكية التي تقدر الوضوح والانسجام والتمثيل الأمين. إن تفكيره يتماشى أكثر مع النهج الوجودي وما بعد البنيوي، حيث يعتبر الفن مساحة للتساؤل الجذري. وهو ينتقد ضمناً مفاهيم مثل "الجمال المثالي" أو "المحاكاة" الأفلاطونية، مؤكداً على عدم استقرار المعاني وتعددها. ويتحدى مفهوم موريس بلانشو للصورة والفن الأطر التقليدية للجماليات من خلال التأكيد على الإخفاء، والفتنة، وعدم الاكتمال. من خلال ربط الصورة بالخيال واستكشاف قوتها في الاختلاف، يدعونا بلانشو إلى إعادة التفكير في علاقتنا بالفن والواقع، وحتى القواعد، إذ "عندما يلتزم الفنان بقوانين عصره، فإنه يتعرض ليس فقط لخطر إخضاع العمل الفني، بل أيضًا للتخلي عنه، وعن نفسه، وفاءً لتلك القوانين"8، يقول. وهو بهذا يدعو إلى تجاوز القواعد من أجل الإبداع والابتداع.
يعيد بلانشو استفهام ومساءلة العديد من الأفكار والرؤى التي أنتجت تصوراً حول العمل الفني -بوصفه أيضاً صورة- والفن، مستحضراً ما كتبه أندري جيد في عام 1934، حيث قال: "لفترة طويلة، لن يكون هناك حديث عن العمل الفني". ومن الجدير بالذكر أن هيغل، قبل قرن من ذلك، قد بدأ محاضرته الضخمة عن الجماليات بهذه العبارة: "الفن بالنسبة لنا شيء من الماضي". هذا الحكم، وفقًا لبلانشو، هو نقطة تأمل للفن، وهو ليس حكمًا يمكن للفن دحضه ببساطة لأن الأدب والفنون البصرية والموسيقى قد أنتجت منذ ذلك الحين أعمالًا رائعة. عندما تحدث هيجل، كان يعلم أن غوته لا يزال على قيد الحياة، وأن جميع الفنون في الغرب قد شهدت نهضة تحت اسم الرومانسية.
ماذا كان يقصد هيغل، الذي لم يكن يتحدث "بعبثية"؟ لقد كان يعني بالتحديد أنه، منذ أن أصبح المطلق عملًا واعيًا في التاريخ، لم يعد الفن قادرًا على إرضاء الحاجة إلى المطلق. لقد أصبح الفن داخليًا فينا، ولكنه فقد واقعيته وضرورته. كل ما كان فيه من حقيقة أصيلة وحياة ينتمي الآن إلى العالم وإلى العمل الفعلي داخله. إذ يخبرنا بلانشو دائماً في فضائه الأدبي -الفني: "[الفن] منفياً داخلنا"، هكذا يقول هيغل، بمعنى أن الفن أصبح محصوراً في تمثيلاتنا، حيث تحوّل إلى متعة جمالية، تسلية، ولذة حميمة لا تتجاوز ذاتها. ومع ذلك، فإن هذا "الداخل" الذي لجأ إليه الفن كان محاولته الأخيرة لاستعادة سيادته، تلك القيمة التي لا تقبل القياس أو التقييم، كما وصفها رينيه شار بأنها "قيمة لا تُقيّم"9.
وفي هذا السياق، لم يعد الفن يتجلى في العالم الخارجي، بالمعنى الهيغلي، بعدّه انعكاسًا أو أداة لفهم العالم، بل يتحول إلى تجربة جمالية بحتة، منفصلة عن أي وظيفة اجتماعية أو عملية. إن هذا المنفى من العالم الخارجي هو علامة على الحداثة حيث يتم تقليص الفن إلى نشاط تأملي، وسعي إلى المتعة والتأمل. وهذا يستحضر حالة حيث يصبح الفن أسيرًا للذاتية الإنسانية، وهو سعي لا يطمح إلى عالم خارجي بل إلى متعة داخلية.
ومع ذلك، يشير بلانشو إلى أن هذا المنفى الداخلي، على الرغم من اختزاله، يشكل محاولة أخيرة للفن لاستعادة سيادته، بعده يمتلك قيمة يصعب قياسها، وهي قيمة تفلت من كل حكم وترفض كل تقييم، أو حتى كل تبرير.
يبني صاحب كتاب "كتابة الفاجعة"، هذا التوتر بين "الداخل" و"الخارج"، بين داخلية الذاتية وخارجية العالم. إن هذه المعارضة، الموروثة من ديكارت والمعززة من قبل هيغل، تجد حلاً (ولكن أيضاً امتداداً) في جدلية ماركس. ويؤكد بلانشو أن الفن، مثل الفكر، يجد نفسه في صراع متواصل للسيطرة على هذه الجدلية بين استقلالية الذات وموضوع العالم الخارجي.
يحاول الفن، مثل الفلسفة والأدب، التوفيق بين هذا الصراع، لكنه لا ينجح مطلقًا في التغلب على أحد القطبين لصالح الآخر. وهو بذلك يبقى في حالة "رفض" للمنطق الذي يفرضه العالم العملي والموضوعي، و"النفي" أيضاً؛ ويصبح هذا الرفض والنفي معاً بحد ذاتهما شكلاً من أشكال الإبداع، و"كرماً" يتكشف بلا مبرر، من خلال "العبث". ويتجلى هذا الرفض نفسه في علاقة الصورة بالغرض ذاته، حيث يقول بلانشو: "لدينا الغرض أولا، ثم تأتي الصورة، وكأن الصورة ليست سوى مسافة، ورفض، ونقل للغرض"10. بينما يبرز النفي ذاته بوصفه "شرط النشاط الكلي في الفن والأدب"11. ولا يفصل صاحب "قسمة النار" بين الأدب والفن في تأمله الفكري؛ إذ يتمتعان بالغاية نفسها، لهذا يضع كافكا إلى جانب فان غوغ، ومالارمي في السياق ذاته حديثاً عن بيتهوفن.
ولا يكتفي الفن بأن يكون مجرد نشاط إنساني؛ بل يسعى إلى طرح سؤال ليس له إجابة فورية، وهو سؤال يتكشف في مجال لا تستطيع الثقافة والضرورة الاجتماعية والأداء المادي اختراقه. لهذا يتساءل بلانشو عن وجود الفن ذاته في عصر يبدو فيه أن الفن لم يعد قادرًا على أن يكون نشاطًا حيًا. لم يعد الفن شكلاً من أشكال التطور الإنساني، بل أصبح منطقة مقاومة للثقافة، منطقة يرفض فيها الفن والفنان أي إغراء للخضوع لقواعد "العالم" ومنفعته. ويصبح هذا مجالاً لـ"الانعكاس"، أي العالم المقلوب رأساً على عقب، حيث يصبح مبدأ الفعل البشري والمنطق العقلاني موضع تساؤل.
التحدي الرئيسي الذي يواجهه بلانشو في هذا النص هو مكانة الفن في عالم متزايد العقلانية، حيث تهيمن التقنية والإنتاج المادي. وهكذا يجد الفن نفسه في موقف متناقض: فهو مرفوض من قبل العالم العقلاني، ولكنه ضروري لفهمه أيضًا؛ لأنه يعكس ما هو أعمق ما هو إنساني وغير عقلاني في الوجود.
حدد بلانشو هذه المفارقة في حالة الفن الحديث: من ناحية، يمكن اختزال الفن في فعل تقني أو جمالي بسيط، ولكن يجب عليه أيضًا، من أجل تحقيق كامل، الانسحاب إلى مجاله الخاص، برفض جميع المعايير. والاتفاقيات. وهذا الانسحاب إلى الداخل يصبح بالتالي شكلاً من أشكال التمرد ضد السلطة الخارجية، سواء المجتمع أو الدولة، ويصبح الفنان "الأنا الفنية"، والسيد الوحيد على عمله. وعلى العمل الفني أن يضل دائماً في حالة مقاومة وألا يضعف، فهو لا يتحقق إلى بوصفه "وحدة ممزقة"12، أو بتعبير آخر إنه أنا متعددة، وذات معرضة للشتات.
إن هذا التراجع إلى فردية وذاتية الفنان، حسب بلانشو، يمثل ولادة "الذات الملكية"13، وهو موقف يضع فيه الفنان نفسه، رغم انقطاعه عن العالم، فوق القوانين والقواعد التي تحكم الإنتاج الفني العادي. يصبح الفن في هذه الحالة نشاطاً يلجأ إلى المطلق، في التخلي الكامل عن الأهداف العملية، والتركيز فقط على التعبير عن الفرد.
يثير بلانشو سؤالاً حاسماً: لماذا رأى الفنانون والكتاب الرومانسيون، مثل هولدرلين، ومالارمي، وريلكه، وغيرهم، في الفن بحثًا عن السمو، ومحاولة للوصول إلى شيء أعلى من الجمال الجمالي البسيط أو المنفعة البراغماتية؟ إن هذا السعي نحو السمو يتجاوز الفن بوصفه مجرد مرآة للحقائق الإنسانية، سعياً إلى ملامسة المثل الأعلى أو المطلق الذي يفلت من كل فهم عقلاني. ويعود أيضًا إلى مسألة النقد الاجتماعي وتأثير الفن. الفنان، عندما ينسحب إلى هذا المجال الحميم، لا يسعى بالضرورة إلى إحداث تأثير مباشر أو ملموس على العالم. على العكس من ذلك، يصبح الفن شكلاً من أشكال تأكيد الوجود، ونوعاً من المقاومة ضد النظام القائم. إن الرفض في الفن، على الرغم من أنه يبدو بمثابة رفض لكل قيمة نفعية، إلا أنه في الواقع يصبح الشكل الأكثر نقاءً للإبداع. من خلال الإبداع دون مبرر، يعطي الفنان دون توقعات، ويمنح الإنسانية مساحة من الحرية الجذرية.
ومن ثمة بالنسبة لبلانشو، لا يعكس الفن الحالة الإنسانية فحسب أو يجعلها أكثر جمالاً أو أكثر قبولاً14. إنه بحث عن جوهره الخاص، بحث عما يجعله "فنًا" بعيدًا عن أي غرض خارجي. هذا البحث هو عن شيء مطلق لا يمكن التقاطه من خلال التمثيلات الكلاسيكية للجمال أو المنفعة. في هذا يقدم الفن الحديث نفسه كمقاومة لتسليع الثقافة وكشكل من أشكال النقاء الذي، بعيدًا عن كونه هروبًا، يمثل تأكيدًا للفرد في تفرده الأكثر جذرية. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو ما إذا كان الفن، في سعيه إلى السمو، لا يزال قادراً على إيجاد مكانه في مجتمع يبدو فيه كل شيء مقتصراً على مسألة المنفعة والاستهلاك.
الفن والغياب: تحولات وحركية الفن
لا يُعطى الفن أبدًا لذاته وأن العمل هو في حالة بحث مستمرة. يستحضر موريس بلانشو في عمله "الفضاء الأدبي" مفهوم الغياب والمستحيل في العمل الفني. وفقاً لهذا الأديب المفكر، فإن العمل لا يقتصر على التعبير عن موضوع أو توصيل رسالة. بل إنه يتحدد من خلال فشله في أن يكون حاضراً بشكل كامل. يردد هذا التوتر بين الحضور والغياب (النفي والمنفى) في العمل صدى تفكير بلانشو، الذي يصر على فكرة أن العمل الفني هو سعي وراء ما يظل بعيد المنال، وهو سعي يفشل دائمًا في تحقيق هدفه، في حين أنه ما يكشف إلا عن الفراغ ذاته.
تشير الفكرة القائلة -مثلما يتبنى يوضح بلانشو- بأن الفن لا يوجد إلا من خلال إنجازه في حالة من عدم اليقين الجذري، إلى مفهوم أن العمل غير مكتمل دائمًا، مثل الحركة الدائمة، إنه دائما في منفى. يصف بلانشو فعل الإبداع كحركة تسعى إلى الوصول إلى المستحيل، والإمساك بما لا يمكن الوصول إليه، متبنياً قولة نيتشه بأنّا "لا نملك الفن إلا كي لا نموت من الحقيقة". ولكن هذه الحركة في جوهرها تظل دائمًا بعيدة عن المتناول. الفنان في هذا السياق، ينفلت من مخاطره الخاصة15، ولا يسعى إلى التعبير عن نفسه، بل إلى إدراك ما يفلت من التعبير، والوصول إليه دون تحقيقه بالكامل.
لهذا فالفنان، بعيدًا عن سعيه للتعبير عن وجوده الخاص، يجد نفسه في أصل عملية يختفي فيها حتى يتمكن العمل من الظهور. وتقترب هذه الفكرة من تفكير بلانشو، الذي يؤكد أن الفنان يجب أن "يضحي" بنفسه حتى يأخذ العمل شكله الخاص ويكشف عن نفسه في جوهره16. ولا ينتمي الفنان إلى العمل إلا عندما يتنحى جانباً أمامه. إنه ليس من يتقن فنه، بل من يمتلكه. إن هذا الجدل بين الفنان والعمل، حيث يرى الفنان نفسه منغمسًا في عمليته الإبداعية الخاصة، يعكس تفكير بلانشو الذي يعتبر أن الفنان هو عبد العمل. يُوصف الإبداع الفني هنا بأنه تجربة متطرفة، حيث ينخرط الفنان في مخاطرة كاملة، وتضحية بالنفس، في السعي الدؤوب لتحقيق هدف فني لن يتمكن أبدًا من تحقيقه.
وبما أن الفن بوصفه دينامية للتحول، فهو عملية في حركة مستمرة، وتحول لا نهاية له. الفن ليس شكلاً ثابتاً، بل هو ظاهرة تتكشف من خلال أعمال متتالية. وإن العمل الفني، بعيدًا عن كونه إنجازًا مكتملًا، هو دائمًا في عملية التحول لا تتوقف أبدًا عن إعادة اختراع وإعادة تعريف نفسها.
يصر بلانشو على حقيقة أن العمل لا يتم تعريفه أبدًا بما هو عليه، ولكن من خلال العملية التي تحركه. كل عمل هو لحظة في هذه الحركة الأكبر، تحول يصعب تحديده بأي تعريف مستقر. وبهذه الطريقة، يكون العمل دائمًا خارج ما أصبح عليه. إن مهمة الفنان ليست التقاط شيء ثابت، بل المشاركة في حركة حيث يصبح كل إبداع مناسبة لتحول جديد للفن نفسه.

هوامش:
1. Maurice Blanchot, L’espace littéraire, éd. Gallimard, essais folio, Paris, 2018
2. نفسه، ص: 342.┋3. نفسه، ص: 28.
4. Maurice Blanchot, La part du feu, éd. Gallimard, Paris, 1949, p. 84
5. نفسه، ص: 230.┋6. نفسه، ص. 14.┋7. نفسه، ص. 281.┋8. نفسه، ص. 283.┋9. نفسه، ص. 284.┋10. نفسه، ص. 49.
11. M. Blanchot, La part du feu, op. cit., p. 85
12. M. Blanchot, L’espace littéraire, op. cit., p. 305
13. نفسه، ص. 285┋14. نفسه، ص. 289.┋15. نفسه، ص. 324.┋16. نفسه، ص. 316.