جودي.. فيلم عن مأساة نجمة!

د. بدر الدين مصطفى

جودي غارلاند Judy Garland


ثمَّةَ مقولةٌ شَائعةٌ مفادها "أنَّ هوليوود مكان تتحول فيه الأحلام إلى واقعٍ ثم يتحولُ فيه الواقعُ إلى كابوس!" في الواقع إذا أردنا مثالاً عمليّاً يبرهنُ على صدق هذه المقولة لكانت مسيرة المغنية والممثلةِ الأمريكية الراحلة جودي غارلند (1922- 1969) Judy Garland هي المثال الأكثر دلالة عليها. جودي غارلند هي موضوع الفيلم الذي اتخذ من اسمها الأول عنواناً له "جودي" للمخرج روبرت غولد، والَّذي عُرض في مهرجان تورنتو (سبتمبر 2019) وحَظي باستقبال جيد جدّاً من النُّقاد، توقع معه البعضُ اقتناص الممثلة الأمريكية رينيه زيلويغر للأوسكار الثَّانية في مسيرتها الفنية عن فئة أفضل ممثلة رئيسة، بعد حصولها على جائزة أفضل ممثلة مساعدة في العام 2004 عن دورها في فيلم الجبل البارد Cold Mountain. وحتى بعيداً عن موسم الجوائز اعتبر البعض أن أداء زيلويغر في جودي هو أفضل أداء تمثيلي نسائي في عام 2019.

 

الضَّعفُ، الانكسارُ، قلةُ الحيلة، المعاناة الرهيبة، كُلُّها سِماتٌ كان على زيلويغر تداركها باهتمام لتقديم الشخصية على النحو الذي يتشابه نوعاً ما مع المادة الأصلية التي كتبها التاريخ، في انتظار من يُقدر فحواها ويُعرفها للناس بأية وسيلة ممكنة، وعلى مستوى التاريخ الفعلي بدأت غارلند في الغناء مع أختيها، ثم وقَّعت مع شركة مترو غولدوين ماير في سن المراهقة عقداً بالغناء، وقدمت أكثرَ من اثني عشر فيلماً معها في ذلك تسعة مع ميكي روني. كان أشهر أدوار غارلند هو دور دوروثي في فيلم ساحر أوز (1939). وجاءت أدوارها الأخرى في أفلام مثل قابلني في سانت لويس (1944)، فتيات هارفي (1946)، عرض عيد الفصح (1948).
وبعد 15 عاماً، تحررت من عقد الاستوديو واتجهت إلى الغناء، وقد حققت رقماً قياسيّاً في الحفلات الموسيقية، وبدأت مسيرةً ناجحةً في تسجيل الأغاني، كما قدمت مسلسلها التلفزيوني الذي ترشح لجائزة إيمي، غير أن ظهورها في الأفلام بدأ يقل في سنواتها الأخيرة، وختمته بعرضين هما: ترشحها لجوائز الأوسكار في فيلم "ولدت نجمة" (1954)، وحكم في نورمبرغ (1961).
حصلت غارلند على جائزة غولدن غلوب، وجائزة أكاديمية الأحداث، وجائزة توني الخاصة، وأصبحت أوَّلَ امرأة وأصغر فائز في جائزة سيسيل بي ديميل لإنجازات الحياة في صناعة السينما، وذلك عن عمر التاسعة والثلاثين. كانت أول امرأة تفوز بجائزة غرامي لألبوم السنة لتسجيلها الحي "جودي في قاعة كارنيجي". في عام 1997، منحت غارلند جائزة غرامي لإنجاز العمر، كما أُدخلت العديد من تسجيلاتها في قاعة غرامي للمشاهير. وفي عام 1999، وضعها معهد الفيلم الأمريكي بين أفضل 10 نجوم من السينما الأمريكية الكلاسيكية.

غير أنَّ غارلند كانت تُعاني منذ سن مبكرة في حياتها الشخصية، حيثُ خضعت لجلسات نفسية في سن الثامنة عشرة بسبب ضغوط النجومية في سن المراهقة، وقد تأثرت صورتها عن نفسها من المديرين التنفيذيين الذين قالوا إنها غير جذابة وتلاعبوا بمظهرها على الشاشة، كما عانت من المشاكل المالية، وفي أحيان كثيرة كانت تدين بمئات آلاف الدولارات في شكل ضرائب رجعية. تزوجت غارلند خمس مرات، وعانت طويلاً من إدمان المخدرات والكحول، مما أدى في النهاية إلى وفاتها بجرعة زائدة من مخدر الباربيتورات في سن السابعة والأربعين.
مأساة جودي ليست استثنائية، فالعديد من نجوم هوليوود عانوا من إدمان المخدرات أو انتهت حياتهم بشكل مأساوي نتيجة الانتحار، وعادةً ما يكانون هؤلاء هم الأكثر شهرة وإنجازاً في جيلهم؛ مثل مارلين مونرو وفيليب هوفمان وروبن ويليامز فضلًا عن هيث ليدغر.

يركز فيلم جودي تحديداً على الفصل الأخير من حياة غارلند بعد انطفاء نجوميتها ومحاولتها توفير نفقات أسرتها الصغيرة ذات الثلاثة أفراد، ومنذ افتتاحية الفيلم، يعلم الجميع الأسباب التي دفعت جودي إلى حالة الاضطراب النفسي، فقد كانت تُعاني من الإحباط الهائل نتيجة انصراف المنتجين عنها وتوقفها عن العمل، عاجزة تماماً عن تأمين حياة كريمة تتناسب مع ما كانت تحظى به من شهرة ومع ما قدمته بالفعل في تاريخها. 

ونتيجة تراكم الديون المستحقة عليها من الضرائب، تلجأ جودي اضطراراً إلى مغادرة البلاد إلى لندن، حيثُ ما زالت تتمتع هناك ببعض الشعبية التي خفَّ بريقها داخل الولايات المتحدة، وحتى يتسنى لها كسب المال اللازم لنيل حضانة أولادها والفرار من أزماتها المتلاحقة، تترك أطفالها للإقامة عند زوجها السابق، وبحلول الوقت الذي تخطو فيه جودي عتبة لندن، يحاصرها الإدمان الزائد على الحبوب والكحول، نتيجة ابتعادها عن أطفالها، فتعاني من الأرق المزمن والشعور بالخوف الذي دفعها إلى حافة الجنون والشعور بالاضطهاد والعجز التام عن إحراز النجاح، حتى تتناول جرعة زائدة تؤدي إلى وفاتها.

تلك هي القصة الرئيسة للعمل والنقطة التي اعتمد عليها السيناريو في سرد تفاصيل ومقتطفات من وحي السيرة الذاتية لجودي، بجانب التطرق أيضاً إلي حياتها السابقة وقت شهرتها، واستعراض الضغوط الرهيبة، من شركة مترو غولدوين ماير، التي كانت تنصاع إليها قهراً على فعل ما لا تطيقه، حيثُ كانت الشركة تتحكم في شكلها وغذائها ولباسها وطبيعة حياتها، لكي تبقى صغيرة الحجم، وكانت تجبر على تناول أدوية منشطة لكي تستمر في العمل بدون توقف لساعات طويلة، وأدوية مهدئة لكي تنام، وأدوية أخرى لكبح شهوتها عن الطعام، مما أسفر عن إدمانها للمخدرات ومعاناتها من مشكلات نفسية، وفي النهاية إلى وفاتها.

محور العمل إذن هو شخصية جودي لهذا لن نلحظ سواها طوال الفيلم، وبالتالي جاء الخط السردي واحداً وغير متشعب. شخصية جودي هي جوهر العمل، وقد قدمها روبرت غولد بكامل تفاصيلها الدقيقة وأعطاها خط سير حدَّدَ بدايته ونهايته، لتُنسج من خلالها خيوط القصة كاملةً تعتمد في الأساس على معلوماتٍ واضحةٍ تنساب على إثرها كافة القرارات عفويةً كانت أم مدروسةً.

بالإضافة إلى تماسك الخط السردي، لم يتفرع الفيلم في خطوط زمنية متعددة بل توزع في خطين رئيسين؛ الراهن الذي يشمل الأزمة التي تتعرض لها بتفاصيلها وأحداثها التي أفضت إلى وفاتها؛ وهو الخط الأكبر بطبيعة الحال، وخط فرعي آخر يعود إلى الماضي، وقتما كانت جودي في قمة شهرتها، وقد سار الخطان بتوافق كبير ودون مبالغات أو ارتباكات في التنقل بينهما.
 

كان الفيلم عرضاً مبهراً للنجمة رينيه زيلويغر التي يعدُّ إتقانها للشخصية واحتفاظها بنفس الأداء الجذاب على مدار ساعتين من الزمن، إضافةً كبيرةً لمسيرتها المهنية التي شهدت بعضاً من التراجع سواء كان ذلك على صعيد الأعمال التي تشارك من خلالها أو باختيار الأدوار التي تناسبها وتناسب طموحاتها كنجمة ترغب في الحفاظ على بريقها من الفقدان. تقول زيلويغر، في حوارها مع البي. بي. سي، ردّاً على سؤالها: "هل مثل الدور تحديّاً بالنسبة لك، خاصةً أنكِ تمثلي دور ممثلة أُخرى؟ كان ذلك مبهجاً وكنتُ أرغب بقوة في القيام به. أردت أن أحكي قصتها وأن أحتفل بها على طريقتي. أردت أن تكون هناك إضافة في النهاية وبعد أن طويت آخر صفحة من كتاب حياتها، الذي خيمت عليه فكرة المأساة. أردت أن أكون جزءاً من هذا وكان هذا هو الجانب الأكثر أهمية بالنسبة لي".

لم تتقمص زيلويغر الأداء التعبيري والانفعالي لجودي غارلند، بل سيجدُ المشاهد أيضاً تَشابهاً واضحاً على مستوى التعبير الجسدي بين هُما، خاصةً حينما تقترب الكاميرا من وجه زيلويغر في لقطات قريبة جدّاً. هذا التشابه لا يقلل بطبيعة الحال من الطابع الخاص الذي ساهمت به في إضفاء قدر كبير من الواقعية والأداء الراقي داخل كافة فصول الفيلم.

في العام الماضي أثار فيلم بوهيميان رابسودي جدلاً كبيراً حول استحقاقه لجوائز الأوسكار التي حصل عليها (5 جوائز)، حيث رأى البعض أنَّ العمل في مجمله جاء ضعيفاً في مستواه، وأن الانحيازات الأخلاقية كانت هي السبب الرئيس في فوزه، وحيثُ إنَّ هذا الجدل لا محل له في جودي؛ لأن الفيلم يخلو في بنيته من ثغرات حقيقية تمس بناءه السردي، ولأن هذا البناء لا يتشتت أو يتفرع في خطوط زمنية مرتبكة، كما هو الحال في بوهيميان، فإن الكثيرَ من المتابعين قد رأوا أن فوز زيلويغر بالأوسكار الثانية بات أمراً محتوماً في حال ما إذا استند التقييم إلى معاييرَ فنيَّةٍ خالصةٍ.

أخيراً، وعبر التزامه بفصولٍ عدة من التسلسل الزمني للفصل الأخير من حياة جودي غارلند، يوفر فيلم جودي صورةً مُقنعةً للانحدار المأساوي لأحدِ أهَمِّ رُموز هوليوود النسائية في القرن العشرين، وهو بذلك يفتحُ مَنطقةً من البحث ما زالتْ بِكراً عن ما وراء صُعودِ الشَّخصيات وأُفولها.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها