وردة حمراء.. للرجل الأبكم

مفيد عيسى أحمد


لحظة وصوله إلى ساحة المدينة، كان ماسح الأحذية قد أسدل حواف قبعته التي تشبه قبعات صيادي السمك، ومسح ثلاثة أزواج من الأحذية. لقد اعتاد ذلك حين يبدأ العمل، بحيث لا يرى سوى الحذاء الذي يمسحه والأحذية التي تعبر أو تقف قربه، فلا شأن له بالوجوه.

وضع قدمه التي كان ينتعل بها حذاءً عسلي اللون على الصندوق، فانهمك ماسح الأحذية بمسحه؛ لينهي عمله بضربتين خفيفتين بالفرشاة على الحذاء، أنزل قدمه وانحنى وناوله أجراً مضاعفاً، ثم وضع يده على رأسه وأزاح قبعته إلى الخلف ليتيح له أن يراه، صعد بصر ماسح الأحذية من الحذاء العسلي إلى سروال كحلي اللون، ثم قميص أبيض مقلم بالأزرق، توقّف على الوجه الذي حولته ابتسامة لم يعتد عليها إلى شكل غريب هجين التعبير بين الكآبة والأمل.

 لم يعرفه لبرهة، لكنه ما لبث أن نهض نصف نهوض، رفع حاجبيه وفغر فاه قائلاً باستغراب:
- أنت.. ما هذا، ماذا جرى لك؟

ابتسم الأبكم، وأشار إلى وردة حمراء قانية مغروزة في عروة قميصه العليا وهمهم بسرور:
- إمممم ... آآآآآ

كان ذلك أكثر ما يمكن أن ينطق به الرجل الطويل الأعجف والأبكم، صديق ماسح الأحذية. ما لبث أن بدأ يشرح بحركات لجوجة فرحة عن الوردة. أحسّ أن ماسح الأحذية لم يفهم ما يريد قوله فجذبه من يده، نهض ماسح الأحذية متذمراً وخطا معه عدة خطوات، أشار الأبكم إلى مبنى في الجانب الآخر من الساحة، وبدأ يشرح بحركات تحاكي ما حدث، فهم أن هناك من رشقه بالوردة. أشاح ماسح الأحذية بوجهه، أشار بيده كمن يزيح شيئاً من أمامه وقال:
- دعك منها، ستودي بك، تأخذ شيئاً من نفسك وربما نفسك كلها، ثم تذبل وتموت، دعك من الوهم.

تجهّم وجه الأبكم وحاول أن يقول شيئاً، شوّح بيده بنزق وصدر عنه ما يشبه الزعيق:
- اعععععع.

مضى الأبكم وعاد ماسح الأحذية ليسدل حواف قبعته ويجلس خلف صندوقه.

هذه أول مرة يصل فيها متأخراً عن ماسح الأحذية. عادةً يصلان في نفس التوقيت يجلس قربه بانتظار أن تبدأ متاجر السوق بفتح أبوابها لينهض ويقوم ببعض الأعمال؛ يساعد بفتحها؛ يُخرج البضائع المخصصة للعرض إلى الخارج، يرش الماء ويكنس أمام محل؛ يمسح واجهة محل آخر، بعد ذلك يقوم بإيصال الطلبات لمن يكلفه بها. طيلة هذه الفترة لم يمسح حذاءه الأسود المشقق المعفّر ولو مرة واحدة، لم يكن يستحق ذلك، فقد كان يناسب ثيابه المدعوكة وهيئته الرثّة.

لكنه الآن يبدو مختلفاً، بثيابه النظيفة وشعره المصفف المثبت بالجل، بابتسامته التي لم تزل من عينيه طيف حزن مزمن.

انطلق يتجوّل في السوق مأخوذاً بالوردة الحمراء، يده تحيط بها كأنها تحتضنها مدارةً لها، يشرح كيف حصل عليها لمن يعرفه ولمن ينظر إليه ولو نظرة واحدة، يفعل ذلك بحماس وفرح عندما تكون أمامه امرأة من تلك اللواتي تثير فضولهن الوردة؛ فيتوقفن لمعرفة ما يريد التعبير عنه جاهداً بيديه وملامح وجهه، ثم يمضين بعد أن يرمقنه بنظرة شفقة أو كما ينظرن إلى شيء طريف.

ارتبك بالشرح أمام رسّام صادفه في السوق، أحسّ أنه لا يفهم ما يريد قوله وهو ينظر إليه نظرة استفهام نزقة، توقّف وهمّ بالابتعاد عنه، أشار له الرسام أن يتريّث ثم أخرج من محفظته ورقة بيضاء وقلم رصاص وطلب منه أن يعيد الشرح من البداية، وبدأ يرسم شرح الأبكم خطوة خطوة؛ يريه الرسم ويسأله إن كان هذا ما يريد قوله، انتهى الرسام والأبكم إلى لوحة صغيرة يبدو فيها رجل طويل أعجف يشبهه يخطو على الرصيف ووردة تتهادى من الأعلى ساقطةً عليه بمراحل. صفن الرسام قليلاً وقال في نفسه: لا يمكن لوردة حمراء أن تسقط من السماء، ولو سقطت على هذا الأبكم كما يقول؛ لا بد أن يكون من فعل ذلك ملاكاً. أكمل اللوحة برسم لامرأة فاتنة في أعلاها تشبه الشكل المألوف لرسوم الملائكة.

أصبح الشرح أيسر بمساعدة اللوحة، يبدؤه بوضع أصبعه على الرجل ثم يضرب على صدره ليقول: هذا أنا، ثم يكمل شرحه؛ كيف كان يعبر وكيف رمته المرأة المرسومة في أعلى اللوحة بالوردة، وفي الختام يشير إلى الوردة بحذر ورفق ويبتسم ابتسامة تحققت له رغبة كان يحلم بها.

كان على وشك أن يطوي اللوحة حين رأى وجه المرأة المرسوم يختلج بطيف ابتسامة ملغزة، ثم سرّت العينان بإيماءة خفيفة. توّقف عن الشرح، قرّب اللوحة إلى عينيه ثم أبعدها، هبّ واقفاً وهو يضحك ويغمغم بما يشبه الغناء؛ إنها هي وهذا وجهها الحقيقي، وجه من رمته بالوردة.

توقّف عن الشرح بسط اللوحة ليتأمل الوجه مليّاً وهو يهمهم، ثم أخذ يتمعّن في وجوه النساء اللاتي يعبرن السوق، تسوقه إلى ذلك لهفة غامضة ملحّة جعلنه يبقي اللوحة مفتوحة أمام عينيه ليلتقط الابتسامة التي تتكرر من وقت لآخر والتي تقول له: تعال إلي... تعال إلي.

انكمشت وريقات الوردة، بدأت تنثني على نفسها وتفقد بهاءها، نزعها الأبكم من عروة قميصه بحسرة ووضعها في زجاجة عبأها ماءً؛ حملها بيد وفي الأخرى اللوحة التي بدأت أيضاً تتجعد وتكلح. يتنقل في أماكن محدودة؛ يبسط اللوحة يتأمل وجه المرأة فيها ثم يطيل النظر في أوجه العابرات بصمت وسكون.

توقّف عن التجوّل في السوق، اقتصر على المرور بماسح الأحذية، يُتم مسح حذائه بصمت ثم يقصد المكان الذي رُمي فيه بالوردة، يبقى ساعات يتأمل اللوحة ثم يتفرّس في أوجه العابرات برجاء تفصح عنه عيناه الغائرتان.

غادر مكان وقوفه، وبدأ يصعد أدراج الأبنية المجاورة يدخل إلى المقاهي والمكاتب، إلى العيادات والمطاعم، ثم عاد إلى الوقوف في المنصف الكائن في وسط الشارع لينفرد عن المارين، في اليوم التالي بدأ يذهب ويجيء بحركة دائبة يقطع فيها أمتاراً قليلة في نفس المكان كأنه سجين دخل السجن للتو.

الوردة تزوي رويداً واللوحة تتحوّل إلى ورقة مهلهلة تكاد تتمزق والأبكم يرى ذلك بحسرة.

سقطت وريقاتها، تصلّب الساق وعرى الميسم فبانت مثل الأبكم نحيلة عجفاء، واللوحة فقدت قوامها وتهرأت، انمحت الخطوط وتقطّعت فتشوهت الملامح، أعادها الأبكم إلى عروة قميصه العليا وأبقى مزقة من اللوحة بيده تضم وجه المرأة.

أهمل مسح حذائه، طالت ذقنه، وبدا الإهمال على ثيابه، وتشعث شعره. عاد يمضي ساهماً في السوق لا يكلّم أحداً. ساق الوردة ما زال معلقاً بعروة قميصه العليا وقد أضحى عوداً يابساً، والمزقة التي تضم وجه المرأة لم يبق منها سوى فتات يضمه بقبضة يده.

لم يعد أحد يرى الأبكم، بحث عنه ماسح الأحذية في السوق دون جدوى، هزّ رأسه بأسى وعاد إلى جلسته خلف صندوقه، رفع حواف قبعته ليرى وجوه العابرين، وكلما وضع أحد ما حذاءه على الصندوق يتمعّن في وجهه قبل أن يشرع بعمله، أبقى حواف القبعة مرفوعة وهو يقول لنفسه:
- سيعود... بعد زمن لا بد أن يعود لنفسه، ويعود إلى هنا.

لم يعرف أحد كيف وصلت الوردة إلى الأبكم، لا هو؛ ولا حتى المرأة التي تعمل في صالون لتزيين وتصفيف الشعر في الطابق الثاني من المبنى الذي كان يمر قربه؛ كانت تجري مكالمة مع حبيبها تحولت إلى شجار صاخب صرخت خلاله:
- لم أعد أريد شيئاً منك، والوردة التي أهديتني إياها هذا الصباح لا أريدها، ولم تعد تعني لي شيئاً. قذفت الوردة من النافذة بغضب، في حين كان الأبكم يعبر تحتها تماماً.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها