
في ذكرى رحيله نتذكر تفرده الفني وعطاءه الإنساني الكبير، فهو مُلحن وموزع، وكاتب وقائد أوركسترا.. موهبة لبنانية متعددة الأركان، استطاعت أن تخاطب العالم شرقاً وغرباً بلغة الموسيقى، خرجت من قرية أنطلياس عام 1938 ولم تحدها حدود أوطان، ولن تتوقف عند عام 2021.
إنها الموهبة المصقولة بالثقافة والعلم الموسيقي الراحل إلياس الرحباني، الذي وُلِد في 23 يونيو 1938، وتوفي في 4 يناير 2021، وحملت حياته بين هذين التاريخين موهبة قوية تمتزج بقناعات وأهداف إنسانية حقيقية، فقد آمن الموسيقي المثقف بأن الموسيقى ستكون فيما بعد سبباً مهماً في شفاء الأمراض المستعصية، فقد كان على إيمان شخصي بأن معادلة الموسيقى والمحبة بإمكانها أن تمنح الأرض السلام، فالمحبة تخفف على الجهاز العصبي جزءاً كبيراً من الحِمل المرضي في الجسد، حيث ترتبط أغلب أسباب الأمراض الجسدية ارتباطاً وثيقاً بالضغط الواقع على الجهاز العصبي، وبالتالي فعندما يتخلى الإنسان عن الكُره والحقد اللذين هما وقود إثارة الجهاز العصبي، ويتحلى بالمحبة وقبول الآخر، ويأتي مع هذا المنهج الفكري والسلوكي الاستماع إلى الموسيقى الراقية التي تُعزز انسيابية هذا الشعور في نفس الإنسان، وتساعده على تقدير هذا الشعور وتمكينه من النفس، بنغماتها التي ترسخ ذلك في وجدانه؛ فإن الموسيقى يكون لها دور حقيقي وفعّال في نشر السلام والمحبة في حياة الناس بشكل فردي وجمعي.
ولقد ذكر إلياس أن هذا الفكر تعضده الأبحاث العلمية، وكذلك شواهد التجارِب والمواقف الحياتية التي تؤكده، مثل تأثر النبات ومدى صحة نموه بالاستماع للموسيقى، وإدرار البقر وغيرها من الحيوانات لحليب أكثر عند الاستماع للموسيقى، وكذلك يوجد تأثر مزاجي حقيقي للأطفال في المرحلة الجنينية وفي سنواتهم العمرية الأولى، مما يساهم في تشكيلهم النفسي، فهو يرى أن الموسيقى هي عطية خاصة من الله دورها أن تؤثر بإيجابية على الإنسان، وتكوينه النفسي، وستكون إحدى العلاجات القوية في الأمراض المزمنة في السنوات القادمة.
وهذا يعكس سبب تأثره الكبير بالموسيقى الرومانسية الأمريكية والأوروبية، التي ظهرت بعد الحرب العالمية، وكانت تحمل قدراً كبيراً من مشاعر الحب والسلام في نغماتها إلى العالم، بعد أن أُشبِع بفجاجة الحروب ونتائجها، ولقد رأى أن تلك الموسيقى كانت وستبقى أعظم موسيقى أنتجتها الأرض، لذا انعكس هذا التأثر على موسيقاه التي اتسمت برومانسية حالمة تنشر السلام في نفوس مستمعيها.

ومن هذا المنطلق الفكري والعاطفي، والمنطق الثقافي الذي يحمل سمة إنسانية وثقافية خاصة، انطلقت موهبة الموسيقار الراحل إلياس الرحباني، ثالث أركان مدرسة الرحابنة الموسيقية، فهو شقيق الراحلين عاصي ومنصور اللذين كان لهما الفضل في تعلقه بالموسيقى في سن صغيرة حتى شُغِف بها، وكان إلياس يصغر شقيقه عاصي بـ13 سنة، وشقيقه منصور بـ 15، وكان بنظرهما الشقيق الصغير، المتأخر عن مشروعهما الذي بدآه معاً، فلم يكن له نفس المكانة بالنسبة لكل منهما في هذا المشروع، لكنهما ساعداه في دراسة العلوم الموسيقية داعمين إياه، وشاركهما في بعض الأعمال فيه.
وتلقى إلياس دروسه الموسيقية أكاديمياً على خلاف الأخوين، في الأكاديمية اللبنانية أولاً ثم في المعهد الوطني للموسيقى، وقد تخرج عام 1956، علاوة على تلقيه دروساً في الموسيقى طوال عشرة أعوام تحت إشراف أساتذة فرنسيين، وبالرغم من أنه أصيب في يده اليمنى إصابة بالغة في إصبعه، أوقفته عن العزف مؤقتاً، وكان من شأنها أن توقفه عن التعلم نهائياً، إلا أن شغفه بالموسيقى كان أكبر من أن تعيقه هذه الأزمة، فلم ييأس وأصر على استكمال التعلم بيده اليسرى، ومن ثَمّ اتجه إلى التأليف الموسيقي.
وفي عام 1958 تعاقدت معه هيئة الإذاعة البريطانية (الفرع اللبناني)، لتلحين 40 أغنية و13 برنامجًا، وكان هذا أول عمل رسمي له وهو لم يتعد سن العشرين، وقد لاقت أعماله ترحاباً كبيراً في الأوساط الموسيقية والفنية.
أما عام 1968 فكان بمثابة نقلة فارقة في حياة إلياس، حيث تعتبر بوابة خروجه إلى عالم الاحتراف الحقيقي، فقد بدأ في التعاون مع كبار المغنيين والموسيقيين، كان بعضهم ينتمي إلى مدرسة الأخوين، ومنهم المطرب الكبير نصري شمس الدين، الذي لحن له أغنية "ما أحلاها"، كما كان مخرجاً ومستشاراً موسيقياً في إذاعة لبنان، وكان لعمله في إذاعة لبنان فرصة كبيرة لفتح مجال التخصص أمامه في الشؤون التقنية، خاصة تلك التي تتعلق بعالم "الأستوديو" والإخراج والإنتاج، وما لبث أن تعاون مع شركات لإنتاج الأسطوانات، وتعرّف وقتها على "نينا خليل" التي أصبحت زوجته وأم ولديه.

وكان لهذه الموهبة العبقرية إنجازٌ ضخم في الإبداع الموسيقي، حيث لحن ما يزيد عن 2500 لحن من الأغنيات والمعزوفات المتنوعة، وألف 25 موسيقى تصويرية لأفلام ومسلسلات، من أشهرها موسيقى الأفلام المصرية، مثل فيلم: "دمي ودموعي وابتسامتي"، و"حبيبتي"، و"أجمل أيام حياتي"، والمسلسل اللبناني "عازف الليل".
وكانت أبرز ألحانه لمغنيين هي التي لحنها للسيدة فيروز، وقد جاءت مميزة، وتحمل طابعاً خاصاً من البهجة، مثل: "كان عنا طاحون، كان الزمان وكان، "طير الوروار"، "جينا الدار"، وقد لحَّن أيضاً عدداً من الأغنيات المتميزة للفنانة صباح، مثل: "كيف حالك يا أسمر" و"ياهلي يابا" و"شفته بالقناطر"، كما غنى من ألحانه عدد من الفنانين مثل: ماجدة الرومي، ووديع الصافي، وملحم بركات، ومن الجيل الحديث باسكال صقر وجوليا بطرس.
ولم يقتصر تاريخ الرحباني على الموسيقى وحسب؛ وإنما قام بتأليف العديد من المسرحيات، مثل: "سفرة الأحلام"، و"وادي شمسين"، كما أصدر كتاب "نافذة العمر" عن الشعر، كما قدّم إلياس الرحباني أناشيد وطنية وحزبية لمعظم الأحزاب اللبنانية، بالإضافة إلى العديد من الأغاني للجيش اللبناني، وهو الفنان الوحيد الذي أصدر عملاً فنياً خاصاً يحكي عن حرية الصحافة والإعلام، تضامن فيه مع موظفي الإذاعات والتلفزيونات، حين صدر قانون الإعلام في لبنان، والذي قضى حينها بإقفال عدد كبير من الوسائل الإعلامية، وأجلس الكثير من الموظفين في منازلهم وضمهم إلى العاطلين عن العمل.
وقد ألَّف ولحّن نشيداً لمناسبة زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر إلى بيروت في شهر أيلول/سبتمبر عام 2012، حمل عنوان "سلامي أُعطيكم"، وهو العنوان نفسه الذي اختاره البابا للزيارة، كُتِب باللبنانية والفرنسية، وقد اختارته اللجنة المنظمة ليكون النشيد الرسمي لهذه الزيارة.
إن هذا المبدع الذي يجسد موسوعة موسيقية وفنية في لبنان والعالم العربي والغربي، كان له تحدٍ خاص به، يواجهه بعيداً عن مشروع شقيقيه الأخوين الرحبانيين الموسيقي والفني بشكل عام، وبالفعل استطاع أن يثبت بجدارة، مدى تفرده الفني وموهبته الخاصة التي وضع بصمتها في كل عمل قام به، سواء في لبنان أو فرنسا أو حتى اليابان، وأي بلد آخر قدَّم فنه فيه، فكما يقول النقاد أن مقطوعاته الموسيقية متعددة الأجواء والأساليب، وتتراوح بين الأصالة اللبنانية والمناخ الموسيقي الحديث الغربي والشبابي، بين الطابع النخبوي والطابع الخفيف، وقد حققت أغان له ومقطوعات، شهرة كبيرة وتركت أثرها في الذائقة الشعبية والعالمية، فالعبقري إلياس قد تمكن من أن يكون رحبانياً ولكن ليس بالمعنى الذي فرضته مدرسة الأخوين، وفي نفس الوقت لم يكن غريباً عنها.
وقد اتجه إلى تلحين أغنيات بالفرنسية والإنجليزية، متبعاً طريق الموضة الغنائية الرائجة وقتها، كما أنجز أغنيات "الفرنكو آراب"، التي كانت تلقى بخفة ظلها رواجاً لدى جيل الشباب، كما نجحت أيضاً موسيقاه الإعلانية، وتمكنت من فرض نفسها وخصائصها، نظراً لصدورها عن فنان يمتلك أصول التلحين، وبهذا التميز والنجاح خاض إلياس عالم الموسيقى الإعلانية بشجاعة وقوة تأثير، حتى إنه أسس مدرسة في هذا الفن، ويُذكر أنه حوَّل مرة لحناً إعلانياً (باريلا معكروني) إلى أغنية للمطربة صباح (وعدوني ونطروني)، فلقت نجاحاً كبيراً وأحدثت جدلاً واسعاً في نفس الوقت حول قضية هي: هل يحق للملحن أن يحول لحناً إعلانياً إلى أغنية؟!
لقد تميز هذا المبدع ذو الطراز الخاص بروح المغامرة والتنوع في الإنتاج الإبداعي، ولكنه مع كل هذا لم يتخل أبداً عن بصمته الفكرية وهدفه الإنساني طوال مشواره الفني، فقد بقيت تلك الخصائص في كل أعماله مهما كان سياق اللحن المُقدَّم فيه، ومهما كانت البلدة التي تسمعه أو تنتجه، وكان هذا الهدف صادقاً ورسالة حقة تتماشى مع شخصيته المُحبة المعطاءة، التي عكست ما بداخلها على ثمار إبداعها، واستمرت في مصدقيتها حتى نهاية أيامها، وقد صدقَّت على هذا إحدى رفقاء دربه في الحياة الشخصية والفنية السيدة فيروز، في رثائها له حيث قالت "هجروا الأحبّا الحَارة".