تراثنا.. كيف يُقرأ؟

ملامح نقدية وِفق رؤية مختلفة

د. وليد قصّاب


من الدعوات التي أصبحت متداولة كثيرًا الدعوة إلى ما يسمى "إعادة قراءة التراث"، وقد أنجز بالفعل عدد من الدارسين قراءات جديدة للتراث العربيّ الإسلاميّ، وقد اتّسم بعض منها بالأصالة والعمق، وقدّم رؤى عميقة صائبة، فتقت في التراث آفاقًا لم تكن معروفة، ووضعت اليد على جوانب لم يكن يُعْبَأ بها، أو يُلْتَفت إليها كثيرًا. ولكنْ تمت –في مقابل ذلك- دراسات كثيرة في ضوء مناهج غربية صادرة عن ثقافة مغايرة، وحضارة مختلفة، وتصورات أبعد ما تكون عن هذا التراث العربيّ الإسلاميّ. والواقع أن نقادنا في هذه الأيام فريقان: فريق يتبنى – صراحة، ومن غير مواربة- المناهج الغربية بأسمائها، ومصطلحاتها، وإجراءاتها، ويطبقها حرفيًّا في دراساته. وهو فريق قد أعلن منذ البداية قطيعة مع التراث العربيّ الإسلامي، وتنكّر لمنجزاته؛ إذ هو عنده لم يعد صالحًا لهذا العصر، أدّى دوره وانتهى. وفريق آخر – وهو المعنيّ بكلامنا في هذا المقال- يعيد قراءة التراث العربيّ في ضوء التصورات والفلسفات الغربية، فهي مثله الأرفع، وهو لذلك يبادر فوراً إلى البحث عما يشبهها في هذا التراث.

 

تقويم التراث العربيّ بالمعايير الغربيّة

وفي ضوء مثل هذه القراءات المنطلقة من المناهج الغربية الحديثة راح هذا التّراث يُحاكَم ويُقَوَّم من خلال تصوّرات هذه المناهج؛ فإذا ما وجد هؤلاء الدارسون – إنْ حقًا وإنْ باطلاً-أنّ فيه ما يتفق مع هذه المناهج الغربية أشادوا به، وأعلوا من شأنه، ونوّهوا بصاحبه، وإذا لم يجدوا فيه ما يوافق هذه المناهج، أو يقدِّم رؤية مخالفة لها؛ أنكروه وأرذلوه، أو- على أقلّ تقدير- لم يعبؤوا به، ولم يتوقفوا عنده.

كثر من نقادنا وبلاغيينا من توقّف عند عبد القاهر الجرجانيّ، ونظر إليه على أنّه ناقد وبلاغيّ فذّ، ولكنْ لا لأنّ هذا التميّز أنّه وضع نظريّة "النّظم" البلاغيّة النقديّة، التي استنبطها من الثقافة العربيّة، ومن طبيعة اللغة العربية، ونصوصها الأدبيّة، ولكنْ لأنّ ما قال-كما يدّعي المشيدون- يتفق مع آراء دو سوسير، وتشومسكي، وجاكبسون، وأضراب هؤلاء وأولئك. ولو أنّ عبد القاهر قال خلاف ما قال هؤلاء لكان حظه الازدراء والإهمال.

وفي ضوء نية -قد تكون حسنة- عند قوم من باحثينا، يدّعون أنّهم ينشُدون الدّفاع عن تراثنا، والتنويه به، تمت قراءات له تبحث عمّا فيه من شواهد تتفق مع ما عند الآخر، وقد تلوي أعناق النصوص، أو تخرجها عن سياقها من أجل الحصول على هذه المواطأة، وقد تُقتطع فقرة من هنا وعبارة من هناك، وتُعمم من خلالها أحكام، أو تُستنبط نتائج.

تحوّل تراثنا العربيّ الإسلاميّ إلى حقل تجارب؛ كل ّ –وهو يحسب أنه يحسن صنعًا- يحاول أن يبحث فيه عن شيء توصّل إلى الآخر؛ ليثبت أمراً أثبته، أو ينفيه أمراً نفاه.

كم من دراسات لتراثنا العربيّ الإسلاميّ قرأته من خلال إسقاطات يساريّة، أو وجوديّة، أو قوميّة، أو حداثيّة، أو غير ذلك من المناهج التي تهيمن على ساحتنا الثقافية في حقبة من الحقب، وتصبح هي "الموضة" الجديدة المُحتفى بها التي ينبغي أن تُحتذى! وكم تقاذفت هذا التّراثَ الأمواج، وتعاورته المصطلحات؛ فلم نعد ندري مثلًا أنقد عبد القاهر وبلاغته هما: بنيويّة، أم أسلوبيّة، أم تداوليّة، أم سيميائيّة، أم ماذا؟

بل إنّ بلاغتنا العربية، التي وضعت فيها مئات المؤلفات لم تعد عند قوم من "قراء التّراث" تسمّى بلاغة كما سماها أصحابها؛ أصبح يُخترع لها –مع كلّ بدعة تأتي من الآخر- اسم جديد، وتغيرت فيها أسماء المصطلحات التي استعملها نقادنا وبلاغيونا العرب والمسلمون؛ لم يعد ما كان يسمونه "لفظاً" لفظاً، صار اسمه "دالاً"، والمعنى "مدلولاً" والكاتب أو المؤلف "مرسِلاً"، والمخاطب "مرسَلاً إليه"، وقس على ذلك مئات المسميّات والمصطلحات التّراثية، نفيت أو استُبعِدت من الساحة النّقدية المعاصرة، استُبْدِلت بها المصطلحات الغربية الوافدة، التي هي كلَّ يوم في حال؛ ينسف بعضها بعضاً، ويلغي بعضها بعضاً.

يقول أحد الباحثين -في موطن الانبهار بما يُسمى" التداولية"-: "من اللازم –ونحن نبحث في النّظرية التداوليّة وتطبيقاتها في الخطاب- أن نضيف حضورها في التّراث اللسانيّ العربيّ من منظور البلاغيين والمفكرين الإسلاميين الذين عُنُوا بالبحث في خصوصيات الخطاب القرآنيّ... وستكون التداولية -بهذا التصور- محاولة منهجيّة لإعادة بناء البلاغة العربيّة، وصياغة خطوطها العريضة.."(1). وكأن البلاغة العربية لم تكن مكتملة البناء، أو محتاجة إلى إحكام بناء، وتنتظر فتوح التداوليّة وغيرها حتى تصوغ بناءها. ومن الواضح ما في مثل هذا التوجّه – وإن حمل عند بعضهم توهمَ الإشادة بالتّراث، وتقديمه على أنّه ما يزال ينبض بالحياة- محكوم بالنّظرة إلى الثقافة الغربيّة على أنّها النّموذج الأرفع، والأسوة الحسنة، والتي لا يكون تراثنا نفيسًا إلا إذا اتّفق معها، أو لا يكتمل بناؤه إلا بها.

ولا يخفى ما في هذا التوجّه من انتقاص من قيمة ثقافتنا وفكرنا ونقدنا انتقاصًا لا مثيل له؛ إذْ إنّ ذلك يعني -في أبسط معانيه- أنّ ما عندنا محكوم – قبولاً أو رفضًا- بمقاييس ثقافة الآخر وذوقه وحضارته. وإذا كان هذا الفكر الغربيّ جموحًا شموسًا، لا يعرف ثوابت أو يقينيات يتوقف عندها؛ ولا يرسو على شاطئ يطمئن إليه، وإذا كان –كما هو معاين- ينسف في يومه ما بناه في أمسه، ويزهد في غده بما كان يعشقه في يومه؛ فهل سيعني هذا أنّ نظرتنا إلى حضارتنا وثقافتنا وفكرنا –المحكومة بمعايير هذا الفكر- ستدخل في هذه الدّوامة نفسها؟ وهل سيعني ذلك أن نزهد بعبد القاهر مثلاً إذا ما زهد الغربيون بدو سوسير وأمثاله؟

إن نقدنا العربيّ الحديث –إنْ صحّ أن لنا نقدًا عربيًّا حديثًا- هو نسخة -وقد تكون نسخة مشوّهة في كثير من الأحيان- عن النّقد الغربيّ، إنّه نقد مرتهن بما أنجزته المناهج الغربية، حتى صحّ أن يقول أحد الباحثين: "ماذا لو حذفنا أسماء بارت، وتودوروف، وإيكو، ودريدا، وغيرهم، من مدونتنا النّقديّة المعاصرة؟ فما الذي سيبقى لنا ممّا أنتجته قرائح النّقاد العرب"(2)؟

غلب على نقادنا العرب المعاصرين -إلا ما ندر- التّعامل مع المنهج الغربيّ على أنه أداة يمكن استخدامها، ونقلها بحرفيها، إلى ثقافة أخرى. ولا شكّ أنّ هذا خطأ فادح؛ فالمنهج- مهما كان حظه من العلمية والرسوخ- يحمل خصائص ثقافته التي جاء منها، عليه بصماتها، وهو غير محايد، ولا منفصل عن نصوصه التي اقتُبِس منها، ولا يمكن أبدًا النظر إليه بوصفه معطىً جاهزًا يمكن به مقاربة نصوص عربيّة قديمة أو حديثة.

وعلى أنّ الأمر الذي يهمّنا في هذا السّياق أنّ التّماهي في هذه الثقافة الغربيّة الوافدة أصبح هو منهجية أغلب نقادنا المعاصرين في قراءة تراثنا العربيّ والإسلاميّ، وفي تقويمه والحكم عليه كما ذكرنا.

بل أصبح هو منهجية أولئك النّقاد المخلصين السّاعين إلى وضع نظريّة نقديّة عربيّة. يقول أحد الباحثين: حاول بعض نقاد العرب البحث عن نظريّة نقديّة عربيّة، ولكنّ بعضهم لم يخرجوا من أسر المنهجيّة الغربيّة؛ فراحوا يفتِّشون عمّا يناظر بعض المقولات الغربيّة في التّراث العربيّ في إدلاء بالتراث، على طريق: "بضاعتنا رُدّت إلينا"(3).

قراءة تراثنا النقديّ

إنّ القراءة الحقيقيّة التي تقوم بها أيّة أمة حرّة غير مستلبة لتراثها وثقافتها هي أن تقرأه بعيونها هي، وذوقها هي، من خلال تصوراتها وحضارتها، وهو ذوق وتصوّرات مطلوب منها أن تتطوّر، وأن تستفيد من منجزات العصر، ومن حداثته، ولكنّها استفادة منه لا لمجرّد أنّه حديث، أو لمجرّد أنّه غربيّ مستورد، بل لأنّ فيه النّفع والخير، ولأنّه لا يتجافى مع ثوابت ثقافتها، وهي عندئذٍ قد جدّدت وحدّثت، وقرأت تراثها قراءة جديدة من خلال معاييرها الجماليّة والخلقيّة، فاستحسنت منه ما استحسنت، وأنكرت منه ما أنكرت.

 وهي عندئذٍ صاحبة السّيادة والرأي والحكم، وأمّا أن تقرأه بمعايير غيرها، وتحكم عليه بمنظار غيرها، وتستحسن أو تستقبح بذوق غيرها وقيمه؛ فهذه عندئذٍ قراءة غير صحيّة ولا موضوعيّة، لأنها قراءة قوم مسلوبي الإرادة، منزوعي الشّخصيّة. إنّ قراءة تراثنا بذوقنا الذي تحضّر وتحدّث وأخذ من معطيات العصر وترك- في ضوء ضوابطه الفكرية والفنّيّة- هو وحده الذي يعيد لثقافتنا قيمتها، ويضعها في موضعها اللائق بها.

إنّ عبد القاهر الجرجاني – الذي استشهدنا به- هو عالم عربيّ مسلم؛ ولا يجوز أن يكون احتفاؤنا به فقط لأنّ آراءه – منذ قرن من الزّمان- تتفق مع أحدث ما توصلت إليه النّظريات اللسانيّة المعاصرة، ولا يجوز أن يكون تقديرنا له، أو عدم مبالاتنا بما توصل إليه؛ فقط لأن "خواجا" من "الخواجات" هو الذي شهد له، أو شهد عليه؛ فهذه الشهادة صادرة عن قوم لهم ذوقهم وقيمهم في الاستحسان والاستقباح، بل لهم أهواؤهم وعقائدهم، وهو معذورون في ذلك، وهذا حقّهم، ولا تثريب عليهم، وما يصدر عنهم رأي من الآراء، وقد يكون حقًّا أو باطلًا.

وكم أشاد الآخر الغربيّ -وذلك حقّ له- في تراثنا بنماذج واتجاهات وشخصيات هي عندنا في موطن الاستنكار والاستقباح، بل قد تكون قد تكون ممّا ترفضه ثوابتنا وقيمنا الجماليّة والفكريّة. فهل نقترض منه مقومات ما نستحسن وما نستقبح؟ إنّ عبد القاهر الجرجاني وغيره ممّن أشيد بهم في ضوء معايير النقد الغربيّ الحديث ليس ناقدًا بنيويًّا، ولا سيميائيًّا، ولا تفكيكيًّا، ولا غير ذلك ممّا حاول قارئو تراثه أن يصفوا به آراءه، ولا يزيد من قدره، أو ينتقص من هذا القدر ألا يكون كذلك.

إنّ عبد القاهر الجرجاني وغيره ممّن حظي بالاحتفاء ناقد لسانيّ بلاغيّ عربيّ مسلم، صدر عن المنهج العربيّ، وعن الذوق العربيّ، وعن طبيعة اللّغة العربيّة، وخصائص النّصوص التي انطلق منها، وشاد نظريته في "النظم" في ضوئها، وعلى هدي منها. وإذا اتفقت بعض من آراء عبد القاهر أو غيره مع هذا المنهج الغربيّ أو ذاك، فهذا لا يعني انتسابه إليه، ولا يعني -بطبيعة الحال- أن يُقرأ إنتاجه، أو أن يقوّم ويُحاكم إليها؛ فهو غير محتاج إلى شهادة حسن سير وسلوك من دو سوسير، أو بارت، أو تشومسكي، أو جاكبسون، أو غير هؤلاء وأولئك؛ لنقبل عليه، ونحتفي به، ونشهد له بالتميّز والفرادة.

أقُدِّر على حضارتنا وثقافتنا وفكرنا أن يمر عبر ثقافة الآخرين، وأن يتصفّى في مصفاتها، ليقبل منه ما يقبل، ويشاد منه بما يُشاد، أو يُنتقَص منه بما يُنتقص؟ إنّ كلّ ظاهرة نقديّة، أو لغويّة، أو بلاغيّة، أو غيرها، ينبغي أن تمرّ عبر قناتنا الحضاريّة نحن، وأن تتصفَّى في مصفاتنا نحن، وأن تُقرأ بعيوننا نحن، وأن تُتَذَوَّق بذوقنا نحن. أين كان حسّ نقادنا المعاصرين من كثير من الآراء الأدبيّة النفيسة التي أتى بها كل من الجاحظ أوالآمدي، أو الجرجاني، أو القاضي الجرجاني، أو ابن جني، أو حازم القرطاجني، أو كثيرين غير هؤلاء وهؤلاء؟ لماذا لم يدركوا قيمتها، ولم يستشعروا ثراءها، ولم ينبِّهوا على تميِّزها؟ أهم في حاجة دائمًا إلى "خواجا" يدلّهم عليها؟

وإذا ما دّلهم هذا "الخواجا" عليها؛ فلماذا لم يستثمروها في إنشاء نظريّة نقديّة عربيّة، ولماذا ظلوا يدورون في فلك المناهج الغربية، ولا يصدرون إلا عنها؟ إنّ الخروج من العصر إلى التّراث وحده أمر غير منطقيّ، وهو لا يكفي وحده، ولا يصنع نظرية متكاملة، ولكنّ الخروج من الذّات إلى الآخر أشدّ خطورة؛ وأبعد عن المنطقية من الأوّل؛ فالأوّل يعني العيش في الماضي، والانقطاع عن الحاضر، والثّاني يعني فقدان "الهوية" والتعبّد في محراب الآخرين. لا بد من "المثاقفة" لا التبعيّة؛ ففي "المثاقفة" تحضر "الهوية" والعصر معًا. إن لتراثنا العربيّ والإسلاميّ –شأن تراث الأمم جميعها- بنية معرفية خاصة، وهو مرهون بشروطه التاريخية والسياقية، وهو صادر عن تصور فكريّ معيّن، وليس من العلم ولا من المنهجية في شيء قطعه عن هذا السّياق، وقراءته في سياق حضاريّ آخر.

إنّ أية قراءة لظاهرة تراثية لا بد فيها من "التعمق في فهم السياق المعرفي الذي تندرج فيه الظاهرة المدروسة، والتّمسك بالتّصور الذي يبنيها؛ إذ في غياب الوعي العميق بمكونات ثقافة من الثقافات لا تتسنّى القراءة الفاعلة وإنْ اعتدت بأحدث المناهج، وأكثرها نجاحًا في مجالها.."(4). إن في قراءات من هذا القبيل تزييفًا للتراث، وتغييبًا لملامح وجهه؛ إذ هي قراءات تحاول تطويعه. قراءات تفقد هذا التراث خصوصيته، وتبتعد به عن حقيقته، وتجعله دائمًا في ذيل التبعية والدونية.

معايير الحداثة وما بعد الحداثة

إنّ ما ذكرته لا ينفي الحاجة إلى قراءة التّراث ومراجعته ونقده، ولكنّ هذه القراءة وهذا النقد -كما ذكرنا- لا يجوز أن يرتهنا بالآخر، أو أن يقاربا بمفاهيم حداثية تسقط عليه آلياتها، مفتونة بما تجده من تشابه أو تماثل بين النصّ الوافد والنصّ التراثيّ(5). إنّ هذا التّوجّه في قراءة تراثنا الثقافيّ يضعه دائمًا في قفص التبعية، بل في قفص الاتّهام؛ إذ هو إمّا مساير للاتّجاهات الغربية الحديثة وما بعد الحديثة، فهو عندئذٍ مقبول مُنَوَّه به، أو مخالف لها، وهو عندئذٍ متخلِّف مُزْدَرَى، وحقّه عندئذٍ الترك والإهمال.

بدا كلّ حديث يأتي من ثقافة الآخر- مهما كانت قيمته- هو النموذج الأمثل، الذي ينبغي أن يُلاحق ويُحْتَذَى ولأنّ الحداثة وما بعدها– في التصوّر الغربيّ السائد- تعنيان الخروج الدائم، والثورة المستمرة على كلّ قديم؛ أصبح يُنظر إلى كلّ قديم نظرة ازدراء، ويُحكم عليه– من غير محاكمته إلا إلى الزّمن وحده- بأنّه نموذج متخلِّف.

 أصبحت الحداثة – التي تعني الخروج على ما سلف، أو قل على جميع ما سلف- معيارًا للإبداع، ولأنّ الحداثة صناعة غربيّة؛ صارت مقولاتها وحدها- ومن غير مراجعة ولا محاكمة- هي المعايير الجماليّة والفكريّة التي ينبغي أن يُحْتَكَم إليها في قبول ما يُقبل، وفي رفض ما يُرفَض. لم يعد ثمة احتكام إلى ما هو أجمل وأقبح، وأرفع وأوضع، وأسمى وأدنى، بل إلى ما هو أقدم وأحدث، انتسخ المعيار الجماليّ والفكريّ ليحلّ محلّه المعيار الزمانيّ.

افتقد –على حدّ تعبير برهان غليوم- "الإنتاجُ الأدبيّ الحديث لنظرية نقدية جمالية تغربله وتنقيه، وتُفرز فيه بين الغثّ والثمين، والمجدّد فعلاً والمقلّد، نظرة فلسفية تلقى على الممارسة الفنية لتستمد منها قواعد جماليّة جديدة تقود الفعاليّة الفنيّة الجديدة، وتوجهها وتساهم في تطويرها في اتّجاه التّأصيل الثقافيّ، حتى إنّ تقويم التراث نفسه أصبح خاضعًا لمعيار التقليد الجديد، وأصبح من قبيل المديح أن يُقال: إنّ هذا الجانب أو ذاك من التراث يبدو كأنه وليد اليوم أو بالأحرى كأنه مماثل لما في الغرب.."(6).

ويستحضر المرء أنّ هذه الحداثة الغربيّة وما بعدها ممّا يتّخذ معيارًا في الحكم على تراثنا العربيّ والإسلاميّ لا معايير له أصلاً، وهي دائمة الخروج على ما سلف كما ذكرنا، وهو يهجر في غد ما عشقه اليوم، لا ثوابت فيه ولا يقينيات، ولا مرجعية له ولا قطعيات، ولا تزال ملامح بعض المناهج غير واضحة ولا محددة حتى عند المختصين أنفسهم.

يقول ديفيد هارفي عن المناهج الحداثيّة وما بعدها: إنّها مناهج قائمة على التّنافر والاختلاف كعاملي تحرير في إعادة تعريف الخطاب الثقافيّ، فالتشظي، وغياب التحديد، والشكّ العميق في كلّ الخطابات الشموليّة والكليّة -كما باتت تُستعمل- هي العلامة الفارقة للتفكير ما بعد الحداثي.. والحداثة كذلك تستلزم قطيعة لا ترحم مع الشّروط التّاريخيّة السابقة على مستوى الأجزاء كما على مستوى الكلّ..(7).

ويقول شكري عيّاد مؤكدًا على غموض مصطلحات النّقد الحديث، وعدم وضوحها، وعلى عدم اتفاق مستعمليها على مدلولاتها: "لم أشهد ندوة علميّة إلا أثيرت في نهايتها أسئلة مكرّرة: ما المقصود بالبنيوية؟ وما المقصود بالسيميولوجية؟ إنّ محاولة النّقد الأدبيّ التوصّل إلى قوانين ثابتة للفنّ القوليّ أوقعته في مشكلات كثيرة، وألجأت ممثليه إلى وضع عدد وفير من المصطلحات التي تشبه المصطلحات العلميّة، دون أن تتمتع بالثبات والقبول العامّ اللذين تتمتع بهما المصطلحات العلميّة.. مثل البنيوية والسيميوطيقية، لا تجد لها مدلولاً واضحًا ينطبق على جماعة النقاد الذين أصبحوا يُعرفون بالسيميوطيقيين البنيويين، وتجد لدى كل واحد منهم جهازه الخاصّ من الاصطلاحات.."(8).

إنّ ما أتت به مناهج الحداثة وما بعدها من آراء في الأدب والنّقد هي أقوال مضطربة مبهمة، غير واضحة ولا مستقرة، أو أنّها – على أقلّ تقدير، وبتعبير طاهر مكي- "تصل إلينا مشوهة، غير واضحة، منتزعة من سياقها، تلوكها الأجيال والطلاب، فلا يفهمون ولا يُفهمون..(9).

وعلى كثرة ما هذه المناهج الغربية من الخطل والتناقض، ومن التشظي والتنافر، فإنّ أغلب النقاد العرب المعاصرين يوهمون القارئ المسكين أنها ذات صبغة علمية، بل – بتعبير بعضهم- " إنسانية – عالمية" ولذلك نراهم يُسقطون مفاهيمها على تراثنا الأدبيّ والنقديّ، بل إن بعضهم راح يقرأ بها النصّ القرآنيّ ذاته، ويستخدم آلياتها في تأويله ودرسه.

إنّ مجرد استحضار المرء لهذه الحقيقة عن طبيعة الحداثة وفلسفتها، وعن عدم وضوح مصطلحاتها ومفاهيمها حتى لدى النقاد العرب المتعاملين معها، المنبهرين بها، ليجعله يتخيل كيف سيتحوّل هذا التراث إلى ألعوبة في أيدي قارئيه بهذه المعايير الرجراجة المتغيِّرة باستمرار.

 


المصادر: 1- نعمان بو قرة، مقال "التصور التداولي للخطاب اللساني عند ابن خلدون، مجلة الرافد الإماراتية، عدد يناير، 2006م، ص: 83- 84.┇2- عز الدين المناصرة: علم التناصّ والتلاص، ص: 13 وما بعدها، الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة كتابات نقدية، القاهرة: 2011م.┇3- محمد عبد الباسط عيد، مقال "الخطاب النقديّ، التراث والتأويل، دراسة في نقد النقد" ص: 62، مجلة الرافد الإماراتية، عدد إبريل: 2013م.┇4- حمادي صمودي، مقال "النقد وقراءة التراث" ص: 44، مجلة تجليات الحداثة، جامعة وهران، العدد الرابع، يونيو: 1996م.┇5- طه عبد الرحمن: "تجديد المنهج في تقويم التراث" ص: 237 وما بعدها، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء: 2007م.┇6- برهان غليوم: "اغتيال العقل" ص: 281، دار التنوير، بيروت: 1987م.┇7- ديفيد هارفي: "حالة ما بعد الحداثة" ص: 24- 29، ترجمة محمد شيا، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت: 2005م.┇8- مجلة أدب ونقد المصرية، ص: 10، عدد مارس، 1985م.┇9- السابق"، ص: 45.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها