أفلام السيرة الذاتية ودور الشخصيات المُتخيَّلة (المساندة)[1]

الجز الأول: الشعر فـي مواجهة السلطة

عبير نصر عامودي

لعلّ الشعر اللغة المصطفاة التي وحدها تمسّ الوجدان الإنساني بهدوئه وهياجه، فيبدو أشبه بأداة بلاغية ثورية لإحداث تغيير ما، وبالتأكيد الكلمة الأكثر تأثيراً هي التي تولد من رحم الفقر والبؤس لتسير في طريقها الطبيعي نحو العدل والحبّ والحرية فتتحول سلاحاً أبيض يقطع رأس الظلم والاستبداد، وكان صنّاع السينما أول من أدرك تأثير الكلمة في مواجهة السلطة الفاسدة، فأنتجوا أفلام السير الذاتية لكثير من المبدعين على مرّ التاريخ وعلى اختلاف فنون إبداعهم، ولعل أكثر القصص السينمائية التي تلامس الوجدان البشري تلك التي تكون مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالكلمة الحرة والتي تشكل منبراً حراً للشعوب المخنوقة، ويأتي الشعر في المقدمة كسيناريو خلاب لتتشكل -بفضله- سينما ساحرة أشبه بقطعة موسيقية خالدة.

ولعل أهم الشخصيات المؤثرة التي شغلت لبّ العالم في القرن العشرين كانت من نصيب الشاعر التشيلي بابلو نيرودا Pablo Neruda، وهو السيناتور الشيوعي الذي رشح نفسه إلى رئاسة الجمهورية قبل أن ينسحب لمصلحة رفيقه سلفادور ألليندي Salvador Allende، ومن هنا كرَّس صاحب «أغنية حبّ إلى ستالينغراد» نموذج الشخصية الجامعة لكل تناقضات النفس البشرية التي خلقت لنفسها عالماً قائماً بحدّ ذاته أثار حماسة الكثير من المخرجين لرصد حياة هذا القائد الثوريّ الرومانسي، ومن بين أهم الأفلام التي قاربت هذا العالم فيلم ساعي البريد الذي أنتج عام 1994، وفيلم نيرودا الذي أنتج بدوره سنة 2016.

فيلم (نيرودا) للمخرج التشيلي (بابلو لارين) عن نص كتبه (غيليرمو كالديرون)، جاء توثيقاً لحياة الشاعر مسنداً بشخصية رئيسة مُتخيَّلة تدعى (أوسكار بيلوشونوه)، وهو رئيس قسم التحقيقات السياسية في أجهزة الأمن التشيلية التي أبدع في تأديتها نجم السينما المكسيكي (غايل غاريا برنال)، والمكلّف بمطاردة الشاعر الشهير أثناء القمع الوحشي للشيوعيين، وبأمر مباشر من الرئيس التشيلي آنذاك (جابرئيل جونزاليس فيديلا)، والأحداث تجري عام 1948 أي بعد سنتين على فوز الشاعر بالانتخابات وبدعم من الشيوعيين، حيث يتحول بابلو نيرودا الذي لعب دوره الممثل (لويس جنكو) من وضع المعارض اليساريّ المحبوب إلى الخارج عن القانون المغضوب عليه.

وفي جوّ عبثي ما بين الواقع والمُتخيَّل تلتقي الشخصيات في لعب سينمائي ذكي، حيث تنتقل بخفّة من حدثٍ إلى حدثٍ في قصة مبتكرة شكلاً ومضموناً، كأننا في زيارة سحرية لذاك الزمان الذي يتخبط في دوامة التقلبات السياسية والفكرية مدعومة بتصوير سينماتوغرافي خلاب وموسيقى تصويرية تسلب الألباب، وتبقى شخصية الشرطي بيلونوشوه المحرك الرئيس للصراع المحتدم بين الطبقة العاملة التي يقودها الشيوعيّ الثوريّ، وبين السلطة الجائرة في حبكة غريبة عميقة ومشوقة في آن.

إذاً، ماذا يريد المخرج من قصة مُتخيَّلة أساسها الشاعر الشهير، والحامل الرئيس لأحداثها شخصية الشرطي (أوسكار بيلونوشوه) لرصد تقلبات تلك المرحلة الحزينة من تاريخ أميركا اللاتينية؟! بينما وفي ظل هذا الاضطراب والقهر بدا نيرودا أنه يعيش تفاصيله اليومية كأنه ليس المُطَارد، بل ظهر بشخصية السيناتور التشيلي الأقرب إلى يساريي الخمر والمُتَع، حيث كان يكتب الشعر وهو ملاحق لينجز (النشيد الشامل) ويعتبر الأهم في تاريخ الشعر الإنساني في القرن العشرين، وعنه حصل جائزة نوبل للآداب عام 1971، وفي مفارقة قلّ نظيرها في السينما العالمية بدت المُطاردة وكأنها تعطي الفيلم توتراً فنياً مشوقاً يجعل المُشاهد يقف مشدوهاً أمام قصة تُظهر المُطارَد بمنتهى الاسترخاء، وفي المقابل يظهر المطارِد بهيئته القلقة لينتهي بأن يموت ميتة بائسة لا بدّ تثير تعاطف المشاهد دون أدنى شك.

وبالعودة إلى أوسكار وهو الراوي في الفيلم، ما يجعله منطقياً وتقنياً البطل الأول متفوقاً بذلك على جاذبية حضور نيرودا، إذ لولاه ما تمّ تسليط الضوء على هذا الصراع الطبقيّ المحفوف المخاطر، حيث يعيش الشرطي القلق الوجودي -أسوة بالجماهير المخنوقة- وهو الذي رهن شرفه المهني للقبض على أكثر الشخصيات إثارة للجدل والاهتمام في بلاده، وبمحاولة غير مسبوقة يقدم المخرج فيلمه من وجهة نظر الشرطي الذي يظهر بهيئة البائس الأحمق قبالة الشاعر الساخر الذي يطغى حضوره على الجميع أينما حلّ، ورغم أن المشاهد من الطبيعي أن يتعاطف مع المناضل الشيوعي الأصيل والشاعر الجميل إلا أنه وبشكل غير مألوف لا بد سيتعاطف أيضاً مع الشرطي الذي عاش حياة بائسة ومات مغموراً في الثلوج عند جبال الأنديز، بينما ينجح نيرودا في شقّ طريقه إلى أوروبا.

من الواضح –رغم وهميّة وجوده- أنّ بولوشونوه شخصية غنية ذات أبعاد كثيرة، وهو ابن بائعة هوى يعيش بدوره صراعاً بين أهوائه الداخلية وبين انضباطه المهني، بين كونه الشخصية الرئيسة في القصة أو الثانوية مدعّماً حضوره بسحره البارد ونظرته السارحة لتجعل منه شخصيةً أقرب للبلاهة مقابل اللمعان البراق للمثقف اليساري، وكأنّ المخرج ابتدع هذه الشخصية لرصد الصراعات البشرية بين الرذيلة والفضيلة وبين الخير والشرّ، وهنا تكمن قيمة العمل الذي يأتي فيه الشاعر الشيوعي الشهير كقيمة جمالية وفكرية تظلّل جميع الصراعات الدائرة داخل الفيلم.

ورغم هذه المطاردة الحثيثة والضغط الخانق يعيش المنفيّ العاشق حالة استرخاء يكتب خلالها أحلى الشعر الذي يجيش مشاعر الشعب المكبوت، وفي مشهد ساحر بين زوجة نيرودا الأرجنتينية (ديلي أديل كاريل) التي أدت دورها (مرسيدس موران) وبين الشرطي أوسكار، أفصحت وبشكل مباشر للأخير أن نيرودا يجد متعة خالصة في لعبة المطاردة كما لو كانت من بنات أفكاره، والتي تؤكد على عظمته قبالة ضآلة حجم الشرطي الذي جيّش ثلاثمائة جندي للقبض على الشيوعي الثوري، ولم تكن الغاية من هذه المفارقة الطريفة إرضاء غرور الشاعر النرجسي فقط بل إسقاط الضوء على حالة الديكتاتورية العسكرية الناشئة، والتي كانت تطال المحركين لمستنقعات القهر والعبودية والفقر، وهذا يُحسب للمخرج العبقري.

وهكذا سيجد المُتلقي نفسه ومنذ المشهد الأول أنه المعنيّ الأول بكل هذه الصراعات؛ لأن كل ما سيحدث سيمسّ وجدانه الإنساني، ولم تكن فكرة المُطاردة سوى فخّ مقصود لإزاحة الغطاء عن الصراع الشرس بين طبقة المثقفين الثائرين، وبين طبقة السلطة الفاسدة الذي لم يتوقف يوماً، ولهذا لقي الفيلم ترحاباً جماهيرياً بل ونقديّاً كذلك ليصبح واحداً من أبرز الأعمال السينمائية لعام 2016، والذي خوّله هذا الترشيح ليتنافس باسم تشيلي ضمن جوائز أوسكار لأفضل فيلم أجنبي غير ناطق بالإنكليزية.

إذاً، يتضح السبب من وجود شخصية (أوسكار بيلوشونوه) في فيلم محمّل بالكثير من التساؤلات والتقلبات في عصر شاعر معشوق من كافة فئات الشعب، والذي سيبقى وحده في ذاكرة العالم وسيمضي الآخرون لا شكّ، لم يكن سيرةً ذاتية بالمقاييس الاعتيادية لهذا النوع من الأفلام، بل قصةً غير اعتيادية تمزج الواقع بالخيال بطريقة لا تخلو من الفكاهة في بعض المشاهد، وكأنها طريقة تجريبية للحديث عن الظروف التي عاشها شاعر شهير لم يكن هو المعنيّ المباشر بالقصة على ما يبدو، إنما الصراع الطبقي الذي رسّخ تفاصيله الشرطي البائس، ليشكل وجوده في الفيلم ثقلاً فنيّاً لا يُستهان به، بينما يظهر نيرودا كالفراشة تتنقل بخفةٍ محبّبة من مكان لآخر داخل أكثر الفصول السياسية عتمة في تاريخ دول أميركا اللاتينية.

ومقابل ذلك تظهر شخصية رئيسة أخرى -قد تكون مُتخيّلة بدورها- في الفيلم الإيطالي (ساعي البريد Il Postino)، الذي أُنتج سنة 1994 للمخرج البريطاني (مايكل رادفورد)، وعن رواية (الصبر المحترق) للكاتب العبقري (أنطونيو سكارميتا)، والفيلم يتحدث عن علاقةٍ متفرّدة في سحرها تنشأ بين (نيرودا) الشاعر المنفيّ، والذي لعب دوره بحرفيةٍ عالية الممثل الفرنسي الراحل (فيليب نواريه)، وبين ساعي بريد يدعى (ماريو روبولو ) ليؤدي دوره –بأناقةٍ ملفتة وطرافةٍ غير مسبوقة- الممثل الإيطالي الراحل (ماسيمو ترويسي)، الذي شارك في كتابة السيناريو والذي -ولسوء الحظ- يموت بعد يوم واحد من التصوير.

هذه العلاقة الرائعة شديدة الأصالة في شكلها الفني ولغتها السينمائية المعبرة التي نشأت على جزيرة سالينا الإيطالية وهي المنفى للشاعر الشيوعي، رشحت الفيلم لثمانية عشرة جائزة عالمية، كما رشحته خمس مرات لجائزة أوسكار (أفضل فيلم، أفضل إخراج، أفضل تمثيل رجالي، أفضل سيناريو، أفضل موسيقى)، وقد نجح في الحصول على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي عام 1995.

إنها قصة حبّ بكل المقاييس يسير خطها الدرامي بأسلوب بديع متناسق تحت مظلة الأدب والفنّ والسياسة والفكاهة والجمال والحزن، مدعوماً بقوة أداء ممثليه ومناظر الجزيرة الخلابة، ولن ننسى طبعاً القيمة الجمالية التي أضافها السيناريو المشرع على جميع الجوانب الإنسانية والإبداعية، وتجري أحداث القصة على جزيرة إيطالية يلجأ إليها الشاعر التشيلي كمنفى للابتعاد عن المشكلات السياسية في بلده، وهنا تبدأ العلاقة -بإيقاع متوازن رغم الفوارق العظيمة بين بَطلَي الفيلم- بين ماريو وهو ساعي بريد خجول وبسيط، وبين أهم رموز الثقافة الثائرة ضد جميع أشكال القمع والاستبداد في القرن العشرين.

نعود لنفس التساؤل السابق: ما هي الغاية من وجود شخصية ساعي البريد كحامل أساسي للحدث في سيرة ذاتية لشاعر الحبّ والثورة؟! لكن في البداية دعونا نلقي الضوء على (ماريو روبولو) الذي يتحول من صياد جبليّ مهمّش إلى ساعي البريد الخاص بنيرودا في صدفة غير متوقعة، ومع الوقت تنشأ علاقةٌ تجسّد كل المشاعر الإنسانية بين الرجلين، لتنساب الأحداث برومانسية بديعة رغم قسوة الظروف التي تحيط بالشاعر المنفيّ، والسيناريو الرفيع المستوى يعزز جمال كل العناصر الأخرى.

والجميل أنّ الفيلم لا يخسر إيقاع التوازن أبداً، بحيث تراه مستمراً منذ البداية وحتى النهاية بين الجبليّ الذي يعشق الشعر وامرأة أحلامه باتريشا فقط، وبين الشاعر الثوريّ الواقع في حبّ الحياة بكل تفاصيلهاعلى الرغم من تفاوت ثقافتهما وخبراتهما في الحياة، ضمن قالب سرديّ غنيّ غاية في البساطة، أعطى الفيلم صفة السهل الممتنع وهذا ما خوّله ليسجّل في قائمة كلاسيكيات السينما العالمية.

للمرة الثانية يأتي فيلمٌ ليجمع بين الواقع والمُتخيَّل، متكئ على شخصية نيرودا الحقيقية فاسحاً المجال أمام الحضور الطاغي لشخصية ساعي البريد بكل أبعادها الإنسانية والأخلاقية، رغم سعيها الدؤوب لكسب ودّ الشاعر الشهير في زياراتها المتكررة محمّلة برسائل المعجبات، ويمتدّ هذا البعد الرومانسي الجميل بعد ظهور شخصية الجميلة باتريشا التي لعبت دورها (ماريا جرازيا تيوسنوتا)، حيث يقع ماريو في شباك حبها وجمالها وبتشجيع من الشاعر يتقدم للزواج منها.

وبالتقرب من الجوّانيات العميقة لشخصية ساعي البريد الذي لا شك أثار مشاعر المشاهدين وتعاطفهم، والمتدفق حضوره في الأحداث بأسلوب دافئ بينما يعاني المرارة والخذلان والتهميش، وبعدما يرى نيرودا يراقص زوجته بعيون تفضحها الشهوة، يقرر أن الشعر سبب كل هذا، فيحاول تعلّم خلق القصيدة ويفاجئ نيرودا بأنه يملك موهبة خام تخوّله الكتابة، وهكذا يتصاعد الخط الدرامي لشخصية ماريو التي تعكس قيمة فكرية لفيلم يتحدث عن الحبّ الذي انساب كقصيدة رقيقةٍ خالية من المجاز بتأثير شاعر منفيّ بفعل الديكتاتورية العسكرية.

إذ ثمة خيط رفيع يربط بين قصة الحبّ الجامحة وبين التاريخ السياسي المؤلم، وجاءت عبقرية المخرج في الحفاظ على هذه التوليفة الحساسة لتصدير قيمة فنية وفكرية وإنسانية تتمثل في إظهار أهمية المثقفين الثوريين في حياة الشعوب المكبوتة وأيضاً أهمية الحبّ في التمرد على الذاتفي لحظات شديدة الحساسية والانفعال، هذه الصيغة السينمائية التي جمعت بين التوثيقيّ الواقعي وبين السينمائي المُتخيّل -مدعومة بتقنيات التصوير الخلابة والموسيقى المنسابة مع تصاعد الحدث الدرامي- بدتْ وكأنها الديكور الخاص بشخصية ساعي البريد، الذي يتحول من صياد غير متكلف يبحث عن اللحظة الشعرية في جزيرة منسية، ليقع في فخ السياسية التي تؤدي إلى هلاكه.

أخيراً، يتمكن التلميذ من القبض على مفاتيح المجاز الشعري ليجعله بوابةً للوصول إلى قلب باتريشا، التي أخذتْ بأنفاسه عندما التقاها في المطعم الذي تعمل به، لتصبح لاحقاً مأخوذة بشاعرية الشاب البسيط الذي يتكلم المجاز لمداراة خجله، بينما ترى (دونا روسا) صاحبة المطعم أنّ الكلمات هي أسوأ شيء على الإطلاق، وتفضل أن يلمس مؤخرة باتريشا سكيرٌ على أن يقول لها أحدهم الشعر، في إشارة إلى أن الكلمة هي مفتاح الكون، وهي بوصلة كل الأحاسيس البشرية والمنبر الحيّ لكل الأسئلة الوجودية.

إذاً، يتحول ماريو من صياد مهمّش إلى ساعي بريد شبه أمي إلى شاعر شغوف، يؤمن أنه وجد هدفه في الحياة أخيراً بعدما أدرك قيمته كإنسان بفضل معلمه، ورغبته في تحدّي الفاشية التي صفق لها الجيل الذي سبقه، وبعد عودة نيرودا إلى تشيلي ينقطع الخيط الذي يصله بالتلميذ النجيب، ليبقى الأخير وحيداً ينتظر أي رسالة تأتيه من قدوته العليا، ويمر الوقت ليغرق ماريو في مستنقع الروتين الزوجي مكرساً حياته للعناية بزوجته وطفله القادم، ورغم الخذلان -بعدما انقطع نيرودا عن مراسلته- إلا أنّ الأخير غدا الصوت الحقيقي الذي يضجّ في أعماقه ليكتشف من خلاله عمقَ انتمائه للزمان والمكان.

وعندما يرغب ماريو في قراءة قصيدته في إحدى المهرجانات، تقتحم الشرطة المكان ويقتل قبل أن يسمع الناس نشيده المُهدى إلى معلمه، وبعد عودة نيرودا إلى الجزيرة بعد سنوات خمس من الغياب يستمع إلى الأصوات التي سجلها ماريو، صوت البحر الذي يضرب الشاطئ كعصا لئيم والنوارس التي تزعق وجرس الكنيسة الذي ينذر لشدة توتره بشرّ قادم، كأنّ كل هذا المجاز الحقيقيّ في قصيدة الحياة الخالدة.

وهنا نرى الغنى الذي أضافته شخصية ماريو إلى فيلم غاية في البساطة والجمال، بسردية بصرية لن تخدع مشاعر المشاهدين أبداً، لكن هل تفوق التلميذ على أستاذه عندما اتكأ المخرج على شخصية ليس لها مرجعية في الواقع؟! شخصية أضاءت كل عناصر الحياة من الحبّ والشجاعة والشعر والتواضع والوفاء والخذلان إلى السياسة والألم والمنفى والديكتاتوريات العسكرية وحتى الفكرية، ليغدو نواة السرد في فيلم أقل ما يقال عنه أنه رائع، قد لا يكون تعليمياً أو توثيقاً لكنه بالتأكيد حقّق المتعة في أرقى صورها.

وكان للشاعر التشيلي ذو الشخصية الجدلية -وفي كلا الفيلمين- دوراً مهماً في تطعيم فضاء الحدث بفاكهةٍ لذيذة، لكن الثقل الحقيقي الحامل لكل الأحداث كان لشخصية ساعي البريد (ماريو) ولشخصية الشرطي (أوسكار)، ليكونا شاهدين على زمن احتدمت فيه الصراعات ليست السياسية والفكرية فقط، بل الإنسانية والأخلاقية أيضاً، وما يشدّ المشاهد إلى مناخ الفيلمين ليس السيرة الذاتية لأهم شعراء القرن العشرين ولا الأيديولوجيات والديكتاتوريات المتأصلة آنذاك؛ إنما الثورات التي تضجّ في البواطن البشرية وأساسها الحبّ مهما اختلفت مستويات الوعي بين البشر.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها