الأنساق الثقافية والتراث العربي

عبد الفتاح كيليطو نموذجاً

إبراهيم الكراوي


تستهدف هذه الورقة الكشف عن الخيط الناظم لمجموعة من الأعمال النقدية للكاتب، والباحث عبد الفتاح كيليطو، مُركزين الاهتمام على العمل الأخير ''التخلي عن الأدب''، بوصفه يمثل مرحلة الانتقال من تَمثل القراءة من الداخل وكشف سماتها الداخلية، إلى تناول القراءة، بوصفها قضية من قضايا العصر، وخطاباً كاشفاً للهوية، والعلاقة بين الأنا والغير، انطلاقاً من تمثل الأنساق الثقافية التراثية.

 

1] سؤال القراءة والعصر بين التمثل الثقافي والهوية:

في معجم اللغة، يعني الفعل تخلى عن العمل: تركه. مما يمكن أن يفهم منه أو يمكن أن نترك الأمر معلقاً بغرض العودة إليه، أو إرجائه وتأجيله، وهو التمثل الذي يقربنا من قراءة ديردا للعمل الأدبي. وقد يكون فعل التخلي في هذا السياق مقترناً بتأمل وسؤال يرتبط بالبحث في أسئلة متفرعة حول جدوى الأدب والبحث في المعنى المتشعب... وقد يُفهم منه ونحن ننتهي من قراءة عمل كيليطو الأخير تعميقاً للقراءة ولفكرة موريس بلانشو بوصفها تتموقع بين المتصل والمنفصل.

فهل يمكن أن ننتهي من قراءة العمل بمجرد أن نطوي الصفحة الأخيرة، ونغلق دفة المتن؟ في نهاية الأمر لماذا يقترح علينا العنوان التخلي وليس الهجران أو الانصراف الكلي عن ممارسة القراءة؟ وما البعد الذي تنطوي عليه علاقة القراءة بالأدب؟

لقد أصبح جدوى الأدب سؤالاً ملحاً في العصر الحديث، تفرعت عنه مجموعة من الأسئلة؛ سواء تعلق الأمر بقضية القراءة أو صورة الأمة بين الكونية والخصوصية، وغيرها مما يطبع العصر الحديث.

في هذا المؤلف، قمنا برحلة مع حفار معان ما لها من نفاذ بين أزمنة متباعدة، موغلة في القدم، لنكتشف أبعاداً أخرى لسؤال ''هل بالإمكان التخلي عن الأدب''؟ ومن أجل مقاربة هذا السؤال، يقترح الباحث السفر بين ضفتين مختلفتين ثقافياً: النصين الغربي والتراثي العربي، وتأجيل الخوض في المنهج إلى أن يطفو طوعاً أو كرهاً على سطح القراءة.

أعاد مجموعة من الباحثين سؤال جدوى الأدب وقضية القراءة إلى الواجهة بعد غزو التكنولوجيا والرقمنة وتراجع الصورة الورقية على حساب الصورة البصرية، وقبل ذلك أيضاً كان السؤال مطروحاً بعد التحولات التي عرفتها بعض الأجناس الأدبية، مع ظهور الكتابة الجديدة، واختلاف مناهج تحليل النص.

في هذا الإطار أكّد تودوروف أن الأدب في خطر، وتحدثت إلفين كرنان عن موت الأدب، كما تحدث رونان ماكدونالد عن موت الناقد... لا نعتقد أن مقاربة عبد الفتاح كيليطو لم تعر اهتماماً لكل هذه الأطروحات، أو أنها تنفصل عن سياقات أسئلة الأدب في العصر الراهن، كما طرحها المؤلفون الذين استشهدنا بهم. بيد أن الباحث في هذا الكتاب التي يعتبر ثمرة اشتغال طويل على متون متباينة جغرافياً وثقافياً، يحاول إعادة البحث في جذور القراءة، وتحدياتها مقدماً وصفات نقدية بعد التفكيك والتشخيص والمعاينة. ومن ثم، انصرف إلى تشريح صورة القراءة ومختلف أبعادها المتموقعة بين الأنا والآخر.

يَفتتح عبد الفتاح كيليطو مؤلفه بسؤال صدمة العصر الرقمي: ''هل بالإمكان التخلي عن الأدب''؟ سؤال في كتاب يختار له عنواناً مستفزاً جمالياً ''التخلي عن الأدب''، بوصفه يضع القارئ طرفاً محورياً في معادلة القارئ والقراءة.

تأتي مقالة بورخيس والمغرب لتعيد سؤال القراءة، بوصفه خطاباً مُوجَّهاً بأنساق ثقافية. وهذا معناه أن القراءة ليست عملية مجانية، تخلو من هاجس محكوم بتوجهات نفسية، ثقافية واجتماعية: "من الواضح أن القارئ لا يقترب من مؤلف، من كتاب، وهو صفر اليدين، إنه من بلد، من لغة، من زمن محدد، وله انشغالات وانتحارات، وتوقعات وتصورات تكونت من خلال ما سبق أن قرأه وعلى الأخص من خلال الأدب الذي نشأ في أحضانه" [ص: 12].

لا يمثل سؤال القراءة في هذا العمل، جديداً بالنسبة لكيليطو الذي اهتم بها بصورة مغايرة، عما تناوله في المؤلفات السابقة: ''من نبحث عنه بعيدا، يقطن قريبا'ً'، ''من شرفة بن رشد''، و''بحبر خفي''، فيما ينشغل في الأعمال التي سبقتها ''الكتابة والتناسخ''، ''الأدب والغرابة''، ''المقامات''، أبو العلاء المعري أو متاهات القول، بالسمات الداخلية للنص وجماليات التلقي في متون يعود إلى تأملها نقدياً في المقال الأخير من زاوية القراءة.

بيد أن مقاربة سؤال ''التخلي عن الأدب'' في الكتاب الذي يحمل العنوان نفسه، يختلف عنه من حيث البعد والخلفيات المعرفية والمنهجية.

تمثل القراءة في المؤلفين السابقين، إبحاراً وصيداً وإعادة اكتشاف موقع التراث الحضاري العربي، بين مختلف الحضارات الكونية. ومن ثم، نجده يتساءل في مقالة ''تائه في الشرق'' ماذا سنفعل بهذا التراث الباذخ؟ يحاول كيليطو إذنْ تقريب الأدب من القارئ بوصفه سؤالا واكتشافاً ومعرفة يجب البحث عن أسرارها لكي نستمر في الحياة. فينتقل إلى طرح القراءة، بوصفها قلقاً يعتري الحضارة ويصيب الذات بدل ربط القراءة بالغرابة، كما فعل في ''الأدب والغرابة''، وفي ''بحبر خفي''.

وبذلك فالقراءة من هذا المنظور ليست معان جاهزة مطروحة في الطريق يعرفها العربي والعجمي، بقدر ما تتمثل بوصفها اكتشافاً متجدداً وحفريات تؤدي إلى الباطن الذي ما له من نفاد. تمثل الأعمال الثلاثة الأخيرة من هذا المنظور تمهيداً للانتقال إلى القراءة المتشعبة التي تغوص في جوهر الثقافات، وترحل بين تَشعبات المعنى كما يظهر في ''التخلي عن الأدب''.

إن سؤال التخلي عن الأدب وقراءته، ليس وليد اللحظة الراهن، فهو قديم قدم الأدب نفسه كما نستشف من خلال مطلع مقالة ''حامد بن الأيلي'': «ذَمُّ نوع من الأدب أو الأدب بصفة عامة حاضر أيضاً في الكتابات العربية، ويشكل أحد موضوعاتها، نجده مثلاً في المقامات، بل يمكن أن نقول إن أكثر الكارهين للأدب هم المولعون به ومن يساهمون في استمراره، كما هو الحال مع أبي حيان التوحيدي» [ص: 21].

يستحضر عبد الفتاح كيليطو العلاقة بين القراءة ورواية سرفانتيس بحامد بن الأيلي بوصفها قراءة موجهة نحو قارئ محدد. فالنص حاول أن ينسج علاقة مع قارئه «الكتاب في نهاية الأمر مجرد ترجمة، لكنها هنا استحواذ على الكتاب، على النص الأصلي، وبالضبط على أصل لم ينشر، ولن ينشر سيختفي الأصل، فور ترجمته إلى الإسبانية» [ص: 23].

 2] خطاب المؤلف وفعل القراءة.. نحو تمثل المعنى المتشعب:

تبرز القراءة من منظور كيليطو بوصفها خطاباً ثقافياً موجهاً بمقصديات وخلفيات تحاول أن تضع القارئ، في قلب موضوع القراءة، حسب ما نستشف من تحليل عبد الفتاح كيليطو. ومن ثم، يتتبع الباحث القراءة بوصفها سفراً بين لغات تقرب النص من فعل القارئ، وتجعله متداولا. وهذا هو الهاجس الذي سبق أن عبر ومهد له كيليطو في كتاب ''بحبر خفي'' وعالجه من منظور جمالي، ويعالجه في العمل الجديد انطلاقاً من خلفيات منهجية مغايرة متمثلة في المكون الثقافي والدراسات المقارنة.

في هذا السياق، يرجع الباحث ليؤكد أن رسالة الغفران، لم تخلف صدى واضحاً بين النقاد، إلا بعد ترجمتها واكتشافها من خلال ''الكوميديا الإلهية''، حيث يذهب البعض إلى أن دانتي لما قرأ الرسالة تأثر بها. ومن ثم، كلما تحكمت في القراءة موجهات وخلفيات ومرجعيات ثقافية، كلما استطاعت أن تنفض الغبار عن الكتب وتقترب من القارئ. وهذا معناه أن فعل القراءة لا يرتبط بالزمن وما يطرحه من تحديات في هذا السياق؛ لأن النصوص التي تمتلك خطاباً ثقافياً تمتلك معان لا تنفد بل تتجدد، عبر الزمان، فهي معان متشعبة. وهذا ما حاول عبد الفتاح كيليطو مقاربته، في مقال "الأديب بطلا"، ليخلص إلى أن الأديب في جزء كبير من التراث السردي العربي شكل بطلا، كما هو الأمر بالنسبة لرسالة الغفران والمقامات، مما يدل على أن جماليات النصوص، وتميز المتون إنما ينطلق من تمثل القراءة بوصفها موضوعاً ينسج صلات حميمة مع القارئ.

بيد أن مؤلف ''التخلي عن الأدب'' ينطوي على رسالة خفية تعيد سؤال موت الأدب وتراجع القراءة. بين القرب والتخلي والخفي– كما نستشف من عناوين الأعمال الأخيرة هناك مسافة مرهقة تتقاسمها الأعمال جميعها وهي القراءة، علاوة عن هاجس التجوال في تشعبات بطون المعاني. فمن سرفانتيس إلى حامد بن الأيلي، ومن رسالة الغفران إلى دانتي، ومن رمزية أبطال يمثلون ويتمثلون فعل القراءة مثل ابن القارح عيسى بن هشام، أبو زيد السروجي ومنهم إلى رولان بارت، واستناداً إلى مرجعية الأدب المقارن، وخلفيات دريدا في قراءة النص وإرجاء المعنى ونفي المركز. وكأن كيليطو يذهب إلى أن سؤال القراءة، لم يكن ليرتبط بمحددات أخرى غير تلك المحددات المرتبطة بالهوية والثقافة وطبيعة العصر. فهو سؤال حضاري تتحكم فيه تمثلات ترتبط بالنصوص ذاتها وما تزخر به من أبعاد تتمثل القراءة ذاتها.

3] القراءة وتجدد المعنى: من النص الأحادي المعنى إلى النص المتشعب المعاني:

في الأعمال الأربعة الأخيرة على خلاف "الكتابة والتناسخ"، و"المقامات"، "الأدب والغرابة"، هناك قاسم مشترك يتمثل في محاولة التحرر من صرامة المنهج، دون التمرد على ركائزه. وبتعبير آخر نلحظ أن كيليطو ينتقل من أحادية المرجع المنهجي إلى التعدد الواعي الذي يتثمل المعنى المتشعب بوصفه يحقق مبدأ الملاءمة داخل خطاب القراءة. ''إنه لمن شقاء المؤلف أن يتم فهمه"، هكذا يفتتح كيليطو مقالة ''من الشرح إلى الترجمة'' بقولة لسيروان رغبة منه في إضاءة الخلفيات المعرفية والمنهجية لكتاب كيليطو الأخير والمرتبطة بخطاب القراءة، بوصفه يستند على المعاني المتشعبة من جهة، والتمثل الثقافي من جهة أخرى.

إن خطاب القراءة في مؤلف عبد الفتاح كيليطو ينطوي على سؤال شائك: هل بحصرنا للنص في أحادية المعنى تخلينا عن الأدب؟ إذنْ نحن أمام عملية إرجاء دائمة للمعنى بتعبير دريدا. ننتظر العمل القادم لعبد الفتاح كيليطو، لفتح نافذة أخرى للمعنى تتشعب إلى نوافذ أخرى لانهائية؛ ولينتقل بنا إلى تمثل مغاير للقراءة، كما فعل بين الأعمال الأولى والأعمال الثلاثة الأخيرة.

إن عبد الفتاح كيليطو لا يتحرر من المنهج بقدر ما يتحرر من صرامة المنهج وأحاديته المجحفة، وتضحيته بالنص على حساب الجهاز المصطلحي. فهو دائم البحث عن سر العلاقة الحيميمة بين النص والقارئ، بحيث تتحول القراءة إلى ممارسة حميمية. لذا نجد تفاوتاً على صعيد استثمار المرجعية المنهجية بين ''بحبر خفي'' حيث تهيمن جماليات التلقي، بحكم أنه انشغل في أعماله الأخيرة بتطوير فعل القراءة ومعالجة معضلاتها الراهنة ولو بصورة ضمنياً.

هكذا يحاول كيليطو أن يقرب النص من القارئ من خلال تناول قضية أسبقية القراءة على المنهج. فيستمر في الحفر في القراءة في العمل الأخير من زاوية مرجعية يطغى عليها هذه المرة جماليات الدراسة المقارنة والمكون الثقافي، والهوية بوصفها خلفيات ابستمولوجية تتجاوز المنهج.


على سبيل الاستنتاج:

تقود قراءة مجمل أعمال عبد الفتاح كيليطو إلى القول بأنه لا وجود لمعنى أحادي، يدفعنا إلى إغلاق النص عليهإيقاع المعنى الأحادي،  وبالتالي نتخلى عن الكتاب والأدب. ومن ثم يشتغل عبد الفتاح كيليطو على حفريات التراث. فهل يطرح كيليطو فكرة متقدمة يحدس من خلالها إلى فكرة القارئ المتشعب، والتي توازي ''النص المتشعب''؟ وهل فكرة نص متشعب/قارئ متشعب موجودة في متون التراث، قبل أن يتداولها النقاد بالمعنى المعروف، انطلاقاً من اعتبار القراءة إنتاج عميلة لانهائية متشعبة؟ سؤال مشروع يفتح هاجس البحث وتعميق الحفريات في التراث الأدبي العربي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها